العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ

كلمات يومية تخاطب قارئا يبحث عن حقيقة

سماحة في «الآن... هنا»

«الآن... هنا» عنوان كتاب الراحل جوزف سماحة الذي أصدرته صحيفة «السفير» عن الدار العربية للعلوم في بيروت. و«الآن... هنا» ترويسة افتتاحيات سماحة خلال فترة رئاسته تحرير الصحيفة في فترة امتدت بين العام 2001 و2006.

رحيل جوزف شكل صدمة للصحافيين لكونه يمثل ذاك النموذج الخاص الذي جمع بين العمل اليومي ومهنة الكتابة. كذلك يمثل خلقية عالية تميز بها جوزف في تعامله مع الحدث وتناوله له بأسلوب مميز ولغة رشيقة وسرعة في احتواء المعلومات وتداخلاتها الواقعية والمعرفية.

جوزف الشخص الواعي والمثقف والمطلع والملتزم كان ذاك المثال المحتذى في سلوكه وخلقيته ونضجه وقدرته على استيعاب وقائع اليوم برؤية معرفية ومتابعة دقيقة جعلت من افتتاحيته قوة مؤثرة على السياسيين وأصحاب القرار والفعاليات. وهذا النوع من الكتابة الصحافية اليومية الراقية في ثقافتها والعميقة في رؤيتها من الصعب أن نجد الشبيه له.

رحيل جوزف المبكر خسارة للصحافة العربية واللبنانية. فهذا الرجل / الشاب قدم الكثير وكان أمامه الكثير ليقدمه لو تسنى له أن يعيش أكثر. فهو يملك من المعلومات والاتصالات والمعرفة والقراءات أعلى بكثير من الكتابة الصحافية اليومية. ولكن القدر لا يرد وهذه مشيئة لا يعلمها سوى الصانع.

بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوما على رحيل جوزف، قررت «السفير» تكريم رئيس تحريرها فاختارت عينة من افتتاحيات كتبها خلال السنوات الخمس فجاءت في كتاب ضخم بلغت صفحاته 518 وكلماته نحو 160 ألفا. وهذا بعض ما كتبه في تلك الفترة الحساسة التي مر بها العالم والعرب وفلسطين ولبنان. ففي هذه المرحلة استولى تيار «المحافظين الجدد» على الإدارة الأميركية، ونجح ارييل شارون في الانتخابات الإسرائيلية، ووقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وأعلنت واشنطن الحرب على «الإرهاب» وغزت أفغانستان واجتاحت العراق، واضطرب لبنان، ومدد للرئيس اميل لحود قسرا، واغتيل رئيس الوزراء رفيق الحريري، وخرجت القوات السورية من لبنان، وجرت حوادث تفجير واغتيالات متفرقة أسست لاحقا لذاك العدوان على البلد الصغير.

خلال فترة العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان كان جوزف غادر «السفير» وبدأ بالتعاون مع أصحابه في تأسيس صحيفة «الأخبار» التي رأس تحريرها وصدرت مباشرة بعد توقف الحرب ليستأنف افتتاحياته من جديد تحت ترويسة «خط أحمر» إلى أن رحل عن الدنيا بعد أقل من سبعة أشهر.

تراث جوزف في الكتابة الصحافية ثري وضخم وإذا قيض أن يجمع فسيتجاوز المجلدات لكونه بدأ عمله في «مهنة المتاعب» منذ العام 1974 من دون انقطاع. ولكن المجموعة التي اختارتها «السفير» لتكريم رئيس تحريرها السابق تعطي فكرة موجزة عن ثقافة هذا الرجل الذي اتسمت كتاباته بالموضوعية والدقة والتعالي على الصغائر. جوزف مفكر وصاحب قلم تميز بأسلوب خاص ومبتكر في رشاقته وفِقراته القصيرة التي لا تعرف التطويل وتعتمد الإيجاز لإيصال الفكرة إلى القارئ.

وهذا النوع المميز في الكتابة سيبقى إلى فترة طويلة قد تتجاوز الموضوعات التي تطرق إليها جوزف. فالموضوعات حدثية يومية وهي تدور في معظمها حول أربعة أبواب عاصرتها المنطقة في تلك الفترة الصعبة وتتلخص في: لبنان، فلسطين، غزو العراق وحال العرب، أميركا والمحافظون الجدد، وأخيرا هذا العالم.

الموضوعات عادية في عناوينها ولكنها غنية بالمعلومات والاطلاعات والقراءات والمتابعات حين يكتب عنها جوزف. فهذا الصحافي/ الكاتب اشتهر بالدقة والعمل الدؤوب والتعب لاكتساب المعرفة.

إلا أن مشكلة الكتابة اليومية لها خصوصية تظلم الكاتب الموسوعي من وزن جوزف. فالمقال أو الافتتاحية أو التعليق له وظيفة يومية تتصل بمدى التأثير على القارئ أو المساهمة في صنع الرأي العام. ولكن هذا النوع الحار من الكتابة حين نعزله عن يومياته وتشكل الحوادث ومجرى الوقائع تضعف حيويته وتسيطر عليه برودة إلى حد الجمود. فالكتاب غني في مواده الأولية التي نجح جوزف في تصنيعها وتوظيفها لتشكل حاجة للقارئ اليومي ولكنها حين توضع بين دفتي الغلاف تصبح من نوع آخر وخصوصا أنها تواكب حوادث متغيرة ومواقف متبدلة واضطرابات عنيفة عصفت بالعالم والمنطقة خلال فترة خمس سنوات ولاتزال تعصف وتهدد بالمزيد منها في مواعيد لاحقة.

مع ذلك نرى وجدان جوزف وروحه تسيران بين الصفحات وتنسابان مع الكلمات. «لا شيء مثل أحداث دولية كبرى، بحجم ما بعد 11 أيلول، يكشف هزال الحياة السياسية اللبنانية» (ص 13). هذا الوصف الصحيح للسياسة اللبنانية اليومية لم يمنع جوزف من التعامل معها والكتابة عنها لضرورات المهنة. وهنا تكمن المأساة... مأساة كل صحافي حين يجد نفسه مضطرا إلى التعامل مع حياة يومية هزيلة. «لبنان مرشح إلى قدر من التأزم. نستطيع رؤية النذائر بسهولة» (ص 18). كتب جوزف هذا التوقع السلبي في 26 سبتمبر 2002 حين وجد «أن ثمة قوى لبنانية تراهن علنا على الخراب الإقليمي الذي ستقوده الولايات المتحدة». من هو قائد الثلة التي راهنت على هذا الخراب «من أجل الإعلاء من شأن مشروعه»؟ إنه ميشال عون.

المثال المذكور هو مجرد نموذج بسيط عن طقس التحولات الذي يطرأ على السياسة اليومية اللبنانية ويضطر مفكر كبير من وزن جوزف إلى ملاحقتها والكتابة عنها في دفتر افتتاحياته. والنتيجة أن الجنرال عون يتغير ويتبدل وينقلب من ضفة إلى أخرى على حين المقال الذي كُتِب يبقى ويُعاد نشره من ضمن مجموعة مختارة من التعليقات!

هذه مشكلة الكتابة اليومية. والمثال المذكور مجرد عينة عن ذاك النزف والجهد والنزيف الذي يطارد الصحافي في مهنته المتعبة. إنه صراع يومي في الكتابة يشبه تلك الصراعات التي نشهدها يوميا. كتب جوزف في 30 يناير/ كانون الثاني 2004 يقول: «إن الصراعات الإقليمية مستمرة وضارية من فلسطين إلى العراق (...) ولبنان معني فعلا بمنع إسرائيل من إلحاق هزيمة بالشعب الفلسطيني» (ص 38). وهذا الحب اللبناني لفلسطين تمثل لاحقا في تلك المواجهة الدموية التي عصفت بالبلد الصغير خلال عدوان الصيف الماضي.

«الولايات المتحدة حسمت أمرها فيما تُفَضِّله للبنان: الفوضى العارمة». هذا ما كتبه جوزف عن تيار محلي معجب بالمحافظين الجدد في 2 سبتمبر 2004. والفوضى العارمة التي توقعها حصلت بعد توقف عدوان يوليو/ تموز 2006. «يمر لبنان حاليا في مطب هوائي». هكذا كتب جوزف في 23 سبتمبر 2004. «لا أحد يتهم الولايات المتحدة بأنها كانت تريد خراب العراق أصلا» (ص 59) و «ان المهمة النضالية في لبنان هي الضغط من أجل الإصلاح التدريجي للعلاقات اللبنانية السورية» (ص 60). و «ان العيش المشترك قضية أكثر تعقيدا بكثير من أن يحلها قانون انتخابي يريد صهر اللبنانيين» (ص 65). وأن العيش موضوع معقد «لا أمل إذا بقانون ديمقراطي فعلا». (ص 66).

كتابات جوزف تذهب بعيدا وترتفع فوق الحدث اليومي ولكنها في النهاية تبقى أسيرة النمط الذي تفرضه الوقائع المتسارعة. إنها أزمة المثقف/ المفكر حين يحاول أن يربط اليوم بالتاريخ بالمستقبل. وجوزف الذي رحل باكرا كان يعاني من هذه الأزمة التي وصفها في مقالات وافتتاحيات في عصر العولمة والتحولات.

جوزف غادر عالمنا وهو في حال من الحزن والكآبة والقلق على بلد صغير يتحمل أعباء ثقيلة. هذا ما قاله في مقال له كتبه في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2004: «إن الأزمة، للأسف، أكبر مما كان يعتقد المتشائمون. وهي، فوق ذلك، إلى تصعيد».

العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً