آنذاك كانت الحركة الإسلامية في مختلف ألوانها وأشكالها خارج لعبة المخيمات ،إذ اقتصر دورها على الإغاثة والتعليم والتدريس ؛ نظرا إلى كون المزاج الشعبي في الشارعين اللبناني (المسلم) والفلسطيني يميل إلى اليسار القومي أو الأممي. ولم يكن بإمكان حركة الإخوان أو حزب التحرير أو الجماعة الإسلامية تشكيل قوة ضغط تنافس اكتساح فتح للشارع وخصوصا أن قادة «فتح» المؤسسيين خرجوا من عباءة الإخوان بسبب تردد الحركة أو تحفظها على نظرية الكفاح المسلح.
الإسلاميون في الشارعين اللبناني والفلسطيني كانوا قلة سياسية لا تأثير لها إلاّ بحدود معينة. واستمر الإسلاميون ينشطون على الهامش حتى بعد اندلاع حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فتلك الحرب أعطت بعض الزخم لمصر السادات وسورية الأسد إلا أنها لم تعدل في موازين القوى في المخيمات الفلسطينية. فالإخوان فشلوا في تشكيل قوة بديلة بينما البعث في شقيه السوري والعراقي واصل ينشط من دون أن ينجح في التأثير على قيادة عرفات بينما مصر السادات أخذت تنسحب رويدا من المشرق العربي تاركة الساحة اللبنانية والمخيمات الفلسطينية لغيرها من القوى الإقليمية والعربية.
في منتصف السبعينات دخلت الساحة اللبنانية في حربها الداخلية وانقسم الشارع إلى خطين: الأول مسلم تدعمه منظمة التحرير. والثاني مسيحي لاقى التأييد من سورية والمنظمات اللبنانية الفلسطينية الحليفة لدمشق. وأدى هذا الصراع السوري - الفلسطيني على الساحة اللبنانية إلى دخول دمشق على الخط بدعم عربي/ دولي ، الأمر الذي أعاد تشكيل مزاج المخيمات فتأسست في ضوء تحوّلاتها قوة فلسطينية وطنية مستقلة بقيادة عرفات وأخرى سورية مدعومة بشبكة من الفصائل تنافسها قوة عراقية تؤيدها شبكة أخرى من المنظمات.
استمر عرفات يشكّل القوة الأولى لبنانيا (الشارع المسلم) وفلسطينيا (المخيمات) إلى أن أقدم خالد الاسلامبولي على اغتيال الرئيس أنور السادات في العام 1981. وأدى حادث الاغتيال المعطوف على الوهج الذي أطلقته الثورة الإسلامية في إيران إلى توليد حركة تعاطف سياسية مع الإسلاميين فبدأت تشهد الساحتان اللبنانية والفلسطينية نمو ظاهرة جديدة في الميدان.
فتح والقرار المستقل
زعامة عرفات تواصلت إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 فاخرج من بيروت مع قواته. وحاول العودة إلى لبنان من نافذة طرابلس في العام 1983، لكن القوات السورية الموجودة هناك مع المنظمات المؤيّدة لها حاربته إلى أن خرج بحرا من عاصمة لبنان الثانية.
بعد العام 1984 تبدّل المزاج السياسي في الساحتين اللبنانية والفلسطينية. فالأولى قادتها حركة مقاومة (حزب الله) التي كان لها جاذبيتها الخاصة وموقعها المميز في مواجهة الاحتلال. والثانية انغلقت على نفسها وانكفأت إلى داخل المخيمات ،الأمر الذي أعطى فرصة زمنية لنمو حركات إسلامية بعيدة عن عباءة عرفات بقيادة حماس.
منذ نهاية الثمانينات والتسعينات أصبحت حماس تشكل القوة الثانية والمنافسة لفتح باستثناء بعض المناطق التي تقع ضمن النفوذ السوري المباشر في الشمال والبقاع. ولكن الخلاف بين عرفات وقيادة دمشق الذي تجدد بعد التوقيع على اتفاق أوسلو رسم حدود تماس سياسية بين فتح وحماس أسفرت عن تشكيل مراكز قوى جديدة أضعفت كل الأحزاب والمنظمات القديمة المنبثقة عن البعث السوري والبعث العراقي وحركة القوميين العرب.
فتح استمرت تشكّل القوة الأولى، لكن نفوذها تراجع سياسيا لمصلحة حماس وتلك المجموعات الإسلامية والسرية بعد عودة عرفات إلى الضفة الغربية وبدء تركيز نشاطه هناك لتعزيز السلطة الفلسطينية. وهذا التحوّل ساهم في تأسيس ثغرات سياسية في المخيمات سمحت بنمو اتجاهات يائسة أو متطرفة بسبب انغلاق آفاق العودة أمام الفلسطينيين.
هذا الشريط من الصور يكشف عن صلة التحوّلات السياسية والأيديولوجية في المخيمات بتلك المتغيرات الدولية والإقليمية. فالمخيمات كانت تراهن على اتجاهات ودائما كانت هي الضحية، وتدفع ثمن حروب الآخرين. فالسكان في البقع المذكورة يتحرّكون مع فضاءات ثقافية ويتغيّرون سياسيا بين فترة وأخرى ويتأثرون بالمحيط اللبناني وما يرده من أفكار وأيديولوجيات. فالعزلة الفلسطينية في المخيمات لا تعني امتناع الناس عن الاندماج أو التفاعل أو التعامل مع مستجدات طارئة أو متدخلة في شئونهم. فالمخيّم هو جزء من محيط ولذلك يجد الفلسطيني نفسه الآن بعد تجارب مرة ومعاناة مستمرة أنه أقرب إلى اللبناني وخصوصا أن الدولة لا تريد استغلاله واستخدامه ورقة ضغط أو منصة إقليمية لإطلاق صواريخ سياسية لحسابات غير معروفة ومعلومة. والموقف الفلسطيني العام الذي تمثل في تصريحات أعلنت عنها الفصائل الكبرى يشير إلى بدء نمو مزاج سياسي يؤيّد الدولة اللبنانية ويرفض الانجرار إلى حروب تخوضها منظمات مجهولة الاسم والعنوان والتمويل لغايات تزعزع استقرار المخيمات وتقطع على السكان احتمال التفاوض مع مشروع دولة يريد ترتيب علاقات ترتقي إلى سوية مدنية تعتذر عن مرحلة اتصفت بالتوتر وعدم الثقة وانقطاع التواصل.
تاريخ المخيمات الفلسطينية منذ نكبة 1948 مرّ في محطات خلال العقود الستة. وشكّلت كل محطة صورة نموذجية مصغرة عن الظروف العربية والمتغيرات الدولية. ففي فترة لعبت مصر عبدالناصر دور القيادة والتحريك، ثم تنافست سورية والعراق وليبيا على انتزاع القيادة من عرفات، ثم دخلت سورية على الخط بعد إخراج قوات منظمة التحرير من بيروت وطرابلس. والآن بدأت تظهر في المخيمات تلك الصورة الوطنية المستقلة التي تكشف عن بدء ارتسام محطة لبنانية تعبّر عن استعداد لإعادة ترتيب علاقات مع دولة (ضعيفة ومشلولة أصلا) لا طموحات إقليمية لديها.
ما يحصل في مخيّم «نهر البارد» يقدّم عيّنة راهنة عن تحوّلات لابدّ من مراجعتها والانتباه إلى إشاراتها السياسية نظرا إلى كونها تحمل دلالات جديدة قد تساعد على بناء تلك الجسور المقطوعة في فترة تبدو فيها احتمالات العودة إلى فلسطين متأخرة أو مؤجلة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1733 - الإثنين 04 يونيو 2007م الموافق 18 جمادى الأولى 1428هـ