للذين لا يعلمون عن مواقف والدنا الوطنية والتاريخية، وللذين يعرفون ويحرفون ثم يغالطون التأريخ، أروي بقية حديث والدنا معي في ذلك اليوم من العام 1967، حين سألته عن الصعوبات التي صادفته عندما وصل العراق، إذ تنفس طويلا، وبدا كأنه يشحذ ذاكرته، ثم ابتسم ابتسامة تدل على الرضى النفسي الذي يعايشه، وعلى القناعة التامة بكل ما أقدم عليه، وأشعل سيجارة بعد أن لفها بيده، وقال لي:
يا ولدي...، عندما استقر بي المقام هنا بالنجف الأشرف، شعرت بشيء من الأمان، على رغم ما كنت أعانيه من قلق على أوضاعكم أنتم بالذات، وعلى رغم قلقي المتناهي على مصير قضيتنا الوطنية، وأيضا على رغم صعوبة الحياة التي عانيت الكثير بسببها، لكني وطنت نفسي وتجاوزت تلك الصعاب بالصبر... وبالصبر وحده...، أما أصعب الأمور وأقساها على نفسي فهي الحكاية الآتية التي لم تكن تخطر على بالي أبدا...
ففي مساء أحد الأيام من صيف العام 1957م، بعد صلاة المغرب تحديدا، سمعت طرقا على بابنا، وحين فتحته، وجدت نفسي أمام ثلاثة رجال...، سلموا عليّ وقبلوا يدي واحدا تلو الآخر، وعرفوا أنفسهم، أنهم زوار إيرانيون، حضروا للعراق لزيارة العتبات المقدسة، وأنهم سمعوا عني، وجاءوا للسلام عليّ، فرحبت بهم، وأدخلتهم في إحدى غرف المنزل المعدة كمجلس للضيوف، وبعد تناول الشاي، بدى أحدهم وكأنه متردد في أمر يريد أن يقوله، فكسرت حيرته، وسألته عما يريد، فقال، وهو يتحدث العربية بطلاقة، (إذ علمت فيما بعد أنه من سكان المحمرة)، قال لي: تسمح لنا يا سيدنا بالحديث معكم حديثا خاصا جدا؟ قلت له: لا بأس في ذلك، وأنا لم أزل أجهل قصده، فقال بأسلوب غاية في التهذيب: يامولانا... صاحب الجلالة (شاهنشاه إيران) يخصكم كثيرا بالسلام، ويتمنى لكم دوام الصحة، قلت له وأنا مندهش: عليكم وعليه السلام ورحمة الله، قال: أنتم تعلمون يا مولانا كم هو مقامكم رفيع عند جلالة الشاه، وهو يكن لكم كل الاحترام، وهو يعلم بما أصابكم من حكامكم ومن الإنجليز المستعمرين، وزيادة في تكريمكم، يدعوكم الشاه أن تأتوا إلى إيران معززين مكرمين...، قلت له وقد تضاعفت دهشتي وزاد استغرابي...، لماذا أذهب إلى إيران وأنا هنا مرتاح بجوار مقام جدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟
قال لي، وقد بدت عليه علامات الثقة الزائدة: إن الشاه سيكرمكم بأن تكونوا (عضوا في البرلمان الإيراني)، بحيث تشغلون المقعد الشاغر، والخاص بلواء البحرين، والدعوة يا سيدنا مفتوحة لكم وعائلتكم الكريمة.
وكعادة والدنا يرحمه الله، وكما روى بنفسه، إذ قال: يا ولدي...، حين سمعت ذلك الحديث من ذلك الرجل...، انتابتني غضبة شديدة، حدثت نفسي ساعتها أن أطرده من هذا البيت، لكني تمالكت نفسي وسيطرت على أعصابي بقوة بالغة، وتذكرت على وجه السرعة أنه مرسل من قبل الشاه، وليس من أي إنسان عادي، وأن الماثل أمامي لا يمثل نفسه، بل يمثل أقوى رجل في منطقة الخليج، فأرخيت العنان للحديث الهادئ، وتظاهرت بالهدوء قائلا له: يا أخي الكريم...، بلغ جلالة الشاه شكري وتقديري لهذه الالتفاتة، وأنا ممن يحترمون ويجلون مقام جلالته، ولكن أرجوك أن تحمل اعتذاري الشديد لجلالته، مقرونا بالتقدير والاحترام، فقال لي، وقد بدت على وجهه علامات الدهشة والتعجب: ربما طلب مني جلالته معرفة سبب اعتذاركم عن عدم الاستجابة، فماذا عساني أن أبلغ جلالته؟ قلت له: أرجوك أن تبلغ جلالته بكل الاحترام، أنني من حيث المبدأ...، لا أقر...، ولا أعترف...، أن البحرين تابعة للدولة الإيرانية، ولم تكن كذلك بأي شكل من الأشكال على مدى تأريخها الطويل، وبلادي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، فكيف يريد جلالته أن تصبح عن طريقي تابعة لإيران؟
إن هذا أمر لا يمكن لأي مواطن بحريني شريف أن يساوم عليه...، ومن يفعل ذلك يكون خائنا لوطنه...، بائعا لدينه وشرفه...
وثانيا: أنا لم أخرج من البحرين بسبب خلافاتنا مع حكومتنا، فالخلافات يمكن أن تحل إذا حسنت النوايا، ولكني أخرجت من بلادي على يد الإنجليز، وعلى يد المستشار بلغريف بالذات، الذي كنا ومازلنا نرفض هيمنته على جميع مفاصل الدولة، بصورة استبدادية تعكس بشاعة الاستعمار، وسنعود إلى بلادنا إن شاء الله، بعد أن تتخلص من هذا المستشار المستبد.
فارتسمت على وجهه علامات الدهشة والتعجب، مصحوبة بالانبهار والإعجاب، وربما لأنه لم يكن يتوقع أن يسمع ما سمع، ولم يقل بعدها إلا بضع كلمات للمجاملة، والاستئذان بالانصراف، فودعتهم شاكرا لهم هذه الزيارة وتلك الدعوة (البغيضة)، فصافحني الرجل وكأنه يشعر بالخجل، ثم صافحني صاحباه اللذان لم ينطقا بحرف واحد طوال جلستنا التي استمرت أكثر من ساعة، ولعلهما حضرا فقط من أجل الاستماع إلى ما يدور من الحديث، وتسجيله في عقولهم، أو على أي شيء آخر... الله وحده يعلم...
أغلقت الباب خلفهم - والحديث لايزال لوالدنا - ورجعت يا ولدي إلى الدار، والحيرة كانت تتملكني، والأفكار تتضارب في رأسي...، وأخذت أضرب أخماسا في أسداس...، - كما يقال -، وأصدقك القول يا ولدي...، لقد خشيت على نفسي من أن أضعف تحت وطأة تلك المغريات، لكن خشيتي وخوفي على وطني، كانت أقوى من خشيتي على نفسي، وهذا الخوف على الوطن، هو الذي منحني ساعتها تلك القوة، وتلك الجرأة في رفض ذلك العرض السخي الخادع، وحين خرج أولئك النفر من دارنا...، شعرت بكثير من الزهو والاعتزاز بالنفس، فقد حفظت نفسي، وحافظت على تاريخي، وأبعدت نفسي عن شبهة الخيانة الوطنية، أقول لك هذا يا ولدي حتى تكون قويا مهما تكالبت عليك حوادث الدنيا.
لكن... وبعد مضي أربعين يوما تقريبا من تلك الزيارة، تكررت زيارة ذلك الرجل الذي عرف نفسه (الحاج محمد)، ومعه هذه المرة شخصان آخران فرحبت بهم، وأدخلتهم (المجلس)، وبعد السؤال والجواب عن الصحة والأحوال، وأخبار الطريق من إيران للعراق، وأثناء تناول الشاي، بادرني وذكرني بزيارته الأولى...، وبالحديث الذي دار بيننا...، وكرر الدعوة الشاهنشاهية لي للرحيل إلى إيرن، وبدت لهجته هذه المرة قوية وصارمة، فشعرت من خلال كلماته بتهديد مبطن، خصوصا عندما تحدث عن أولئك المعارضين للشاه، وقال إن دراع الشاه طويلة، وقادرة على النيل ممن يقفون في وجهه...، لكني... أصبحت أكثر ثقة...، وكررت عليه إجابتي السابقة، مضيفا إليها أنني لن أتمكن من استقبالهم مرة أخرى لهذا الغرض أو لغيره، فاستأذنوا بالانصراف حين تيقنوا من إصراري على جوابي السابق...، وغادروا منزلنا، ثم لم أرهم بعد ذلك.
أما وقد بلغت الأمور هذا الحد، فأصدقك القول يا ولدي...، لقد ساورتني المخاوف، خصوصا حين سمعت تهديداته المبطنة، فما كان مني إلا أن ذهبت في اليوم التالي إلى قائمقام النجف السيد مهدي هاشم، ولما كان بيني وبينه من صداقة طيبة، بسبب موضوع إقامتي في العراق، والتي ساعدنا كثيرا في الحصول عليها، استقبلني في مكتبه بكل الترحاب بأسلوب الكرم العراقي، وبعد مقدمات المجاملة، وتناول الشاي، أخبرته بالحادث، وبما دار بيني وبين أولئك الضيوف من الأحاديث في الزيارتين، فظهرت عليه علامات الانزعاج والامتعاض، فاستغفر وحولق، وجاملني بكلمات أخوية طيبت خاطري، وأبدى أسفه الشديد قائلا: أنا آسف يا سيدنا أنك تلاقي مثل هذه المضايقات من أجانب وأنت في بلادنا، بل أنت في وطنك وبين أهلك، ولا تستغرب من مثل هذه التصرفات، ولا أظن هؤلاء الجماعة إلا من المخابرات الإيرانية (السافاك)، ومن جانبي، وحماية إليك، أنصحك أن تقوم بزيارة إلى بغداد، تقابل فيها فخامة رئيس الوزراء السيد (نوري السعيد)، وتشرح له تفاصيل هذه القضية المهمة، التي تقلقك وتقلقنا عليك، لأن نوري السعيد هو الوحيد القادر على إيقافهم عند حدهم، وبأريحيته الطيبة، بادرني قائلا: يا سيدنا... إذا أردتم موعدا مع فخامة الرئيس، فسأرتب لكم ذلك بطريقتي الخاصة، فاستحسنت ذلك الرأي، وشكرته كثيرا، ثم عدت إلى منزلنا وقد تملكني شعور بالارتياح.
بعد أسبوعين، جاءني السيد قائمقام النجف بنفسه، وأخبرني أن فخامة الرئيس نوري السعيد يرغب في رؤيتي بعد ثلاثة أيام، فشكرته، واستبشرت خيرا، وقبل يوم من الموعد كنت في بغداد، وفي اليوم المحدد ذهبت إلى دار (السراي) أي دار الحكومة، فاستقبلني أحد موظفي الرئاسة مرحبا بي، وأدخلني في قاعة الانتظار، وبعد نحو عشر دقائق صحبني إلى مكتب فخامة الرئيس، الذي أعجبت كثيرا بشخصيته ودماثة خلقه، فرحب بي ترحيبا طيبا، وبادرني بالقول: يا سيد... كنت أود أن أراك قبل هذا التاريخ، ولكن مشاغلي الكثيرة تمنعني حتى من رؤية أفراد أسرتي أحيانا، فشكرته على تلك المجاملة، ومن دون أن أضيع وقته، سردت عليه قصة أولئك الزوار بتفاصيلها، فتفهم الموضوع كثيرا، وبحزم رجل الدولة القوي، طمأنني قائلا: أنت في بلاد تنعم بالأمان، ولن يتمكن أحد من إيذائك، وستجد تعليمات لدى السيد قائمقام النجف بخصوص إقامتكم في العراق، وإذا جدت أمور فلا تتردد، وأخبر قائمقام النجف...، حينها شعرت بالارتياح، وشكرته كثيرا على حسن استضافتهم لي، وتسهيل أمور إقامتي، واستأذنت بالانصراف، فودعني عند باب مكتبه، وحال خروجي، وجدت أحد موظفي الرئاسة يضع نفسه تحت أمري، وصحبني إلى سيارة خاصة كانت خارج المكتب، وقال لي: تفضل أوصلك للنجف، قلت له: أشكرك كثيرا...، أنا سأذهب بالباص، فابتسم قائلا: أنا لا أستطيع مخالفة أوامر فخامة الرئيس، فصعدت السيارة وعدت إلى النجف مصحوبا بذلك الرجل، الذي أصبح فيما بعد واحدا من أصدقائي، لأنه من بلدة الكوفة، ويتردد على النجف كثيرا. بعد يومين فقط من مقابلتي فخامة الرئيس نوري السعيد شعرت أن بيتنا أصبح تحت الحراسة (المبطنة)، أي أنهم يحرسون بيتنا من دون أن يشعرونا بذلك.
استمرت الحراسة حتى قيام ثورة 14 يوليو/ تموز العام 1958 التي قادها الزعيم عبدالكريم قاسم، إذ اختفى الحراس، وفي خضم التغييرات الدراماتيكية التي طرأت على الساحة العراقية، لم يطرق بابنا أحد، لا من الحكومة، ولا من أولئك الضيوف.
أما الرجل الفاضل قائمقام قضاء النجف، والذي أحيل على التقاعد بعد قيام الثورة، فقد كانت تربطه صداقة قوية بأستاذ في جامعة بغداد اسمه الدكتور فوزي القيسي، وكما روى لي هو، أنه كان يحدث ذلك الأستاذ وغيره بقصتي مع (السافاك) الإيرانيين، وكيف كان معجبا بوطنية السيد علي وحرصه على عروبة البحرين، وبتضحياته في سبيل أن يرى وطنه حرا مستقلا منتميا إلى أرض العروبة، وتشاء الأقدار فيصبح ذلك الأستاذ الجامعي وزيرا للمالية في عهد فخامة الرئيس أحمد حسن البكر العام 1968، وفي ذلك العام يقوم صاحب السمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله بزيارة إلى العراق، وفي معيته كان وزير المالية السيد محمود العلوي، ووزير التربية والتعليم أحمد العمران، (والحديث هنا لوالدنا يرحمه الله بعد عودته من العراق العام 1969، وأنقل ما قاله بالمعنى، وليس حرفيا:
أذكرك يا ولدي بحديثنا عن المخابرات الإيرانية - ويظهر أنه حديث محبب إلى نفسه - فقد علمت فيما بعد من صاحبنا قائمقام النجف، أن صديقه وزير المالية العراقي سرد تلك الحكاية على مسامع الاستاذ أحمد العمران، والسيد محمود العلوي، اللذين كانا يرافقان سمو الأمير الشيخ عيسى في تلك الزيارة، فما كان منهما بعد العودة للبحرين، إلا أن أبلغا سمو الأمير بما سمعاه من وزير المالية العراقي، فتأثر كثيرا، وأمر من وقته وساعته بأن يجدد جواز سفر السيد علي وأن يدعى للعودة إلى وطنه بعزته وكرامته، فكانت عودة والدنا في صيف العام 1969 بعد أن قضى أربعة عشر عاما في المنفى.
وليس الداعي وراء سرد هذه الحكاية سوى كشف جوانب من حياة والدنا، كانت خافية على كثير من الناس، وفي الوقت نفسه دحض كثير من الافتراءات التي حاول بعضهم إلصاقها بهؤلاء الرجال.
العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ