العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ

الشيخ الجمري... الاعتقال والحصار والإقامة الجبرية لم تثنه يوما عن شعبه

في الذكرى الأولى لرحيل صاحب مسيرة العطاء والنضال من أجل شعب أحبه

هل كانت مصادفة أن يستريح هذا المحارب الشجاع المقدام ليقابل وجه ربه بعد أن تمكن من تحقيق جزء من حلمه وحلم شعب احتضنه في قلبه كما احتضنوه في قلوبهم؟ غادرهم بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات النيابية التي توافق الشعب على المشاركة فيها، كان ذلك جزءا من حلم قدم من أجله العلامة المجاهد الشيخ عبدالأمير الجمري تضحيات تلو الأخرى لسنوات طويلة من عمره، قدم خلالها أقرب الناس إليه قربانا في سبيل وطن حلم به أن يكون الأفضل، واتسع قلبه لحمل هموم شعبه على أكتافه من دون مقابل، ولم يشأ القدر أن يمهله ليتشارك مع شعبه قطف ثمار تضحياته، وكان صراعه الطويل مع المرض الذي امتد لأكثر من أربع سنوات سببا في ابتعاده عن الحياة العامة، إلا أنه كان حاضرا في وجدان أبناء شعبه الذين علمهم كيف يحبون وطنهم ويدافعون عنه.

«لن ننساك أبا جميل»... لسان حال كل أبناء شعبه، سيظلون يرددونها ويتذكرون مواقفه الشجاعة والنبيلة وإرادته وقوته وطيبة قلبه وخوفه على أبناء شعبه، وعدم نسيانه لهم حتى في أحلك الظروف التي مر بها.

الاعتقال... الحصار... الإقامة الجبرية... المحاكمة غير العادلة... وأهم المحطات الأخرى في حياة الشيخ الجمري تتذكرها «الوسط» في ذكرى رحيله الأولى...

مولده ونشأته

والد الشيخ الجمري هو منصور بن الحاج محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني. وكان مدرس قرآن وصاحب مصنع نسيج يدوي.

وجدّه عبدالرسول كان تاجرا في سوق المنامة، إذ كان يتاجر في الأقمشة. وعبدالرسول هو أيضا جد الملا عطية بن علي بن عبدالرسول الجمري الذي جدد المنبر الحسيني في البحرين.

وُلد الشيخ في قرية بني جمرة، قبل الفجر بساعة تقريبا في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة في العام 1356 للهجرة، الموافق للعام 1937.

وكانت نشأته في القرية المذكورة في كنف والده، وكانت محطته الدراسية الأولى في مدرسة البديع الابتدائية للبنين.

ويقول الشيخ عن ذكرياته في تلك الفترة: «كان والدي كثيرا ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحيانا، حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. وصار يعلّمني القرآن بعد إكمال السادسة من عمري، حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم، وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة»، إلا أن الشيخ لم ينعم كثيرا بحضن والده الذي توفي عنه وهو في سن العاشرة من عمره.

ويتحدث الشيخ الجمري في مذكراته الشخصية عن بداياته المبكرة جدا مع المنبر الحسيني، إذ يشير إلى أنه تعلق منذ صغره ومنذ دخوله الابتدائية بالمنبر الحسني، وكان في سن مبكرة حين كان يقرأ مقدما للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري صاحب ديوان: «شعار الحزين» بأجزائه الثلاثة وهو في رثاء الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام باللسان الشعبي. وتتلمذ الشيخ على يد الملا جاسم وعمل خطيبا حسينيا مع الملا عبدالله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره، وبعد ذلك عمل الشيخ الجمري في سوق المنامة لدى عدد من التجار لإعالة نفسه، وكان في الوقت ذاته يدرس على يد الشيخ عبدالله بن محمد صالح، ولاحقا الشيخ باقر العصفور والسيدعلوي الغريفي.

دراسته العلمية

يؤكد الشيخ الجمري أن السبب في دراسته العلمية هو أنه كان يقرأ فاتحة المرحوم الحاج عبدالله أبوديب في مأتم القصاب، وهو شخصية بارزة في البحرين، ومن أعضاء الهيئة التنفيذية العليا التي تأسست في أكتوبر/ تشرين الأول 1954 «سميت بعد ذلك بهيئة الاتحاد الوطني» وكانت تمثل وتقود الشعب كله في نضال سلمي من أجل تحقيق مطالبه، وتتلخص في تكوين مجلس تشريعي وتأسيس نقابات عمالية وسن قوانين مدنية عادلة.

ويضيف الشيخ الجمري في مذكراته أن مأتم عزاء أبوديب كان ضخما جدا، وحضره الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح، إضافة إلى ثمانية من أهل العلم منهم المرحوم الشيخ باقر العصفور والسيدجواد الوداعي والشيخ أحمد العصفور والمرحوم الشيخ عبدالعظيم الربيعي. وتناول الشيخ الجمري خلال مأتم العزاء موضوعا في المراقبة الإلهية كان قد استقى أكثره من كتاب عباس كرارة المصري، وأعجب الموضوع الجمهور، وكان الشيخ الجمري يعتبره سببا في ارتباطه بالشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح (قدس سره).

وقال عن ذلك: «أشار إليّ بعد القراءة بيده فقمت، فأخذ بيدي، وصار يحدثني وهو متجه إلى السوق عن الدراسة العلمية ويحثني عليها حثا شديدا، حتى زرع في نفسي العزم على ذلك والشوق إلى الدراسة. فقلت له: ومن يدرسني؟ فقال: أنا أدرسك. وبدأت أدرس عنده لمدة سنتين مدة متقطعة، هاجرت بعدها إلى النجف الأشرف في 1962م بحسب إرشاده وحثه لي».

وكان الشيخ الجمري قبل هذه الفترة حضر دروس الشيخ عبدالله مدة شهر تقريبا، في مسجد الخواجة في المنامة، إذ كان يدرس هناك المدة المذكورة ويحضر عنده بعض الخطباء المتقدمين في السن، وكان الشيخ يسجل الدروس التي يتلقاها عند الشيخ عبدالله بقلمه.

وحين سافر الشيخ عبدالله إلى شيراز، حيث توفي هناك، تولى الشيخ باقر العصفور تدريسه مدة ثلاثة أشهر، كما درس عند العلامة السيدعلوي السيدأحمد الغريفي في «القطر» من بدايته إلى نواصب الفعل المضارع، وقبل أن يسافر المرحوم الشيخ عبدالله كان قد شجعه على الهجرة إلى النجف، وبشره بمستقبل علمي جيد...

قرار الرحيل إلى النجف الأشرف

كان الشيخ الجمري متزوجا من ابنة عمه زهراء التي أنجبت له قبل الرحيل إلى النجف ابنه الأكبر محمدجميل وكان في الثالثة من العمر، ومنصور الذي كان رضيعا عندما سافر إلى النجف في العام 1962.

ويقول الشيخ الجمري إنه استأجر منزلا في «الحويش» - أحد أحياء النجف الأربعة القديمة وهي المشراق والعمارة والبراق والحويش - بجوار بيت المرحوم السيدعلي السيدإبراهيم كمال الدين النعيمي، الذي عرفه بدوره بالكثير من الأهالي في العراق.

وتنقل الشيخ الجمري وعائلته من منزل لآخر في العراق، كان آخرها منزل بين «الحويش» و «العمارة» قرب منزل آية الله علي الخلخالي، وسكن فيه حتى عودته إلى البحرين في العام 1973، وهو المنزل الذي أكد الشيخ الجمري أنه مازال في ملكي وبيده عليه وثيقة «طابو».

والتحق الشيخ بالحوزة العلمية في النجف الأشرف والتقى كبار المرجعيات الدينية والعلماء ومن بينهم السيدحسن بحر العلوم والسيدمحيي الدين الغريفي ومكث هناك 11عاما، وكرس وقته من أجل العلم والتزود بالمعرفة والاحتكاك بذوي الشأن العلمي، وكان من خيرة الرجال وأكثرهم خلقا، كما نال الكثير من الشهادات الدينية العليا التي تعادل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.

وفي مجال البحث الخارج حضر الشيخ الجمري مدة عامين تقريبا بحث آية الله السيد أبوالقاسم الخوئي (طاب ثراه) في «الأصول»، وبحث آية الله الشهيد السيدمحمد باقر الصدر (قدس سره) في «الفقه الاستدلالي على ضوء العروة الوثقى».

الإجازات والوكالات التي حصل عليها

للشيخ الجمري إجازة رواية من آية الله السيدعلي الفاني الأصفهاني مؤرخة في 25 شعبان 1391هـ. كما أنّه وكيل على قبض الحقوق الشرعية وغيرها من الأموال الشرعية وتولّي الأمور الحسبية من قِبَل عدد من الحجج والمراجع، وهم: السيدعلي الحسيني السيستاني، والسيدعلي الحسيني الخامنئي، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ محمد فاضل اللنكراني، بالإضافة إلى أنّه كان وكيلا من قِبَل عدد من المراجع، وهم: الشيخ محمد أمين زين الدين، والشيخ محمد علي الأراكي، و السيدمحمد رضا الكلبيكَاني، والشيخ الميرزا علي الغروي، والسيدحسين بحر العلوم (قدس الله أسرارهم).

وألف الشيخ عدة كتب منها، من واجبات الإسلام، ومن تعاليم الإسلام، والمرأة في ظل الإسلام، وكتب شعرية عدة، كما نشر له عدد من المقالات الأدبية والدينية والقصائد في بعض الصحف والمجلات العراقية كـ «الأضواء»، و «التضامن الإسلامي» حينما كان في النجف الأشرف، وفي عدد من الصحف والمجلات البحرينية بعد عودته إلى البحرين، وذكره صاحب كتاب «معجم الأدباء والكتاب العراقيين» ضمن هذه الموسوعة.

العودة إلى البحرين وعضوية المجلس الوطني

بعد 11 عاما قضاها الشيخ الجمري في تحصيل العلم بجامعة النجف الأشرف، عاد إلى البحرين بعد استقلالها ووضع دستور الدولة من قبل المجلس التأسيسي، وكانت عودته بناء على طلب مؤكّد من منطقته من أجل أن يرشِّحَ نفسه لعضوية المجلس الوطني.

وكان طلب المنطقة أكيدا، إذ استفتى في الموافقة على الطلب كلا من المرجعين الدينيين الشهيد السيدمحمد باقر الصدر(قدس سره) والشيخ محمد أمين زين الدين (قدس سره)، فأفتاه الأول بوجوب الموافقة، والثاني بالجواز...

وبناء على ذلك قَفَلَ عائدا إلى البحرين بعائلته، ولم يكن ذلك موافقا لرغبته الحقيقية، إذ كان راغبا جدا في مواصلة الدراسة لعلَّه يحصل على شيء يعتد به من العلم.

وحين رجع ورشّح نفسه لعضوية المجلس الوطني لم يقم بأي نوع من الدعاية الانتخابية وتوزيع الصور ووضع الملصقات التي تبيِّن أهداف المرشّح وتدعو الناس إلى انتخابه.

غير أنه تم انتخابه عضوا في المجلس عن الدائرة الانتخابية الرابعة عشرة مع الشيخ عيسى أحمد قاسم، وكان رصيدهما بالنسبة لأصوات الناخبين على مستوى عموم الدوائر الانتخابية أعلى الأرصدة، وكان لهما مع كتلتهما الإسلامية في المجلس الوجود الفاعل، والمواقف الواضحة والجريئة، وخصوصا تلك المطالبة بالمزيد من الإصلاحات التي تخدم المواطنين، وخصوصا الطبقة الفقيرة.

حل المجلس الوطني

كعضو معارضة نشط، عارض الشيخ الجمري بقوة فرض قانون أمن الدولة الذي أصدره الأمير في أكتوبر من العام 1974، وهو قانون يعطي الصلاحية لوزير الداخلية لإصدار أمر باعتقال أي معارض لمدة ثلاثة أعوام قابلة للتجديد.

وعلى إثر صدوره وقع عدد من أعضاء المجلس الوطني، وهم الشيخ الجمري، رسول الجشي، علي صالح الصالح، عبدالله المدني، محمد سلمان أحمد حماد، محسن حميد مرهون، وخالد إبراهيم الذوادي على وثيقة رفض الكتل النيابية المرسوم.

وجاء في الوثيقة ‏أنه: «بتاريخ 14 ‏يونيو/ حزيران 1975 ‏عقد اجتماع بين السادة الموقعين لبحث الأزمة الناتجة عن موضوع المرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة، واتفق المجتمعون على ما يلي: 1‏. أن تدلي الحكومة في المجلس وفي جلسة علنية بالبيان التالي نصه: «بناء على تقرير لجنة الشئون الخارجية والداخلية والدفاع المرفوع إلى المجلس عن المرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة وبعد أن استأنست الحكومة برأي جميع أعضاء المجلس الموقر، تعد الحكومة المجلس بإعادة النظر في المرسوم بقانون المذكور في مدة أقصاها شهر يوليو/ تموز 1975. وعليه تطلب الحكومة تأجيل النظر فيه لكي يتسنى لها ذلك».

2‏. كما اتفق المجتمعون كذلك على ما يلي: ‏أ . أن تكون الجلسة التي يدلى فيها بالبيان المذكور جلسة علنية.

‏ب . أن عبارة إعادة النظر تعني إلغاء المرسوم، وأن يسجل ذلك في محضر جلسة رسمية للجنة الشئون الخارجية والداخلية والدفاع، يحضرها رئيس المجلس والحكومة وعدد من الأعضاء.

‏ج . أن يكون شهر يوليو 1975 ‏هو المدة القصوى للحكومة لتقوم بإلغاء المرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة.

إلا أن رد الحكومة على هذه الوثيقة جاء بحل البرلمان، وإيقاف العمل بعدد من مواد الدستور في أغسطس/ آب 1975.

تعيينه قاضيا

في العام 1977 سافر الجمري إلى العراق ثانية ومكث في النجف لمدة شهرين، التقى خلالها الكثير من العلماء والشيوخ وتدارس معهم الموقف ثم عاد إلى البحرين وعين قاضيا في المحكمة الكبرى وبمرسوم أميري، وظل في هذا المنصب لمدة 12 عاما.

وكشخصية بارزة في المجتمع فإن نطاق نشاطاته امتد خارج جدران المحاكم ليتضمن كل النشاطات الثقافية بما في ذلك المعارضة السلمية للظلم الاجتماعي الناتج من غياب الحياة النيابية والتطبيق الفظ لقانون أمن الدولة.

وهي الفترة نفسها التي حدثت له فيها بعض المشكلات والعوائق وخصوصا بعد قيام الثورة الإيرانية، وكثيرا ما استدعي من قبل وزير الداخلية في مكتبه للاستجواب بسبب ما أسموه فتح مجلسه اليومي لزائريه ومرتاديه، ما جعل المخابرات تشك في تحركاته وكل خطواته فشددت الرقابة السرية عليه.

إيقافه عن العمل واعتقال ابنه وزوج ابنته

في العام 1987 وتحديدا في شهر مايو/ أيار أقام الشيخ الجمري احتفالا كبيرا في جامع الإمام زين العابدين ببني جمرة ، حضره جمهور كبير، وعلى إثره استدعي الشيخ من قبل السلطة واستجوب وطلب منه وقف هذه الأنشطة والفعاليات، واعتقل في ذلك اليوم عدد من الشباب الذين كانوا يترددون على مجلسه باستمرار.

وعلى رغم أن قانون البحرين لا يسمح بإقالة أي قاضٍ فإن الشيخ الجمري أوقف عن العمل في يوليو/ تموز من العام 1988. وبعدها تم اعتقال كل من ابنه (محمدجميل) وزوج ابنته (عبدالجليل خليل إبراهيم)، وتم تعذيبهما بشدة وإدانتهما للقيام بنشاطات معادية للحكومة ثم حكم عليهم بالسجن لمدة عشر وسبع سنوات.

الشيخ الجمري نفسه تم اعتقاله في 6 سبتمبر 1988 لكن أطلق سراحه بعد بضع ساعات عندما تظاهر الناس في الحال ضد ما قامت به الحكومة، وكان العقاب البديل لذلك هو حكم ابنه وزوج ابنته.

العريضة النخبوية

من منزله ومن المسجد المجاور عاود الشيخ الجمري نشاطاته المعتادة بالإضافة إلى تأليف الكتب وتشكيل الحلقات التعليمية في المسجد كما استمر في القيام بحملاته ضد سياسات الحكومة غير العادلة.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1992 تبنى مع خمسة آخرين عريضة تنادي بإعادة العمل بالدستور وبإعادة البرلمان المنحل كما هو منصوص عليه في الدستور. تم توقيع العريضة من قبل المئات من الشخصيات البارزة من كل قطاعات المجتمع البحريني.

العريضة الشعبية

في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1994، تم تبني عريضة نادت بإعادة العمل بالدستور وإعادة البرلمان المنحل، ووقعها أكثر من 20 ألف مواطن.

السبت الأسود و «المبادرة»

حوصرت منطقة بني جمرة من قبل قوّات الشغب لاعتقال الشيخ الجمري في الأول من أبريل/ نيسان من العام 1995، وهو اليوم الذي أطلق عليه «السبت الأسود»، إذ سقط فيه شهيدان، هما محمد جعفر يوسف ومحمد علي عبد الرزاق، بالإضافة إلى العشرات من الجرحى والمعتقلين، الذين لبّوا نداء الواجب للدفاع عن الشيخ ومنع قوات الأمن من اعتقاله.

ووضع الشيخ الجمري وعائلته حينها تحت الحصار لمدة أسبوعين، وبدأت بذلك أول إقامة جبرية في تاريخ البحرين، إذ عانى 18 شخصا من عائلة الشيخ الجمري الحصار معه.

ثم نقل إلى المعتقل، وفي 25 سبتمبر 1995، أطلق سراح الشيخ الجمري، وذلك بعد ستة أشهر من اعتقاله. وخلال فترة سجنه قام مع رفاقه بمبادرة لتهدئة الوضع وتركزت على مرحلتين: إعادة الهدوء بإطلاق سراح القادة المعتقلين ونحو ألف معتقل معهم، يتبعها بعد ذلك إقامة حوار سياسي للاتفاق على نقاط الإصلاح السياسي على الدستور المعلق.

تم إطلاق سراح الشيخ الجمري وقام عشرات الآلاف من الناس في جميع مناطق البحرين بالاحتفال بإطلاق سراحه وسراح زملائه. غير أن الاعتداءات التي شنتها قوات الأمن على التجمعات السلمية وعدم التزام الحكومة بالإفراج عن المعتقلين أدت إلى تأزم الوضع مرة أخرى.

ما دفع أصحاب المبادرة إلى الاعتصام في منزل الشيخ الجمري والإضراب عن الطعام لمدة عشرة أيام حتى يوم الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1995، وذلك حين تجمع نحو 80 ألف مواطن أمام منزل الشيخ الجمري معلنين التضامن والصمود، وكان هذا أكبر تجمع في تاريخ البحرين.

الاعتقال الثاني والزنزانة الانفرادية

تم اعتقال الشيخ الجمري وجماعة المبادرة وعدد من رجال الدين مرة أخرى في الأسبوع الأول من يناير/ كانون الثاني من العام 1996. ووضع الشيخ الجمري في زنزانة انفرادية مباشرة بعد اعتقاله في الساعات الأولى بعد منتصف الليل وذلك لمدة تزيد على التسعة شهور.

ثم نقل إلى سجن تمت فيه مراقبته في كل كلمة يقولها وكل شيء يفعله ومنعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه فيما يتم تسجيل كل كلمة تقال وتم من خلال ذلك حجب الشيخ عن كل شيء حتى الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة.

وطوال فترة اعتقاله كان يعاني من تدهور حالته الصحية لما يعانيه من ضيق في التنفس وحالة ضعف عامة.

المحاكمة

وجاء موعد المحاكمة في 7 يوليو من العام 1999، دخل الشيخ الجمري قاعة المحكمة محاطا برجال الأمن، ورفض جميع التهم الموجهة إليه، لكنه هتف بصوت عالٍ: «أطالب بالبرلمان وبالعدالة ومصلحة الشعب، وأنتم غدرتم بالشعب».

وصدر الحكم الظالم بحقه عشر سنوات سجن وغرامة مالية قدرها 15 مليون دولار (5.7 ملايين دينار)، حينها دوت قاعة المحكمة بالهتافات المعادية. وخصوصا بعد أن تمت تلاوة التهم الموجهة للشيخ الجمري والتي تمثلت في جنايات السعي والتخابر مع من يعملون لمصلحة دولة أجنبية، إدارة منظمة ترمي إلى قلب نظام الحكم بالقوة، التحريض على اتفاق الغرض منه ارتكاب جناية الإتلاف العمدي للمباني والأملاك العامة، وجنحة إذاعة أخبار وإشاعات كاذبة وبث دعايات مثيرة في داخل البلاد وخارجها من شأنها النيل من هيبة الدولة واعتبارها ولضرب الأمن العام.

وكان تعليق الشيخ الجمري بعد صدور الحكم أن قال: «إنها أصغر هدية أقدمها للمستضعفين من هذا الشعب».

الإفراج والحصار المنزلي

في اليوم التالي لإصدار الحكم، وبتاريخ 8 يوليو أفرج عن الشيخ الجمري بعفو أميري، وطُلب من الشيخ الجمري بعد زيارته جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة لتعزيته في وفاة والده الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أن يقرأ رسالة اعتذار وتعهد بالالتزام بالشروط التي فرضتها وزارة الداخلية، ونقلت قراءته للرسالة على قناة تلفزيون البحرين.

وقبل ساعتين من ظهور الشيخ الجمري في التلفزيون، امتلأت شوارع بني جمرة والمناطق المجاورة بأبناء الشعب الذين كانوا يسعون للقاء الجمري، إلا أن قوات الشغب كانت لهم بالمرصاد ومنعت تجمعهم أو وصولهم إلى منطقة بني جمرة، وفرض الحصار على منزل الشيخ الجمري بعد الإفراج عنه إلى شهر يناير من العام 2001 حين أصدر جلالة الملك أمرا بإطلاق سراح الشيخ الجمري.

مساعٍ لتهدئة الأمور

بُذلت الكثير من المساعي من قبل جلالة الملك وكبار علماء وشيوخ البحرين من الطائفتين لتهدئة الأمور وإعادتها إلى طبيعتها، وكان المستشار الثقافي لسمو الأمير آنذاك حسن فخرو، زار الشيخ الجمري في بيته وأبلغه تحيات جلالة الملك، وكذلك الوزير السابق جواد العريض.

المحطة الأخيرة

في حياته في شهر مايو/ أيار من العام 2000، وأثناء فترة الإقامة الجبرية، أصيب الشيخ الجمري بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري.

وقام جلالة الملك بزيارته وأمر بعلاجه وإحضار أكبر الأطباء إليه، كما زاره سمو رئيس الوزراء للاطمئنان على صحته.

بعد ذلك ازدادت الأمور تعقيدا وتدهورت صحته وأرسل إلى ألمانيا في يونيو من العام 2002، واكتشف أنه يعاني من جلطة في الرأس أمام العين منذ أن كان في السجن، أجريت له عملية في الظهر بألمانيا ليصاب بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ، وبلغ عدد الجلطات التي أصيب بها أربع جلطات جميعها في الرأس.

وفي يناير 2003من العام نقل للعلاج في «مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية» بالرياض.

وعاد الشيخ إلى أرض الوطن بعد أشهر إلى منزله وتكرر تعرضه لضيق في المسالك التنفسية ومشكلات أخرى، أفقدته لاحقا قدرته على الكلام، وقبل شهر رمضان في العام الماضي، الماضي أصيب بالانتكاسة الأخيرة، إذ تعرض لجلطة شديدة في المخ أدت إلى تدهور حالته الصحية، وبعد أن أدخل إلى المستشفى في المرة الأخيرة كان قد فقد القدرة على الكلام، ولم يكن يستطيع تناول طعامه ووضع له أنبوب خاص في المعدة لمساعدته على التغذية ، واستمر التدهور في صحته إلى أن توفي فجر يوم 18 ديسمبر 2006.

«لن ننساك يا أبا جميل»

لم يقف البرد القارص حائلا أمام عشرات الآلاف من الشباب والنساء والأطفال الذين تجمعوا في الساعة السادسة من مساء يوم 18 ديسمبر من العام الماضي للمشاركة في تشييع الشيخ الجمري إلى مثواه الأخير في أكبر تشييع شهدته البحرين. الدموع والحناجر والقلوب المفجوعة والأثواب السوداء وصور الشيخ الجمري طغت على الجنازة التاريخية التي خرجت من بعد صلاتي المغرب والعشاء عند دوار القدم، وانهالت عليها حشود بشرية كبيرة من قرى شارع البديع ومن مختلف مناطق البحرين، وشارك في تنظيم الجنازة مئات الشباب، فضلا عن مشاركة هيئات حكومية. وتقدم المسيرة عدد كبير من العلماء من بينهم رئيس المجلس العلمائي الشيخ عيسى قاسم وعدد من النواب الحاليين والسابقين وأعضاء مجلس الشورى والمجالس البلدية ورؤساء الجمعيات السياسية والأهلية. ووضعت عمامة الشيخ فوق الجنازة المرفوعة على أكف المشيعين الذين ساروا أكثر من 3 ساعات مشيا على الأقدام، مرددين شعارات «بالروح بالدم نفديك يا جمري» و «لن ننساك يا أبا جميل»، مستذكرين جوانب شخصيته المتنوعة... خطيبا للمنبر الحسيني، وقائدا سياسيّا متزعما الحركة الدستورية في التسعينات. المشيعون وصلوا إلى قرية بني جمرة في التاسعة مساء، إذ صلَّت الجموع الغفيرة على الجثمان في ساحة المقبرة وسط مشاعر عاطفية جياشة، وحاول المنظمون عبثا منع آلاف الشباب من دخول المنطقة التي ووري فيها جثمان الشيخ الثرى عند الساعة العاشرة بحضور عدد من المسئولين والسفراء ورؤساء الجمعيات وأقارب الفقيد.

العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً