يتم الترويج لثقافة السلام ويسوق الراعي الصالح منذ الصباح الباكر الحملان إلى المسلخ، فليس مستبعدا - كما يقول بول شاؤول وهو يعري ثقافة السلام - أن يعمد بعض هذه الأنظمة إلى قمع الظواهر الشعبية للمقاومة كيلا تكون المقاومة الجنوب لبنانية نموذجا أو مثالا. فالزلزال الجنوبي هزّ الجماهير العربية لصدمة تاريخية وهزّ أيضا قادة الأنظمة واستسلامها لإرادة القوى العظمى.

ثقافة السلام وانطلاقا من تحرير الجنوب يجب أن تكون أولا وأخيرا ثقافة من مكوناتها الأساسية استعادة الحق العربي، وليس فلسطين والجولان ولبنان، بل كل أرجاء المنطقة العربية، وثقافة السلام تعني كذلك تحرير الإرادة العربية في تقرير مصيرها وفي استغلال خيراتها والمحافظة على إرثها، وثقافة السلام تعني أن لا سلام ولا ثقافة إلا باعتبار السلام نضالا ضد الكيان الصهيوني، نضالا لا يتوقف إلا باسترجاع كل ما سلبه وكل ما يفكر في سلبه.

فمنطقة الخليج تقع بين فكي كمّاشة للصراعات الدولية وحسابات الصهيونية، فلا تنفصل هذه المنطقة عن مجمل استراتيجيات الدول العظمى التي تصل أحيانا إلى حد الصدام فيما بينها لا يحسم إلا باختلاق خلافات بين دولها أو حروب تكون مدعاة قوية لوجود دولي أو صهيوني.

فما عادت تخفي مطامح الصهيونية في الخليج، فقد رأر مؤسس الصهيونية هرتزل أن منطقة الخليج تشكل تحدّيا ينصب في وجه تنفيذ المشروع الصهيوني واعتبر أن التغلب عليه في البداية عبر التفكير في تفتيت المنطقة والسيطرة عليها لاحقا، وكتب الصحافي الهندي كارا نغيا في كتابه «خنجر إسرائيل» يقول: «إن اليهود سيتمكّنون من اغتصاب حقول الزيت في الجزيرة العربية وإن وجودهم في فلسطين سيفتح الطريق إلى هذه المنطقة المهمة». وفي نكتة إسرائيلية لخص الكاتب الإسرائيلي ريتشارد بارونشتاين ذلك بقوله: «توجه النبي موسى (عليه السلام) بشكل عندما قاد بناء (إسرائيل) عبر التيه نحوالأرض الموعودة، فلو أنه سار نحو اليمين باتجاه الجزيرة العربية بدلا من اليسار باتجاه المتوسط لكنا الآن نطفو فوق بحر من النفط».

وفي كتاب «الخليج العربي بين الإمبرياليين والطامعين للزعامة» لمؤلفه آغريغوري بونداريفسكي قال: «قال هرتزل العام 1904 إن ما يلزمنا ليس الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المشتّتة المقسّمة إلى كثير من الإمارات الصغيرة الواقعة تحت سيادتنا والمحرومة من إمكان الاتحاد ضدّنا».

ونشرت مجلة «المستقبل» عن عدد من الخبراء الفرنسيين والبريطانيين أنهم أكّدوا أن لدى «إسرائيل» خططا احتياطية متعددة للقيام بعمليات عسكرية متنوعة الحجم ضد منطقة الخليج العربي، وأن هذه الخطط تحاط بالسرية التامة طبعا، وليس من المستبعد أن تشمل القيام بعمليات كوماندوز ضد الإنشاءات والمواقع المهمة والحساسة في المنطقة وهي خطط تعدها «إسرائيل» بعد حرب 1973.

في العام 1981 تحدث المحلل العسكري رئيف شيف في صحيفة إسرائيلية عن اهتمامات شارون الاستراتيجية فقال في سلسلة مقالات بعنوان «الأيام المئة على حكم شارون»: «إن اهتماماته الاستراتيجية أن يبسط جناحيه بشكل يتجاوز دول المواجهة المحاذية لنا حتى بعيدا عن الدول العربية الأكثر بعدا عنا». وعندما طرح اقتراحه المتعلق بالتعاون الاستراتيجي أمام الأميركيين لاحظوا أن الباروميتر الاستراتيجي لشارون يشمل دولا إفريقية كثيرة، حتى مداخل المحيط الهندي، وترسّخ العربي في أعماق رأس أرييل شارون وعبّر عن ذلك الكاتب الإسرائيلي: «لماذا لا نستخدم جيش الدفاع في أرجاء الشرق الأوسط الذي لا يعدو كونه منطقة خواء سياسي؟ منطقة مباحة ليس فيها أية قوة حقيقية، النفط يعادل المال والمال يمنح القوة لدى العرب، نفط ومال، ولكن قوّتهم ليست سوى وهم! ذلك أنهم بغير حماية والأمّة لا تعتبر قوية إلا عندما تعترف الأمم الأخرى بأنها قوية فعلا. والعرب بمقدورهم الاستمرار في لعبتهم مادامت كذبتهم سارية المفعول، فهم قادرون على تهديد الأوروبيين واليابانيين بواسطة سلاح النفط، وستطلب أوروبا واليابان من واشنطن تهديد (إسرائيل). سيهددون واشنطن بأنها إذا لم تفعل ما يريدون فسيكون لذلك آثار خطيرة».

ويضيف «ولكن ما الذي سيحدث فيما لو لم يعد العرب يسيطرون على نفطهم؟ ما الذي سيحدث فيما لو تحول النفط العربي إلى نفط (إسرائيل)؟ وماذا سيحدث لو وصلت القوات الإسرائيلية إلى الكويت؟ فالكويت كما هومعروف تقع ضمن مجال قدرة طائرات سلاحنا الجوي، فالمسافة بين الكويت وتل أبيب أو العكس رحلة يومين فقط! وما من قوة على هذا الطريق يمكنها أن توقف زحف رتل دبابات إسرائيلية»!

ويواصل الكاتب عن المخططات الصهيونية في فكر شارون إزاء الخليج فيقول: «وبعد أن تحتل (إسرائيل) الكويت فلن يعود النفط سلاحا عربيا»، وفي حينها علّق سعدالدين الشادلي على الرؤية الإسرائيلية وأطماعها في الخليج مؤكدا أن خطة العدو ممكنة التحقيق من الناحية العسكرية ومضمونة 100 في المئة، ونسبة تفوّق العدو 5/1 ونشر هذا في صحيفة «القبس» الكويتية.

و «ها هو الاستعراض في العالم الحاضر والغائب في آن واحد الذي يجعل مبدأ صنمية السلعة تسيطر على المجتمع بواسطة أشياءَ تفوق الحواس وهي محسوسة كذلك، وهذا المبدأ هو ما يبلغ تحققه المطلق في الاستعراض، إذ يستبدل العالم المحسوس على أنها هي المحسوس بلا منازع. الاستعراض يكون مرئيّا هو عالم السلعة الذي يسيطر على كل ما هو معاش، هكذا فإن السلعة تظهر كما هي لأن حركتها تتماثل مع تباعد البشر فيما بينهم وفي مواجهة ناتجهم الكلي»، بحسب جي ديبور.

هكذا استحكم العالم حلقاته حولنا، فعندما نستيقظ نحن الموتى ماذا نرى؟ عندها في الحقيقة نرى أننا لم نحيَ قط، بحسب «ابسن» ولم يحدث شيء على رغم كل ما مر بنا سوى أننا اقتسمنا صمت ما حدث كما رددت الشاعرة المبدعة فوزية السندي.

فالدولة العربية الحديثة ورثت دولة المستعمر وقامت على غرارها مستنسخة هياكلها ووظائفها، دولة مركزية تنصب نفسها وصية على المجتمع ككل، تراقبه وتسيّره بل تبتلعه ابتلاعا، وها هي الآن تطرح الخصخصة وكأنها الحل السحري للمشكلات الاجتماعية التي فشل القطاع العام في حلها جذريا على رغم أن القطاع الخاص في الأقطار العربية قطاع غير متجذر، قطاع تابع إلى مراكز الهيمنة العالمية، فهو لا يستطيع أن ينخرط بفعالية في المنافسة الدولية ولا يستطيع أن يقوم بالدور ذاته الذي قامت به الرأسمالية في أوروبا؛ لأنه يفتقر إلى الاستقلال والدولة القومية الحامية، والموارد الخارجية المساعدة وتلك هي الأسس التي قام عليها النظام الاقتصادي الليبرالي في أوروبا.

إن ما يميز العولمة هو أن الفاعلية الاقتصادية فيها تقوم بها المقاولات والمجموعات المالية والصناعية الحرة مع مساعدة دولها عبر شركات ومؤسسات متعددة الجنسيات والغاية التي تجري إليها هي القفز على حدود الداخل أو الخارج، والسيطرة بالتالي على المجال الاقتصادي والمالي عالميا.

وبما أن عملية التنافس والاندماج التي تحكم هذا النوع من النشاط الاقتصادي تعمل على التركيز والتقليص من عدد اللاعبين، فالنتيجة هي تركز الثروة العالمية في أيدي أقلية من أمثال عبود الغاوي ومجموعة أخرى قريبة منه تتناقص عدد أفرادها باستمرار.

وكما يرد الشيطان (الخادم) قائلا: دارت العجلة ولن تتوقف بعد اليوم.

يقول له عبود: هل تتخيل ما سيكلفه هذا التجدد الذي تزفه لي من خراب وضحايا؟.

الخادم: ومتى كنا نهتم بمسح الخراب، وإحصاء الضحايا؟

عبود: أما كان يمكن أن نتجدّد إلا على أنقاض هذه البلاد البائسة والتعيسة؟

الخادم: لا أعرف سبيلا يجدد القوة بعد ضعف دون أن يخلّف وراءه خرابا وضحايا. ولكي أكون دقيقا هناك سبيل واحد.

عبود: ما هو؟

الخادم: كل شيء جاهز. بِيْعَ المجمع للمسئول الكبير، ووُزِّعت الأراضي مقاسمَ لبناء فيلات وشاليهات للاستجمام. وحُوِّلت الأموال إلى الخارج. ولم يبقَ إلا أن نودع شركاءنا... ونصعد الطائرة.

عبود: هل فعلت هذا كله دون علمي؟ قل لي: من يخدم الآخر؟ أنا أم أنت؟

الخادم (الشيطان): كلانا يخدم الآخر. ماذا دهاك يا سيدي، هل تقلّص طموحك إلى إدارة ملهى صغير، وفي بلد صغير؟ أنسيت من نحن؟ أنسيت أننا أرصدة وأسهم وودائع وحركة سوق طبعا؟ كان نافعا لدمك ودمي الملايين التي كسبناها، ولكن هل جئنا إلى هنا من أجل هذا الربح العابر؟ طبعا لا... لقد جئنا كي نجد علاجا للتجدد لنضمن تدفق الدماء من هذه البقاع الفتيّة إلى عروقنا التي استهلكها الإسراف والشيخوخة، لم يفسر الفرصة لثراء عدد من الأعوان إلا لكي نزين صورة السوق، ونضمن نزوح الأموال والفوائد إلينا، ولم نبتلع أموال الناس لحاجة، بل لكي نروّضهم على الخضوع لجبروت السوق وتقلباتها.

وفي النهاية يأتينا صوت الزرقاء يردد بحسرة وألم: اللهم صلِّ على النبي. أبصر الناس يتذابحون والدم يشخب ويسيل في الطرقات كلهم يتلاومون ويتذابحون، لا يميزون قرابة أو جيرة، ولا يعرفون كيف يحدّدون المخطئ من المصيب... والقتلى متناثرون كالحشرات في كل مكان. أبصر عبدالرحمن الدرويش كالشبح المهزول يطلق النار على رأسه ويسقط على الأرض جثة. توقف القتال ولف الضيعة غطاء من الرعب والخيب. قُتل من قُتِل، وسُجِن من سُجِن، وهاجر من هاجر، ويلاه سيأتي دورك يا بسام في الليل يداهمونك، وإلى سجن بعيد ينقلونك. أبصر المجمع يتلألأ بالأضواء. أبصر غرباء يديرونه. ومازالت الأشياء والنفايات تتساقط كالأمطار. والثعبان يبصق فئرانا تملأ الحقول المتروكة، البيوت المهجورة. أبصر نفرا من أهلنا ترك الشيطان على وجوههم ختمة وعلامة. وهم يزدهرون ويزدهرون ومع الغرباء يتحالفون، أما أصل الناس الآخرين في قريتي يشقون ويكدحون. آه بعدهم يدورون مع أمانيهم، أبصرهم يجرون وراء أحلامهم، أبصرهم لا يجدون إلا السراب، لا شيء إلا السراب، سراب براق وملوّن وقاتل. وبعد أن نموت في نهاية مسرحية ملحمة السراب.

يقول بسام لفاطمة: يبدو أن أمامنا ليلا طويلا يا فاطمة.

فترد فاطمة لتقول: نعم إنه ليل طويل.

وقد تصدق على مأساتنا قصيدة الشاعر الإيراني أحمد شملو، إذ يقول:

أن تولد

على البرعم المعتم

كالولادة المفتوحة لجرح

أن تخوض سفر الخروج

الفريد للمصادفة

أن تحترق بشعلة أحدهم

حتى الومضة الأخيرة

على شعلى الانحناءة

التي أنشأها العبيد

من غبار الطريق

تأكدت أن لا مد وجزرَ

هذا الذي لا يحد

كان سجنا كبيرا إلى حد

أن الروح

اختبأت في الدموع

من عار العقم.

فأي حرية وأي دولة ستكون؟

ورغم كل هذا فإن من بعيد ينحدر إلينا صوت الروائي الإفريقي غايرائيل كارلووهو يودعنا قائلا:

«فلنعش حتى نرى أنفسنا في الغد».

* كاتب وناقد ومخرج مسرحي