العدد 1727 - الثلثاء 29 مايو 2007م الموافق 12 جمادى الأولى 1428هـ

التدخين أمام الآخرين ليس حرية شخصية بل تعديا بيئيا صحيا

خولة المهندي comments [at] alwasatnews.com

رئيسة جمعية اصدقاء البيئة

كلما بعدت عن البحرين شعرت بمدى بساطة وتعقيد مشكلاتها البيئية في آن، وكيف أن وقف التدمير هو الجزء الأول السريع والبدهي من الحل.

في سلزبرغ موطن فيلم صوت الموسيقى، وفيينا عاصمة الامبراطورية الهنغارية النمسوية التي حكمت كل أوروبا بما فيها ألمانيا لفترة طويلة قبل أن تنتهي الامبراطورية العام 1919، تُصنَع الكراسي للمارة حول الأشجار «وليس مكانها» وتبلط الأرضيات في الأماكن العامة بصورة مريحة تستوعب عشرات الآلاف من البشر يعبرون على مساحات كبيرة ممهدة ويقرأون على الأرضيات تاريخ العظماء، مع ترك مساحات محسوبة للخضرة حتى في أعالي المباني السياحية المشهورة، وتحظى الأشجار بأوتاد ودعائم أنيقة تدعمها. عندما تقلم الأشجار تبقى جميلة وكبيرة ومنتعشة ولا تبدو «كعصفور منتوف الريش مكسر الأجنحة».

تسير في فيينا في ممرات واسعة وطويلة في وسط المدينة حيث المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي من دون أن تقلق من أن تفاجئك سيارة مسرعة؛ لأن السيارات لا يسمح لها في العادة بالمرور في تلك الممرات المخصصة لعبور الناس واستجمامهم.

ولكن ليس كل ما في النمسا جميلا وصديقا للبيئة فذلك البلد العظيم وعاصمته فيينا التي كانت عاصمة الحضارة والثقافة الأوروبية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى التي بدأت أساسا باغتيال ولي عهد الامبراطورية في «البلقان» التي كانت خاضعة إلى الحكم العثماني آنذاك، لتعلن النمسا الحرب عليها ولتنتهي الحرب بهزيمة الامبراطورية العثمانية، هزيمة الألمان ونهاية الامبراطورية الهنغارية النمسوية وتغيّر تاريخ أوروبا الحديث.

هذا البلد العظيم مازال بحاجة إلى إصلاحات بيئية أتمنى أن يكون وطني الصغير والجميل «البحرين» قد سبقه في أحدها على الأقل وهو تشريعات مكافحة التدخين في الأماكن العامة، والتي آمل في أنه تم البدء في تطبيقها في البحرين مثلما وعدنا به في صحفنا وأتمنى أن تكون الطبيبة البحرينية مريم الجلاهمة قد أعدت خطة قوية منظمة لتعزيز تطبيق القانون.

ففي آخر مرة زرت فيها أحد المجمعات قبل سفري كان الحال لا يطاق حول المقاهي من الدخان المزعج الذي يصل إلينا سواء جلسنا على الكراسي أو عبرنا المنطقة.

أما مطار البحرين الدولي فقد كان نظيفا راقيا وقد اختفى الدخان الذي كان يشاهد في الأجواء وانحصر وجوده في أماكن نتمنى أن تتم معالجتها في القريب؛ لأنها باتت مصدر إزعاج للمسافرين مثل منطقة البوابة (17).

عندما يقرر شخص ما أن يدخن فإنه بذلك يقرر أن يؤذي صحته وله كامل الحرية في إيذاء نفسه وتحمّل نتيجة ذلك أمامها وأمام الله، إلا أنه حين يدخن في مكان يصل منه الدخان إلى الآخرين ويؤثر على صحتهم فهنا تنتهي حريته ويبدأ فعل التعدي على حرية الآخرين بل أذيتهم، وخصوصا عندما يكون هؤلاء الآخرون أطفالا أو كبار سن أو نساء في مرحلة الحمل أو من أصحاب الأمراض التي يهيجها الدخان كالحساسية والأمراض الصدرية والتنفسية (وما أكثر انتشارها في البحرين مع تزايد الأدخنة الأخرى).

الأمر الغريب أن معظمنا اعتاد وجودَ المدخنين في كل مكان، وحديثَهم عن حريتهم إلى درجة نسي معها تلك الحقيقة البسيطة: حرية الآخر تنتهي عندما يبدأ بالاعتداء على حريتك.

اذكر أني في كل مرة عبّرت فيها عن استيائي من وجود مدخنين حولنا في المطاعم والمقاهي بل الطرقات التي علينا أن نمر فيها، كان هناك شخص واحد على الأقل يرد علي أني لا استطيع تغيير الكون والتحكم في حرية الآخرين؛ وأرد عليه حينها: «وماذا عن حريتي أنا؟» وغالبا ما يكون الرد: «لا تدخني. لم يجبرك أحد على التدخين» أو «لا تخرجي من البيت إذا واقفلي أبوابه كيلا يصلك إليك الدخان».

وعلى غرابة تلك الإجابات وعدم منطقيتها التي تجعل من التدخين كما لو كان الحقيقة «وما سواها الباطل» أو الواقع الذي على الجميع التعايش معه، فإن أكثر ما يثير حيرتي وغضبي في آن أن من يقول ذلك هم في الغالب من غير المدخنين ولكنهم سلّموا (أو استسلموا) لأن التدخين واقع وأن «حقوق» المدخنين هي ما يجب احترامه.

غير المدخن هو الذي يمرض أمراضا تتنوع وتتدرج حدتها من الحساسية إلى أسوأ أنواع السرطانات، ويتحمّل نتيجة قرار اتخذه غيره. وفي أخف الحالات وطئا فإن غير المدخن هو الذي ينزعج من التدخين في صمت ومع ذلك فإنه يعتقد بأن عليه احترام «حقوق» المدخنين! كيف يفسر ذلك؟

أورد عبارة أخرى غالبا ما أسمعها أيضا ولعل فيها بعض التفسير: «هذا المكان غير ممنوع التدخين فيه!». وأجيبهم: «ولكن الدخان يصل إليّ ويزعجني وقد يمرضني وكذلك يفعل بالطفل الجالس هناك!».

علينا أن نبدأ من البداية إذا: من سن تلك القوانين؟ لماذا يشعر معظم الناس بالخجل أو التحرج من التعبير عن انزعاجهم من المدخنين؟ لأن القانون مع المدخنين ربما؟

هل تساءلنا عن تأثير شركات التبغ وسلطتها على القرارات السياسية في العالم؟ تلك الشركات العملاقة التي حققت المليارات من الاتجار في التدخين. ماذا عن الدعايات الواضحة والضمنية التي تجعل من المدخنين والدخان علامة للرقي والتميز؟ ففي الأفلام المشهورة، نجد أن أشهر المحققين البوليسيين، وملكات الإغراء، وسلاطين الطرب، وأشهر ممثلي الطبقات الارستقراطية وأبطال المغامرات الشبابية لابد أن يكون بين أصابعهم غليون أو سيجار أو سيجارة ويعملون سحائب أو دوائر جذابة من الدخان والذي غالبا ما يثير استياء أو يؤذي الشخصيات «السلبية» أو «السخيفة» أو «الشريرة» في الفيلم، فكأنما من يرفض التدخين أو يتأثر سلبا به هم أناس لا قيمة لهم أصلا. وفي بعض الأفلام ترفض بعض الشخصيات «المهمة» التدخين ولكنها تجلس على الطاولة نفسها مع مدخنين ولا يبدو عليها أي استياء أو انزعاج كما لو كان التدخين سلوكا فرديا.

الحقيقة التي علينا جميعا مواجهتها وبقوة هي أن التدخين في الأماكن العامة أو في أي مكان يصل فيه الدخان إلى غير المدخن هو اعتداء على حريات الآخرين وليس سلوكا فرديا بل سلوكا يؤثر على الجماعة، ويجب مكافحته كخطر يهدد الصحة والبيئة بل الأخلاق العامة، ولابد أن نقف جميعا وقفة قوية أمام كل مقهى في مجمع يسمح بالتدخين فيه ونُذكِّرُه أنه معرض لغرامة تصل إلى 500 دينار بحريني إذا أبلغنا عنه، فمن لم يرتدع احتراما لحرية الآخرين وحقوقهم فليرتدع خوفا من العقاب.

وهذه خطوة علينا جميعا أن نساهم في إنجاحها لتأتي خطوات أكبر في طريق بحرين أكثر أمنا وارتقاء لنا وللأجيال القادمة.

كثيرا ما نرى الكبار يدخنون وبقربهم أطفالهم وأتساءل: «هل يشعر هؤلاء الآباء والأمهات بمسئولياتهم تجاه أبنائهم؟ أليست الحماية أول تلك الواجبات؟ كيف يعرضون أبناءهم لهذا الخطر الذي في الواقع هم - بصفتهم آباء - مصدره؟».

إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"

العدد 1727 - الثلثاء 29 مايو 2007م الموافق 12 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً