قرأت بعناية ما تفضل بكتابته رئيس التحرير تحت عنوان «آن الأوان لتعديل شروط الانتساب للخدمة العسكرية» كما قرأت الرد الوارد بقلم الأخ عادل الدوسري تحت عنوان «آن الأوان لترسيخ الولاء»، وقد أحببت المشاركة في هذا السجال الذي أتمنى من الصحيفة أن لا توقفه أبدا، بل أن تضاعف نشر الردود والردود المقابلة، عملا بالصحافة النزيهة التي اتخذت «الوسط» طريقها إليها منذ التأسيس.
سأكون واضحا بأن كل صحافتنا تفتقد هذه المساجلات، وصفحات القراء باتت صفحات للشكاوى والردود الرسمية، حتى دجن القارئ، وأصبح يستمرئ كل ما يقرأ اتفق أو اختلف معه، وبات قارئا سلبيا، لذلك فإني في المقدمة أنصح صحيفة «الوسط» بأن تفتح السجال على مصراعيه، وتترك حرية تصاعد النقاش طالما كان في حدود الأدب، واللياقة، وطالما كان يصب في مصلحة وطنية عليا، وحتى يصبح لومنا لكل رد منفلت من عقال الشرع والعقل، الذي يأتينا من بعض المنتديات، مبررا، ومقبولا، لأننا أتحنا في صحفنا ما يتسع من الردود والسجالات.
إن الرد الوارد بقلم الأخ عادل الدوسري يفتح المجال مجددا ليس للحديث عن الولاء وترسيخه كما يطلب، بل الحديث عن ترسيخ ما يجب فعلا من ترسيخ مفهوم مستجد للولاء، هو مفهوم الولاء للوطن بكل مكوناته، لأني أعتقد أن المشكلة التي نقع فيها كلما فتحنا هذا النقاش، هي الاختلاف في مفهوم الولاء أصلا، وهذا يجب أن نضع حدودا له، حتى لا يرمى مواطن شريف نظيف، بتهم الولاء للبلد الفلاني، والارتهان للأجنبي.
ولعل الكاتب الدوسري أدخل نفسه في دهليز التشكيك مجددا عندما فسر التصويت على عروبة البحرين، بأنه كان عدم ارتياح لشاه إيران، فإن كان هذا صحيحا فيجب أن يغيِّر الشيعة آراءهم في وطنهم اليوم، وهذا ليس بصحيح، لنسأل هذا السؤال الافتراضي: هل لو صوت اليوم على العروبة سيتراجع البحرينيون الشيعة عن قناعاتهم؟ بالتأكيد لا، فهم عرب أقحاح تشهد بذلك أنسابهم، وسياساتهم، وقراراتهم، ولكنهم أيضا مسلمون، ينتمون إلى مذهب يدينون به، ولهم قياداتهم الدينية العليا ويتلقون منها التوجيهات التي لا تتناقض مع الوطنية، والولاء بالمفهوم العميق للوطن.
أما الإشكالات التي وردت وما أكثر ما اتهم بها الشيعة، واتخذت ذريعة للطعن في ولائهم للوطن، فيمكن أن أعلق عليها بالآتي: نزع صورة الأب من البيت ليست كنزع صورة عالم الدين من المأتم، هذا قياس خاطئ، وأعتقد أن الكثير من الكتّاب والمواطنين يحتاجون إلى التقارب أكثر مع الشيعة ليفهموا كيف يدير الشيعة علاقتهم بمراجعهم، وهذا نقاش عقيدي وفكري مهم جدا ليس في وسع أحد كبحه ثم تبسيط المسألة بالشكل الذي طرحت.
الشيعة يعتبرون الفقهاء مراجع للحياة كافة، في كل شئونها، فهم للدين والدنيا، لكن تقدير المصالح الوطنية، وتشخيص الأوليات، وغيرها، أمر متروك بيد أبناء الوطن. لعلك لا تعلم أخي الدوسري أن الفقهاء أنفسهم لم يتدخلوا بالشكل الذي تعتقد، فهم قادة روحيون إن طرحوا رأيا سياسيا فهذا واجبهم الذي يمليه عليهم الدين، وليس البلد أو القطر الذي ينتمون إليه، وغالبا ما يكون توجيها سياسيا يمكن تكيفه بحسب ظروف الكثير من البلدان، وليس قرارا معلبا كما قد تتخيل.
خذ مثالا واضحا أستله من الحوادث الأخيرة، على مستوى الوطن والأمة، لقد قلت إن صور المراجع ترفع، ولعلك ترى كثرة رفع صور السيد الإمام الخميني (رض) ومرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي، وتعرف أنهم يؤمنون بولاية الفقيه المطلقة، وترى كيف هي علاقة علمائنا الروحية بهم، وعلى رغم كل ذلك فإن علماء البحرين لم يطرحوا رغبتهم في تطبيق ولاية الفقيه، وكذلك لم يناد به حزب الله لبنان، بل كان زعيمه السيد حسن نصرالله يرفع في مقابلته الأخيرة شعار الديمقراطية التوافقية.
أما الصور فقد كرر سابقا أن غيرنا رفع صورا مختلفة لقيادات في حقب مختلفة، بسبب ومن دون سبب، ولم يتهموا في ولائهم، لكن عقلية التشكيك الحاكمة في التعامل مع الشيعة تجعلهم دائما مرمى للطعن في وطنيتهم، وليست تصرفات الشيعة. الصور والأعلام أخي الفاضل هي مسألة شكلية تتعلق بالموضوع، تذكرني بالسجال عن رفع أعلام حزب الله (طبعا لا أحد يتحدث عن أعلام فلسطين) في بعض المناسبات التي تتعلق بالقدس، والمقاومة، وأتعجب إذا كان الموضوع عن فلسطين، وحزب الله مقاومة بل رأس حربة في المقاومة... ما الخطأ في رفع علمه؟!، إذا كنا نتحدث عن يوم القدس، هل من الخطأ أن ترفع صور الإمام الخميني (رض) وهو صاحب الدعوة إلى هذا اليوم؟! نحن في مآتمنا وهي مؤسسات دينية كيف تريدنا أن ننزع صور الزعامات الدينية التي نعتقد بها؟!
صدقني يا أخي، المشكلة في عقلية التشكيك المتواصل، وليست في الشيعة، هل تذكر مسيرة سترة المطالبة بالإصلاحات الدستورية، التي غطتها الأعلام البحرينية، لم تثن هذه الأعلام أحد عن التشكيك في الولاء، على رغم أن رفع العلم كان موضوع المسيرة لأنها مسيرة للمطالبة بشأن وطني. عندما تقدم العلماء مسيرة لرفض ضرب العراق، رفعت الأعلام العراقية، فهل كنا نوالي صدام حسين أو البعث؟!
أما مثالك عن سكرتيرتك الشيعية، فهو افتراض خاطئ من أساسه، ولا تملك أخي العزيز دليلا عليه، فقادتنا للدين والدنيا الفقهاء العدول لا يصدرون فتاوى بهذه الطريقة الأوتوماتيكية كما تعتقد، ودونك ما طرح أيام الانتخابات، فلم تكن آراء مرجع كبير كالسيد السيستاني سوى إحالة لأصحاب الرأي في البلد، ولم تكن دعوة إلأى هذا الرأي أو ذاك بقدر ما كانت نصيحة، نعتبرها نصيحة من قيادة لها الحب والانتماء في قلوب الشيعة، كما يتقبل غيرنا نصيحة كاتب أو سياسي خارج حدود القطر، إلا أن يكون أمرا خطيرا يمس الأمة برمتها، وهذا ما يجمع عليه الفقهاء من كل المذاهب، فمثلا تأييد الفلسطينيين والمجاهدين ضد الاحتلال الصهيوني أفتى به الجميع، ولم يفت به فقيه شيعي.
وأتعجب كيف تفسر العبادات بالطائفية، فالصلاة هي للجميع سنيا وشيعيا، وكذلك الشهادتين، أم تظن أن الشيعة لا يتشهدون بالشهادتين؟، والتسجيلات الصوتية ليست عيبا، ولا حراما، وهي حريات شخصية لم تصل حد الاعتداء على حريات الآخرين، فغيرنا يضع الأناشيد والأغاني بالليل والنهار، ولم تحدث مشكلة.
يجب أن نتكاتف سنة وشيعة من أجل كبح جماح التشكيكات المتبادلة، فهذا هو ما سيدمر الوطن. لا أقول إن الطرفين لا يخطئان، لكن أقول إن الخطأ لا يمثل قدحا في الولاء للوطن، وإن الخطأ ليس هو ما يجب التركيز عليه. بناء الثقة اليوم يحتاج إلى اصطياد كل المواقف الوطنية، واستثمارها، وكذلك يحتاج إلى قوانين تدمج جميع المواطنين في كل خلايا، ومؤسسات الوطن.
وهذا ما حاول ميثاق العمل الوطني أن يفتحه منذ أن تم التصويت عليه على رغم كل النكبات والإخفاقات، وإذا ما أردناه لسفينة الوطن أن تسير بأمن وأمان، فيجب أن نفتح الباب واسعا لنقد كل الممارسات الخاطئة حتى نصل إلى وطن الشراكة، والألفة والمحبة بحق.
عقيل يوسف
العدد 1985 - الإثنين 11 فبراير 2008م الموافق 03 صفر 1429هـ