العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ

ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف

حادثة أخرى مع المدرس ذاته حدثت معي. فقد قرر الوالد أن يأخذني معه إلى البحرين في فترة أحد المواسم وهذا تطلب مني أن أغيب عن المدرسة، وكان الوالد يعود إلى البحرين من أجل ممارسة مهنة القراءة في المآتم الحسينية، وهي الوسيلة التي يستطيع من خلالها توفير جانب من المال الذي يحتاج إليه لمواصلة دراسته وحياته في النجف الأشرف. عندما عدت إلى النجف وذهبت إلى المدرسة، استقبلني المدرس المذكور في اليوم الأول، وكان غاضبا مني وقال: «أين الصوغة؟»، والصوغة هي الهدية. خفت منه، وقلت له: «إن شاء الله». في اليوم التالي، جاء إليّ وكرر الطلب: «الصوغة وينها؟»... عندها أخبرت والدتي بأن المدرس سيضربني أو سيسقطني إذا لم أعطه «صوغة».

وعليه بدأنا نفكر في شيء من الأشياء التي جاء بها الوالد من البحرين لكي نعطيه المدرس. بعد تفكير طويل، تذكرت الوالدة أن أخي الأكبر محمد جميل لديه قلم حبر جلبه الوالد له من البحرين، وهو يحب الكتابة باستخدام أقلام الحبر التي كانت تحتاج إلى عناية خاصة وإلى محبرة، وشكلها من الداخل يشبه الإبر الطبية القديمة إذ إن مستخدمها يحتاج إلى شفط الحبر كلما استهلك مابها من حبر في الكتابة.

وبعد حديث مطول اقتنع محمد جميل بضرورة إنقاذ الموقف، وتخلى عن قلمه الذي كان يعزه، وجاءت الوالدة «بطاسة» ماء كبيرة، وقمت بتنظيفه عبر سحب الماء إلى الداخل ومن ثم إخراجه مرات عدة إلى أن نظف القلم من لون الحبر وبدا وكأنه جديد. في اليوم التالي ذهبت مسرعا إلى المدرس وقلت له «تفضل هذه هي الصوغة « وفرح بالقلم كثيرا، واطمأننت على نفسي من غضبه، وهو لم يغضب مني بعد ذلك أبدا.

أتذكر أنه في تلك الفترة أيضا كنت ألعب مع أخي محمد جميل واختي عفاف، ولكن عفاف فضلت أن تلعب مع جميل وتتركني، وقام بعد ذلك جميل بتعييري بأن عفاف تفضل اللعب معه، وهذا أدى إلى بكائي وذهابي إلى الوالدة للشكوى، وهي كانت حينها مشغولة، فقالت لي «إذا عاندك افلعه». وبالفعل، قام «بمعاندتي» مرة اخرى، وبدلا من اللجوء إلى البكاء حملت علبة حفظ نظارات الوالد رحمه الله (وكانت من النوع الثقيل) ورفعتها عاليا ورميتها بقوة على وجهه فأصابته في جبينه وخرج الدم من موقع الضربة، وهرعت الوالدة بعد أن سمعت الضوضاء وذهبت لمعالجة جميل وإيقاف الدم من جبينه، وهي تصرخ في وجهي «ويش سويت؟»، فقلت لها «أنت قلت افلعه إذا عاندك»، فردت عليّ «ولكن مو بهذا الشكل!».

أتذكر أيضا أنني كنت قد قررت أن أصوم وأنا في عمر التاسعة، ولكن الجوع والعطش كانا ينهكاني وأنا أحتاج الذهاب إلى المدرسة ظهرا في بعض الأيام (المدرسة مزدحمة وكنا نداوم أحيانا في الصبح وأحيانا بعد الظهر)، فحاولت الوالدة إقناعي بأن أأكل وأشرب قليلا، ولكنني رفضت، وجانب من ذلك بسبب الإصرار على المنافسة مع أخي الأكبر والأصدقاء من أبناء البحارنة في المدرسة. لكن الوالدة كانت تعد لي كأسا من «الفيمتو» وتدخلني إلى المطبخ بالخفية (لكي لايراني جميل)، وتعطيني لكي أشرب، وكنت سأقاوم الشرب، لولا أنه كان شرابي المفضل آنذاك، الفيمتو!

ومن الذكريات اشتراكي في الكشافة، ولكن الكشافة في النجف ليست كالكشافة في البحرين. فقد كانت عبارة عن تدريب على المشي العسكري على نغم الموسيقى العسكرية مع أوامر تصدر بوسيلة «الصراخ المرتفع» من الأستاذ المسئول «يس... يم»، بمعنى قدم الرجل اليسرى، أو اليمنى... والاستاذ كان يتعامل معنا كما يتعامل العسكري مع فرقة مشاة.

وهذه الكشافة لا تخرج من المدرسة إلا في احتفال سنوي في يوم الجيش أو يوم آخر لا أتذكره، إذ كانت فرق الكشافة تتوجه إلى ملعب كبير تحت نغم الموسيقى العسكرية ضمن استعراضات عامة تشارك فيها المدارس. كما كنت في إحدى السنوات مشاركا في «لوحة الشرف»، وهي استعراضات رياضية، وجميع هذه المشاركات كانت منسقة على مستوى المدارس كلها، وكانت هناك مسابقات سنوية بين جميع المدارس.

ومرة قرر الوالد العودة بجميع أفراد العائلة (على ما أعتقد لكي يقرأ في رمضان في البحرين)، ولكن محمد جميل لم يستطع المجيء معنا إلى البحرين، لأن لديه دراسة لايستطيع تركها، وعليه اتفق الوالد - رحمه الله - مع الشيخ عيسى أحمد قاسم أن يبقى جميل معه في النجف أثناء تلك الفترة. الوالدة ذهبت إلى السوق واشترت أشياء كثيرة إلى محمدجميل، ما جعلني أزعل، وطلبت منها أن تشتري لي كل ما اشترته إلى أخي بالتمام والكمال... غير أنها قالت لي «جميل سيبقى هنا في النجف وأنت ستأتي معنا إلى البحرين، والبحرين فيها كل الأشياء التي تحبها وهناك نشتري لك ماتريد». وبعد عدة أيام من الحن والزن اقتنعت بما قالته أمي، وتنازلت عن مطالبتي بالمساواة مع أخي، وذلك لأنه بالفعل عندما نكون في البحرين فقد كان يبدو لي أن البحرين فيها الكثير، بل أنه عندما كنت أعود إلى البحرين لا أريد أن أذهب إلى النجف مرة أخرى، على رغم أن الأهل والأصدقاء في بني جمرة كانوا يعيبون عليّ لهجتي التي تغلب عليها اللكنة العراقية في أكثر الأحيان. البحرين كانت بالنسبة لي قمة السعادة وفيها كنت أوجد بين أهلي وأصدقائي، والمنازل المحيطة بنا في بني جمرة مفتوحة طوال النهار وأدخل أي منزل، وهذا بعكس النجف التي لم نكن نذهب إلى مكان آخر متى ما شئنا وكيفما شئنا، وأبواب منازل النجف موصدة في كل الأوقات. بعد المقارنة بين البقاء في النجف والحصول على ماحصل عليه جميل، أو العودة إلى البحرين رضت نفسي كثيرا بالعودة إلى البحرين.

ومن الأمور التي اعتدت عليها في النجف هو شراء الحليب صباح كل يوم. فقد كانت والدتي ترسلني أحيانا لشراء الحليب، والحليب تبيعه مجموعة من النسوة يجلبن بقرهن إلى أماكن محددة ويحلبن البقر مباشرة ويبعن الحليب للمشترين. وفي الصباح الباكر يبيع العراقيون «المأكولات» المصنعة محليا وهذه الوجبات لها خاصيتها التي تفوق جودتها أي مكان آخر. وجميع تلك المأكولات يمكن شراؤها بأسعار رخيصة لاعتماد الناس عليها في غذائهم اليومي ولوفرتها أيضا... وفي كل ساعة من النهار يتوافر نوع من الأكل. في الفجر مع الأذان تحصل على الهريسة النجفية. بعد أذان الصبح تحصل على الجبن الأبيض وعلى الصمون وعلى القيمر والمربى - القيمر مصنوع من حليب الجاموس وهو من ألذ الأنواع، وفي الضحى ستحصل على اللبن والتمر وعلى الصمون مع الطرشي، وشراب الشوندر... في الظهر تحصل على الأكلات التي تناسب وجبات الغذاء، وفي الليل تبدأ مشاوي الكبدة واللحم بشكل مكثف بالقرب من حضرة الإمام علي (ع)... الخ.

ولحبنا للقيمر النجفي، فإن الوالدة استمرت في استخراج شيء يشبهه من حليب البقر (لا يوجد جاموس في البحرين) بعد رجوعنا، وكنا نستيقظ على جملة للوالدة «سبق لبق»، ومعناها أن من يستيقظ قبل غيره يستطيع أن يتذوق شيئا يشبه قيمر النجف.

الشراء في أواخر أيام النجف كان بالأسلوبين القديم والجديد... ففي آخر فترة كنا فيها افتتح في النجف محل حديث كنا نعرفه باسم «أوريزديباك»، ووضع هذا المتجر الحديث إعلانا يقول بأنه لايبيع أي شيء أقل من 25 فلسا... والخمسة والعشرين فلسا العراقية كانت تفعل أشياء مهمة، وكنت أسمع من يردد «شنو هاي يابه، مستغربين غلائه!

إلا أن حزب البعث شوه المجتمع العراقي كثيرا. ومثال ذلك أحد جيراننا (المذكور آنفا) الذي كان لابسا العمامة وطالبا في الحوزة الدينية، ولكن فجأة نزع العمامة وأطال شعره ولبس البنطلون الذي كان ضيقا من أعلى، وفسيحا من الأسفل بحيث يغطي كل القدم، وكان النجفيون يطلقون مسمى «تشارلستون» على البنطلون. وهذا المسكين نزع العمامة ولبس بنطلون الموضة وسجل في البعث، ولكن انتهى أمره مهجرا على الحدود العراقية - الإيرانية مع عائلته.

الخدمات العامة كانت قليلة والناس تعتمد على بعضها بعضا. فالأطباء موجودون ولكنه طب خاص، كما أن الأطباء «الشعبيين» كانوا موجودين ويمارسون مهنة الطب القديم المخلوط بالطب الحديث. وكنت قد شارفت على الموت ذات مرة وازدادت درجة الحرارة بصورة حرجة وكان والدي ينقلني من طبيب إلى طبيب حتى أنهم يئسوا من شفائي، وقام والدي بتوجيهي جهة القبلة لاعتقاده بأنني لن أعيش بعدها، غير أنه توجه بالدعاء ونذر لي، وبحسب رواية الوالد، كان اليوم التالي لدعائه بداية التحسن والشفاء.

كنا بين فترة وأخرى نسافر إلى العتبات المقدسة الأخرى مثل الكاظمية وكربلاء والكوفة وغيرها من المناطق. والسفر إلى تلك الأماكن كان متعة بحد ذاته، وكنت اختار إحدى اللهجتين إما لهجة أهل البحرين أو اللهجة العراقية النجفية بحسب الحاجة. فقد كنا نلتقي بأناس كثيرين من البحرين ومن المفضل أن لا أكون عرضة لتعليقاتهم ولذلك فإني كنت أحاول الابتعاد عن اللهجة العراقية. ولكن إذا تعاملت مع العراقيين فمن الأفضل أن التزم باللهجة النجفية لأن أهل النجف لهم احترام وهيبة...

وفي ذات مرة كنت في الكاظمية وكان أخي صادق يلعب بـ «قواطي» (علب) فارغة وهو واقف بجانب شباك، وحدث أن وقع أحد تلك «القواطي» الصغيرة من النافذة بالقرب من امرأة عراقية، وكانت تعلم أن أناسا من البحرين يسكنون تلك العمارة في العادة. فانهالت على أخي بالشتم والصراخ ولم تتوقف بل إنها كانت تصعد لهجتها وتطالب بالتعويض على رغم أن «القوطي» وقع بالقرب من رجلها وليس عليها ولم يجرحها ولم يؤذها...

كنت حينها أحاول إقناع أمي أن تعطيني بعض المال لشراء شيء ما، ولكن كلام المرأة الكظماوية كان مرتفعا جدا لأن الشباك ليس بعيدا عن الأرض والطابق الأول (الذي كنا فيه) منخفض نسبيا... عندها ذهبت إلى الشباك لأعرف سبب الصراخ، ولكن المرأة ازدادت صراخا عندما رأتني. كانت لدى صادق قوطية فارغة أخرى، فأخذتها وتوجهت إلى حافة الشباك وبدأت أصرخ على المرأة التي استغربت أن صبيا (كنت ربما في العاشرة) يرد عليها صراخها. ومن الكلام الذي رميته عليها «خالة شكو؟ شتريدين ... امشي هسه لا يجيك قوطي على راسك... امشي...». المرأة خافت وقالت «انتو النجفيين هوايا وكحين...» وهكذا انتهى صراخها علينا لأنها اعتقدت بأننا «نجفيين»! بينما كانت تصرخ بشدة في بداية الأمر على أساس أننا من البحرين.

زيارة العتبات المقدسة والمدن العراقية كانت متنفسا لنا من الروتين، فكربلاء والكاظمية والكوفة وغيرها أماكن جميلة لها مميزاتها التي يتمتع بها من يزرها. وأتذكر أن الوالد زار مرقد كميل بن زياد وفي الطريق إلى المرقد زار منزل المرحوم الشيخ أحمد الوائلي، وكان منزلا وحديقة جميلة تعبر عن الذوق الرفيع للوائلي. وجلس الوالد مع الوائلي في الحديقة التابعة للمنزل، وقام الوائلي بوضع رجل على الأخرى أثناء جلوسه على الكرسي، فقمت بتقليده بوضع رجل على أخرى، ما أزعل الوالد، غير أن الوائلي قال «خليه، مايخالف».

ومرة أخذتنا المدرسة إلى مكان أثري وهو «قصر الأخيضر»، وكانت رحلة جميلة جدا، ولكن المدرس لم يتوقف من المبالغة وهو يشرح لنا تاريخ القصر، وكنا نحن التلاميذ نستمع إليه ونخاف من إبداء أية ابتسامة عندما يردد قصصه المبالغ فيها... فمن بين ماكان يقوله: انظروا إلى عظمة أجدادنا كيف بنوا هذا القصر العظيم منذ قديم الزمان، وأن سقوف القصر ليس لها أعمدة ولكنها لاتقع ... غير أننا كنا نرى مايخالف قوله، ولكننا لم ننطق بأية كلمة خوفا منه ومن ماقد يصيبنا بعد ذلك.

مدرسة الطالبية كانت مملوءة بالطلاب وبالمشاهدات، وعدة أسماء لاتزال عالقة في ذهني، وحري بذكرها ضمن هذه الذكريات التي تبدو متناثرة، ولكنها ليست متناثرة... في العام 1971، كان في صفنا تلميذ اسمه أحمد، كان الأطول من بين كل التلاميذ، وكان أيضا مراقب الصف، ويمتلك من الصفات ما يجعله محبوبا من الجميع... غير أن أحمد كان عراقيا من أصل إيراني (عجمي)، وهذا لم يغفر له كل حسناته لدى مدرس الرياضة، ذلك البعثي الشرس.

ففي أحد الأيام كان المطر يهطل علينا، ولم يكن بالإمكان الخروج من أجل الرياضة في ساحة المدرسة، فقرر مدرس الرياضة أن يعطينا درسا عن «حزب البعث العربي الاشتراكي» داخل الصف... دخلنا الصف، وبدأ يكتب شعارات الحزب على السبورة بهدف شرحها لنا... ومن ثم قام يشرحها. وكان شعار «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» يتكرر على لسان كل بعثي، وبدأ يشرح لنا ماهي الأمة العربية. في الأثناء رفع أحمد يده ليسأل سؤالا، إلا أن مدرس الرياضة رد عليه «اسكت، أنت عجمي».

أحمد كان واقفا في آخر الصف، وفوجىء بالرد، ووجهه تحول إلى اللون الأحمر، وتمتم ببعض الكلمات التي لم أسمعها... وبمجرد أنه تمتم بشيء ما، وإذا بذلك المدرس الشرس يهجم عليه هجوما عنيفا، إذ ركض إلى آخر الصف، وبدأ بالركل والضرب (وكان مدرس رياضة وصاحب عضلات)، ولم يتوقف عن أحمد إلا بعد أن أنهكه بالضرب والشتائم.

خلال بعض سنوات الدراسة الابتدائية، كان أحد أصدقائي العراقيين يدعى صباح، ووالده كان مدرسا في المدرسة، وكان والده صاحب هيبة وشخصية قوية جدا، وكان قياديا في حزب البعث. كان صباح يحدثني أن والده سجن لمدة سنة أو سنتين (لا أذكر) وأنه أفرج عنه وعاد إلى التدريس مع وصول حزب البعث إلى الحكم في 1968. وكنا نخرج أحيانا بعد الدوام، ولكنه أخبرني بأن المكان المفضل لديه بعد المدرسة هو «منظمة الحزب»، وهو الفرع الذي يؤسسه حزب البعث في كل مدينة ومنطقة، وقال إنه يتمنى أن يكون مثل والده، بعثيا ومسئولا في منظمة الحزب. لم أتحدث معه لاحقا عن منظمة الحزب أو عن والده، فقد كان صديقا عزيزا (وأخلاقه كانت رفيعة)، واستمرت صداقتنا، وإن كانت بدرجة أخف من السابق.

العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً