العدد 1668 - السبت 31 مارس 2007م الموافق 12 ربيع الاول 1428هـ

«نوروز» الشرق تحت المجهر

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

ثمة مناسبات تحتفل بها الأمم والشعوب لا يتجاوز عمرها فترة حكم أمير، أو عهد نظام حكم ما، أو حقبة تاريخية معينة، ثم ما تلبث ترحل عن ذاكرة الناس وتصبح في أرشيف الزمان.

بالمقابل ثمة مناسبات أخرى تمر القرون تلو القرون عليها وهي «صامدة» كالأوتاد في مكانها تمخر على امتداد الأزمان في مراكب التاريخ وتتسع كالدوائر البحرية المتوالية في عرض الجغرافيا.

أعياد «نوروز» الإيرانية هي من النوع الثاني.

فعمر هذه الاعياد التي تتجاوز الـ 2500 عام كحد أدنى مدون لها عاصرت كل العهود الإيرانية بامتياز منذ الأخمينيين والساسانيين قبل الإسلام مرورا بعهود الإسلام الراشدة والأموية والعباسية والسلجوقية والبويهية و... والعثمانية والصفوية والقاجارية والبهلوية وصولا إلى عهد الإسلام الخميني الحديث وأخيرا بعهديه الإصلاحي والمحافظ بامتياز أيضا.

فمنذ عهد الاخمينيين والإيرانيين كافة بل ومعهم كل من ينتمي إلى الثقافة الإيرانية على امتداد الشرق الكبير يحتفلون في يوم الحادي والعشرين من مارس/ آذار من كل عام - في هذه السنة في العشرين منه باعتبار أن السنة الشمسية كبيسة هذا العام - بعيدهم الوطني والقومي و»الديني» والذي يطلقون عليه اسم عيد الـ «نوروز» أي اليوم الجديد باللغة الفارسية؛ إذ تتعطل الحياة الإدارية والسياسية وجميع الأنشطة الحكومية لمدة أسبوعين متتالين تطغى خلالها الحياة المدنية - الأصلية الاجتماعية الشعبية على كل ما عداها ويكون «السفر» هو الحال الجامعة لحركة الفرد الإيراني باتجاه الطبيعة وتعالي الروح وسموها عن الحياة الاعتيادية المترافقة مع ضجيج العمل اليومي طوال العام.

ثمة من يرجع التاريخ لهذا اليوم بمثابة عيد وطني إلى الأساطير الإيرانية الفارسية القديمة في عهد انتشار دين زرادشت المجوسي الشهير، وثمة من يربط بداياته بالعائلة الحاكمة الملوكية الضاربة في تاريخ الحضارة الفارسية القديمة، وثمة من يعطي الفضل فيه للعلماء الذين اخترعوا التقويم الشمسي المرتبط بتلك الحضارة العريقة اعتمادا على تحويلات الطبيعة والنظام الشمسي والأبراج الاثنتي عشرة. وثمة من قرأ فية ارتباطا وثيقا بمواقيت تحصيل الخراج من المزارعين وتنظيم المواسم الاقتصادية للامبراطورية الفارسية القديمة.

لكنه ومع ذلك كله فقد استقر منذ العهد السلجوقي وتحديدا منذ زمن جلال الدين ملك شاه ؛أي في العام 468 هـ، ليصبح احتفالا شعبيا ثابتا واسع الانتشار يبدأ مع فصل الربيع لا يتغير بتغير الملوك ولا المواسم الزراعية ولا التفسيرات النجومية كما كان يحصل من قبل، بل صار له توقيت رسمي ثابت يصادف في كل عام لحظة تحول الشمس من برج الحوت إلى برج الحمل، ومنذ ذلك الحين وهذا العيد «القومي» الإيراني يمتد ويتسع ليشمل أقواما ومساحات «دينية» وعرقية جغرافية ليصبح جزءا لا يتجزأ من تراث ومناسبات العراق وسورية وتركيا وبلاد آسيا الوسطى والقوقاز وبلاد الأفغان وصولا إلى شبه القارة الهندية وحدود الصين العظيمة.

ما هو الجديد في أعياد «النوروز» لهذه السنة هو إعلان مجلس بلدية طهران الإسلامي «المحافظ» بانه و»نزولا عند رغبة الشعب» قرر اختيار 40 نقطة في طهران العاصمة ؛لتكون مراكز لتنظيم احتفالات ليلة «الاربعاء الحمراء» الشعبية ،وذلك من «أجل التخفيف من الأضرار التي عادة ما تنجم عن الاحتفال بهذه المناسبة وتأمين السلامة العامة».

واحتفالات ليلة الثلثاء على الأربعاء أو ما يسمى بالفارسية بـ «جهاد شنبه سوري» أي الأربعاء الحمراء والتي تقام في آخر ليلة الأربعاء من العام الشمسي الإيراني عبارة عن احتفالات شعبية عارمة تقام في جميع الأزقة والشوارع وأماكن التجمّع العامّة عبر اشعال النيران والقفز فوقها ويقال لتطهير الأبدان والأرواح من الشرور، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفة أعياد النوروز والربيع الإيرانية، يرافقها طبعا استعمال انواع المفرقعات كافة، وهي فرصة يخرج فيها الشباب غالبا فتية وفتيات عن طورهم ؛ليمارسوا درجة ما من درجات «الحرية» الاجتماعية تتفاوت من بلدة إلى بلدة ومدينة لمدينة وأحيانا من حي لحي أو شارع لشارع.

وعلاقة النار مع دين زرادشت معروفة للجميع في إيران، وهي علاقة روحية ودينية توحيدية كما يقول أتباع زرادشت إذ إنهم يقولون: إنها ترمز إلى النور والضياء الرباني الأزلي، على رغم كل يشاع عنها في البلاد العربية بأنها ترمز إلى عبادة «النار» بحد ذاتها ما يجعلها عرضة لشبهة الشرك!

المهم في الموضوع بالنسبة إلينا ليس الجانب العقائدي، بقدر ما نحن بصدد التأمل فيه من الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي، فإن يعترف الإسلاميون محافظون وإصلاحيون بأهمية هذا العيد ويقرون بضرورة العمل بمراسيمه كما قرر المجلس البلدي لطهران «المحافظ» أو أن يذهب أحد رجالات الإصلاحيين ليقول بمناسبة مرور ثلاثة آلاف عام على ديانة زرادشت «بأنه لا يمكن أن يتصوّر إيران من دون زرادشت ولا زرادشت من دون إيران». كما ورد على لسان محمد علي أبطحي مساعد رئيس الجمهورية الإيرانية قبل أشهر، فإن ذلك يؤكد موضوعة في غاية الأهمية وهي أن مناسبة كمناسبة نوروز وثقافة من نوع ثقافة زرادشت ورموز وسلوكيات وعقائد وأعراق وتقاليد عدة أخرى لدى شعوب أخرى، غالبا ما تبقى محفورة في ذاكرة الشعوب لا يمكن لأحد تجاوزها أو انكارها أو التطاول عليها تحت أية ذريعة كانت؛ لأنه مهما فعل وأيا كان الوقت الذي صدفه من أجل «تجميدها» لابدّ أن يأتي الوقت الذي سيضطر للاعتراف بها والإقرار بها، لذلك فإن الأفضل والأنجح هو الاعتراف بها كما هي أوّلا، ومن ثم العمل على «تشذيبها» أو «تهذيبها» في حال وجود ما يتعارض فيها مع عقائد أو ديانات أو فلسفات أرقى أو أشمل أو أحسن أو أفضل منها.

وفي هذا السياق، لابدّ من الإشارة إلى واحدة من أهم الميزات التي يمتاز بها الشعب الإيراني ألا وهي «استيعابه» الكفؤ والناجح بامتياز لكل ما يأتيه أو يرده من أفكارأو فلسفات أو أيديولوجيات أو عقائد وهضمه لها ووضعها في بوتقة «إيرانيته» القوية والراسخة من دون أن يضطر لخوض المعارك الكبرى لمقاومتها بطريقة الإقصاء أو النفي التام.

حتى فيما يتعلق بـ «نوروز» نفسه فقد حوله بمرور الأيام والسنين الـ «عقيدة» ثابتة تتكيف مع العصور والأزمنة والأنظمة الدينية والسياسية الحاكمة من دون أن يغير من جوهر نوروز في شيء، فنوروز زرادشتي كما هو إسلامي كما هو سني قبل العهد الصفوي كما هو شيعي من بعده وهو محافظ كما هو إصلاحي، وهو ليبرالي كما هو ثوري.

بل إنه قادر على تحويله إلى نوروز للشرق الأوسط الكبير» كله أن اضطر إلى ذلك، لكنه سيبقى مرتبطا وملتصقا بالأرض التي ولد عليها.

ولا أظن أنها مقتصرة على الشعب الإيراني بالمناسبة؛ أي ميزة «الواقعية» في التعامل مع السنين الكبرى وظواهر التاريخ وحقائق الجغرافيا الدامغة، إنما تتجلى في كثير من مسلكيات شعوب الأرض ولكن بأشكال وبمظاهر وتبلورات مختلفة، إنما جوهرها القدرة على ممارسة قرار البقاء على رغم الأعاصير والطوفان، فالشعوب جميعا « كل يوم هي في شأن»، وكل يوم من أيامها « نوروز» لا يستوعبه إلا «الراسخون في علم الشعوب والأمم»، ليس من بينهم دعاة «الشرق الأوسط الكبير»، على الطريقة الإسرائيلية الأميركية ولا حماة الشرق الأوسط القديم على طريقة الطغاة وشركائهم في الاستبداد والتبعية والطغيان من «منوري الفكر» المنبهرين بكل ما هو جديد ويلمع، ظنا منهم أنه ذهب وما هو بذهب وإن أرادوه كذلك!

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 1668 - السبت 31 مارس 2007م الموافق 12 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً