نراهم موزعين في الشارع وفي البقالة وفي الأسواق وفي كلّ مكان، من عرقيّات وقوميّات ومناطق مختلفة، فرّقتهم السياسة والصراع ووحّدهم الحسين إلى «سُفرته الإلهيّة»، يتجمّعون لينطلقوا كلّ عام في مواكب تشق شوارع المنامة ليالي المصائب، رافعين أصوات المواساة بمصاب الحسين بن علي (ع) بلغاتهم، غير عابئين بما يمكن أن يثيره ذلك من تعجّب واستغراب. مواكب الجاليات الآسيويّة هو أقرب توصيف للجاليات الهنديّة والباكستانيّة التي تشارك معا في مواكب عاشوراء، والتي بدأت رحلتها منذ السبعينيّات مع مأتم بن سلوم. وعن هذه المرحلة يقول رئيس المأتم أحمد بن سلوم إن موكب المأتم كان يضمّ حلقة لعزاء البهرة، وحلقة لعزاء الباكستانيين والهنود، وحلقة أخرى لعزاء العُمانيين أيضا الذين كانوا موجودين بكثرة آنذاك.
وبشأن سبب خروج مواكب الجاليات عن مأتم بن سلوم قال إنهم طلبوا القراءة في المأتم بلغتهم بدل القراءة العربية فرفضت الإدارة ذلك، وعرضت عليهم القراءة في إحدى القاعات المتصلة بالمأتم. ولمّا تلقوا عرضا مناسبا من مأتم بن رجب للقراءة بالليل ذهبوا إلى هناك، ولايزالون إلى اليوم إلا أن الوضع تغيّر بإفساح المجال للخطابة بالعربيّة والأجنبيّة.
أرادت «الوسط» أن تنقل عن قرب بعض تفاصيل هذه الصورة المشرقة من صور مواساة هذه الجاليات، فكان لقاؤها مع محمد عارف (50 عاما)، وهو خطيب حسينيّ باكستانيّ الجنسيّة يعمل في البحرين منذ العام 1983. عارف قدم للبحرين منذ 25 سنة طلبا للرزق، تاركا أسرته في باكستان. تتلمذ على يد حجّة الإسلام والمسلمين سيّد محمد ولايت علي في منطقة كُجرات بولاية البنجاب في باكستان، كما تلقى بعض الدراسات الدينيّة في مدرسة «جامعة المجتبى».
مشاركة سلفيّة في البنجاب
يقول عارف عند حديثه عن المجالس الحسينيّة في ولاية البنجاب إن «الإخوة السنة والشيعة يتشاركون في مجالس العزاء بلا فرق، بل قد يحاضر بعض علماء السنة في مآتم الشيعة، ومن هؤلاء المفتي السلفيّ محمد إسحاق فيصل آباد الذي يحاضر بالمآتم، ويصلي الناس سنة وشيعة خلفه، وكذلك خريّج الأزهر الشريف وسوريّة العلامة محمد طاهر القادري صاحب مدرسة منهاج القرآن الذي يحاضر بالمآتم في عاشوراء أيضا، ويقدّم محاضرات في المناسبات الدينيّة في التلفزيون». أمّا أشهر الخطباء المبرّزين في باكستان فهو العلامة طالب جوهري تلميذ الشهيد السيد محمدباقر الصدر، وهو يظهر في التلفاز الرسميّ يوم العاشر ليقدم مجالس حسينيّة.
نفور من الطرح السياسيّ الطائفي
أما عن تقليد المأتم الحسينيّ في البحرين فأوضح عارف أنه جرت العادة على أن يبدأ المأتم الذي يستمرّ ساعة ونصف الساعة بتلاوة آي من القرآن الكريم، ثم يقرأ الشعراء أبيات مديح ورثاء لآل البيت، يتلو ذلك محاضرة عن العقائد والأخلاق الإسلامية بالأردية، وبعدها يختم المجلس بأبيات رثائية، والعزاء.
عارف أوضح أنه يتم إحياء جميع المناسبات الدينية، ولكن الخصوصيّة هي لإحياء عاشوراء. وقال إن الحضور يتفاعل لدرجة أن المأتم يمتلئ وترى الناس يجلسون بالخارج، كما يشهد المأتم حضورا نسائيا كبيرا.
ولفت عارف إلى أن الطرح المنبريّ لا يتطرّق إلى السياسة مطلقا، كما يتجنب الطرح الطائفي المتطرّف، بل يحاول في تناوله العقائد المذهبيّة التأكيد على الوحدة الإسلامية علامة جامعة لكلّ المسلمين.
وعمّا إذا كانت هناك حساسيّة من التجاور بين الهنود والباكستانيّين في مكان واحد نفى عارف بشدّة إقحام الخلافات السياسيّة في المأتم الحسيني، موضحا أن الجميع حضر لمواساة الرّسول (ص) بمصيبة الحسين (ع). ولدى سؤالنا فيما إذا كانوا يتعرّضون لأيّة سخريّة أو استهزاء في التعامل قال عارف «إننا نجد الاحترام والتقدير بخروجنا لتقديم العزاء في هذه المناسبة الدينيّة، وأيّ شخص يسيء لنا فإننا نعذره، ونعتبر مثل هذا التصرف صادرا عن أطفال معذورين».
مصادر التعزية الحسينيّة
أما الكتب التي يعتمد عليها في قراءة التعزية الحسينية، فقد ذكر أنه يطّلع على عدد من كتب العقائد الإسلامية المترجمة للأردية، أمّا كتب المصائب فيعتمد فيها على مقاتل السيّد عبدالرزاق المقرّم المترجمة للأردية، و «معالي السبطين» للمؤلف محمد مهدي المازندرانيّ المترجم، ومن الكتب الأرديّة «أربعة عشر نجما» لنجم الإسلام كرارفي، و «نعيم الأبرار» لمولانا غلام حسين، و «مصباح المجالس» لسيد ظفر الحسن أمروهي، و «نسيم المجالس» لسيد نسيم عبّاس رضوي، بالإضافة إلى مجالس العالم السيد عليّ نقي النقويّ الهنديّ الأصل.
ولفت عارف إلى أن التجمّع الوحيد والأساسيّ للجاليات الآسيويّة بالبحرين هو في مأتم بن رجب، وفيه يتقاطر المحبّون من شتى المناطق، كما يشارك بعض الإخوة السنة في المأتم ويشاهدون العزاء بلا أيّة حساسيّة. ولم يغفل عارف الإشارة إلى أن مأتم بن رجب استقدم هذا العام للمرّة الأولى بعد انقطاع 25 عاما خطيبا حسينيا باكستانيا هو السيّد عليّ مرتضى زيدي لتقديم محاضرات دينية طوال عشرة محرم.
أشهر رواديد الباكستان والهند
وبيّن عارف أن العادة جرت على أن يكون للموكب رادود أساسيّ ومعه مساعدون أربعة أو أكثر، والقصائد التي تنشد فحسينيّة بحتة. أما عن أشهر الرواديد الباكستانيّين فهم: نديم سرور، صادق حسن، شيدي (هندي). وفي البحرين اشتهر من الرواديد: درويش علي للبتان، ومدثر إقبال للبنجاب، ورئاست علي للهنود. وممّن غادر البحرين عُرف سيد اشتياق حسين للبنجاب، محمد حسين للبتان.
وبشأن المواكب التي تخرج قال عارف إنها أربعة بحسب المناطق واللغة وبينها اختلاف طفيف في طريقة اللطم. وهم كالآتي: قبائل البتان (حدود أفغانستان) ولغتهم البشتو، موكب البنجاب باللغة البنجابيّة وحركتهم الأسرع والأقوى، موكب إقليم بلتستان باللغة الأردية، موكب الهنود باللغة الأردية. وقال «الكلّ في البحرين يشارك بحسب منطقته في المواكب التي تخرج من ليلة الثامن إلى العاشر ويومه ويوم الأربعين ووفاة الإمام علي، فيما يكون العزاء في بقية المناسبات داخل المأتم». وقال إن مواكب الجاليات تسير خلف مأتم بن رجب، إلا أنهم يشرعون في القراءة قبله أيّام العشرة، موضحا أن ترتيب مواكب الجاليات فيما بينها يختلف كلّ عام. وبالنسبة إلى قضية الطبخ ذكر أنه يتم وفق الذوق الباكستاني في كل مناسبة دينيّة، إلا أنه يكتفى في عاشوراء بالطبخ ليلة العاشر ويومه ويوم الأربعين وليلة وفاة النبي، ويتم الاعتماد في بقيّة ليالي عاشوراء على ما يطبخه مأتم بن رجب.
وختم عارف كلامه بالإشارة إلى الارتياح من مستوى التعاون والتنسيق الذي تبديه إدارة مأتم بن رجب معهم، مشيدا بالتوجّه إلى التعريف بموكب الجاليات الآسيويّة في الصحافة المحليّة.
نموذج من الرثاء الحسينيّ بالأرديّة *
أي محسن دين جيتي رهين تيري عزادار
هي دين كي غنجه مين تيري خون كي مهكار
مولا جو تجهي ديني تهي إلزام بغاوت
آج انهين كو تيري ماتم سي عداوت
بتهر هي وه دل جسكو تيري غم سي انكار
مهمان كي لي كيا هي ية ريت عرب كي
بياسا بهي هو سه روزه تبش بهي هو غضب كي
أمّت كا هي مهمان كونين كا سردار
******
يا حسينُ أحيا الله الذين ذكروا مصيبتك
هذا الدين ينمو ويكثر معتقدوه ببركة دمك
أمّأ الذين بغوا عليك مولاي
هم الذين اليوم يبغضون ذكرك وذكر مصيبتك
أمات الله قلوب الذين قسوا وأنكروا مصيبتك
وهل من سنّة العرب في التعامل مع الضيوف
أن يظلوا عطاشى في الحر الشديد؟
كيف بذلك والضيوف أولاد الرسول وسادة الأمّة؟
@ هذا جزء من قصيدة شائعة باللغة الأرديّة تقرأ في مواكب عزاء الجاليات بمأتم بن رجب
العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ