العدد 1692 - الثلثاء 24 أبريل 2007م الموافق 06 ربيع الثاني 1428هـ

يلتسين... الرئيس الفوضوي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

غياب الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين عن الشاشة السياسية لن يقدم أو يؤخر في الحياة العامة. فهذا الرئيس الفوضوي فقد دوره وبريقه منذ سنوات ولم يعد يشكل ذاك الرقم في المعادلة الداخلية.

التاريخ الروسي سيسجل في مفكرته مجموعة عناوين تلخص حياة أو دور يلتسين في زعزعة أركان الاتحاد السوفياتي ودفع الاتحاد ثم روسيا إلى بحر من الفوضى والقلق والتوتر والانهيار العام. فهذا الرئيس فوضوي في خياراته، فوضوي في السياسة، فوضوي في الإدارة، فوضوي في الاقتصاد، فوضوي في الأمن وفوضوي في علاقاته الدولية.

الفوضى هي العنوان المشترك الذي يجمع سيرة رئيس شاء القدر أن يكون في موقع القيادة في لحظات تاريخية حاسمة قلبت الموازين الدولية وغيّرت الاتجاهات وأسست قواعدَ جديدة للعبة أتاحت فرصة للولايات المتحدة أن تقود العالم إلى فترة زمنية قصيرة كانت كافية لتوضيح سلبيات غياب دولة كبرى منافسة كالاتحاد السوفياتي.

هذه الفوضى التي شهدتها روسيا في زمن رئاسة يلتسين لم تكن نتاج شخصيته الفوضوية ونزعته الفردية المزاجية فقط وإنما تأسست واقعيا بسبب الزلزال الذي ضرب الاتحاد السوفياتي وعصف بالعالم ليغير مُجرى الرياح الدولية. فالفوضى العامة صنعت يلتسين والأخير أضاف إليها الكثير من مزاجياته وأسلوبه الخاص في التعامل مع الدولة والاقتصاد وعجزه عن التكيف مع المتغيرات وضعفه في السيطرة على التحولات وإدارتها بالاتجاه الصحيح.

الفوضى إذا كانت موجودة وكانت تحتاج إلى رجل يشبهها حتى يقود أكبر دولة في العالم نحو الهاوية في سنوات زمنية قليلة. وهذا ما حصل خلال فترة يلتسين حين كان يقود المعارضة ضد ميخائيل غورباتشوف في زمن الاتحاد السوفياتي وتكرر الأمر خلال فترة رئاسته حين قاد روسيا الاتحادية إلى فوضى عامة وانهيار شامل.

روسيا تعرضت خلال فترة يلتسين لأسوأ عملية تشويه يمكن أن تحصل لدولة في سرعة زمنية قياسية. فهو انهمك في ملذاته الشخصية تاركا الشئون العامة للنهب والسرقة والتهريب؛ ما أدى إلى ظهور شبكة من المافيات (7 عائلات) تدير دفة الاقتصاد والمال والتجارة والإدارة والإعلام. وساهم انفلات الرقابة في تشكيل كتلة من الأغنياء أشرفت على خصخصة المؤسسات والمعامل والمصانع وقطاعات التعدين والنفط والغاز بأسلوب فوضوي أتاح بيع وشراء هيئات تقدر قيمتها بالمليارات بأثمان بخسة.

ومثل هكذا فوضى اقتصادية تنتج سياسات دولية رخيصة تبيع المواقف وتتنازل عن الحقوق والمواقع والمصالح من دون دفاع أو ممانعة. كذلك تنتج هيكلية إدارية ضعيفة لا تملك القدرات أو الخبرات على إعادة تنظيم الدولة وإصلاحها أو تحديثها لتقوم بواجباتها الوطنية والأمنية والتربوية والصحية وغيرها من قطاعات تتصل بالرعاية الاجتماعية وضمان حقوق العمال أو المتقاعدين.

يلتسين كان في الصورة وخارجها. فهو الرئيس المنتخب وأيضا الرئيس المتقاعد عن تحمّل مسئولياته. وهذا النوع من الرؤساء الغائبين عن الوعي وينقصهم الإدراك وغير مكترثين بالنتائج الكارثية تحبه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. فمثل هؤلاء الرؤساء لا يقاتلون ولا يفاوضون ولا يساجلون وإنما يتركون الأمور تتقرر على يد حفنة من المستشارين هي أقرب إلى عصابة مافيا وأبعد ما تكون عن عقلية رجال دولة.

لذلك حين انتهت مدة رئاسة يلتسين الأولى في العام 1996، وكانت فترة من أسوأ ما شهدته روسيا في تاريخها المعاصر، سارعت واشنطن وعواصم الغرب إلى تشجيعه على الترشح لدورة ثانية وهي على علم أنه يعاني من أمراض وعوارض تمنعه من القراءة والعمل والمتابعة. فخلال فترة رئاسته الأولى التي ابتدأت في العام 1991 شاهده العالم من خلال محطات التلفزة والفضائيات أكثر من مرة يسقط على الأرض أو يترنح أو ينام أو غير قادر على الوقوف أو المشي وعاجز على توقيع اتفاقات أو حضور جلسات أو الانتباه أو على الأقل الاستماع إلى نقاشات تتصل بدولته وموقعها ودورها.

كل هذه المناظر السيئة تعاطت معها وسائل الإعلام الغربية «الديمقراطية» و «الليبرالية» بشيء من الخفة وأحيانا الإعجاب وأحيانا أخرى كانت تكيل المديح لرشاقته في السقوط والنهوض بسرعة عن الأرض. وطبعا كان القصد من كل هذه التغطيات الكاذبة والمصطنعة هو تزيين صورة يلتسين وتقديم حركاته البهلوانية إلى الناخب الروسي وأيضا دافع الضرائب الأميركي والأوروبي في غلاف مزيف يخدع المشاهد ويقنعه بضرورة تأييد هذه الشخصية الفذة والتصويت لها مرة ثانية. وهكذا أعيد انتخاب هذا الرئيس الغائب عن الوعي والمتقاعد عن تنفيذ واجباته والمتخلي عن صلاحياته لمافيات نجحت في السيطرة على مصادر الثروة وباعت الغالي بالرخيص وهرّبت المليارات من الدولارات إلى صناديق المصارف الأوروبية والأميركية، حتى أنها لم توفر التحف التي سُرِق منها عشرات آلاف القطع لتستقر في قصور الأغنياء والمترفين وغرف المتاحف وشركات المزاد خارج روسيا.

أنصاره

أنصار يلتسين - وهم قلة في كل الحالات - يدافعون عن رئيسهم من خلال تلميع الوجه الآخر لهذا المهندس الفاشل الذي زحف إلى السياسة في مقتبل العمر. فأنصاره يؤكدون أنه ساهم في محاربة الحزب الشيوعي من الداخل وتحطيمه حين أقدم على تمزيق بطاقة عضويته أمام الجماهير. وهو أيضا عارض الرئيس غورباتشوف حين تمسك الأخير بصيغة الاتحاد السوفياتي ورفض تفكيكه بعد فشل برنامجه الإصلاحي. وهو أيضا أحبط انقلاب المحافظين حين صعد على ظهر دبابة ودافع عن البرلمان المنتخب في العام 1991.

أنصار يلتسين يحاولون القول: إن رئيسهم ليس فاسدا وإنما ضحية الفساد. وليس فوضويا وإنما نتاج مرحلة انتقالية كان يشهد خلالها الاتحاد فترة تغيير شاملة أطاحت بمؤسسات بائسة وحزب فاشل ودولة منهارة.

هذا الدفاع يعكس وجهة نظر ولكنها لا تلغي الجانب الآخر من الصورة. فالمرحلة التي مثّلها يلتسين نادرة في التاريخ وهي تعكس في باطنها كل الاحتمالات وتدمج في آلياتها الاعتبارات الموضوعية بالأخلاق الذاتية. ويلتسين جمع السلبيات من الجهتين الموضوعية والذاتية ولعب سلوكه الشخصي الدور الدافع نحو المزيد من الفوضى العامة والانهيار الشامل.

التجربة السوفياتية تشبه كثيرا تلك التي مرت بها السلطنة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فالسلاطين آنذاك كانوا أمام اختيارين: أما ترك السلطنة تتداعى آليا من الداخل وتحت وقع الضربات العسكرية المتتالية التي تلقتها من أوروبا الصاعدة وروسيا القيصرية، وأما مواجهة الانهيار الداخلي بالانفتاح على الخارج واكتساب الخبرات والعلوم وإعادة توظيفها لتحديث الدولة وتنظيم إداراتها وتحسين اقتصادها وتعزيز هيبتها ونفوذها.

السلطنة العثمانية اختارت خط الإصلاح، ولكن السلاطين فاتهم ذاك الاحتمال وهو أن الإصلاح ليس بالضرورة حركة سياسية تحديثية تمنع الانزلاق نحو التفكك والانهيار. فالإصلاح الفوقي والمتسارع وغير المدروس يؤدي إلى نتائج معاكسة وربما يساهم في تمزيق الدولة بدلا من توحيدها.

ما حصل للاتحاد السوفياتي في نهاية القرن العشرين يشبه السيناريو الذي مرت به السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين مع فارق زمني كبير وهو أن اسطنبول كافحت وقاتلت ومانعت نحو 200 سنة حتى وصلت إلى طريق مسدود فانهارت بانقلاب عسكري سَهّل على قوى الخارج استكمال خطة تقويضها. بينما موسكو فشلت في مقاومة الانهيار السريع الذي قوّض الدولة من الداخل ومن دون اللجوء إلى الحرب. فالانهيار جاء نتاج تصورات صبيانية قرأت التاريخ بسياق عقلي مراهق وراهنت على أن الإصلاح سينقل الاتحاد السوفياتي في فترة لا تزيد على 500 يوم من حال الشلل إلى مستوى متقدم من الرقي والازدهار.

الاتحاد السوفياتي لم يصمد أكثر من 5 سنوات على بدء التفكير في حركة الإصلاح. وبسبب ضعف التجربة وقلة الخبرة واستسهال عملية التقدم والتطور والإسراع في التحديث من دون رؤية، كلها عوامل فجرت «الامبراطورية» من الداخل وقذفت بأوساخها وقاذوراتها من باطن الأرض إلى ساحات موسكو وشوارعها.

يلتسين آنذاك شكّل ذاك الكامخ الذي صعد نجمه بسهولة وسرعة لا لكونه يشكل المنقذ التاريخي لدولة كبرى بل لأنه يمثل «الرجل المناسب» في المكان المناسب والزمن المناسب. فهو يشبه المرحلة ولا يخالفها ولأنه كذلك شهد عهده أسوأ فترة لروسيا سواء على المستوى الدولي أو على مستوى داخل أخذ يغيب عن مشهد التاريخ.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1692 - الثلثاء 24 أبريل 2007م الموافق 06 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً