العدد 1986 - الثلثاء 12 فبراير 2008م الموافق 04 صفر 1429هـ

سياسة خلط الأوراق في قضايا مهمة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

ليست هناك دولة أو منطقة في العالم، تختلط فيها الأوراق وتتعقد المشكلات وترتبك الجهود، مثل ما نحن عليه اليوم... فعلى رغم خطورة الأزمات التي تعصف بنا وتهدد حاضرنا ومستقبلنا، وعلى رغم الضجيج السياسي والصخب الإعلامي الذي يتحدث عن الحلول والمصالحات والتوفيق والتوافق، فإن كل أزماتنا تراوح مكانها... من أزمة الفقر والاحتقان السياسي، إلى أزمة الحروب والصراعات التي تزأر بوحشية!

كنت في الأسبوع الماضي أجلس إلى دبلوماسي عربي متابع لأزمات المنطقة، ودار النقاش حول دور القمة العربية في التصدي لهذه الأزمات، فقال إنه قرأ ما كتبته بعنوان «تلغيم القمة العربية بدمشق» بتاريخ 23 يناير/ كانون الثاني الماضي في هذا المكان، وأكد لي، «أن حل العقدة اللبنانية هو الأمل الوحيد في عقد قمة دمشق، فلا أتصور أن دولا عربية فاعلة وخصوصا السعودية وربما مصر، ستذهب بتمثيل رئاسي إلى قمة دمشق، بينما عقدة لبنان تزداد التهابا وتتسرب عبر الحدود... وهذا أحد تجليات خلط الأوراق».

قلت، نعم هذا صحيح من وجهة نظري أيضا ولكن خلط الأوراق لم يعد مقصورا على الأزمة اللبنانية، فهو يمتد بالضرورة إلى الأزمتين العراقية والفلسطينية، وصولا إلى الأزمة السودانية التي تهدأ قليلا في الجنوب لكي تشتعل في الغرب، ثم امتدادا إلى الهاجس الأمني الذي يظلل دول الخليج العربي، سواء بسبب الأزمة النووية الإيرانية، أو بسبب تكدس القواعد والجيوش الأجنبية هناك، والتي تسن أسنانها وتجهز صواريخها لاحتمالات مواجهة عسكرية شرسة!

وأعتقد أن لعبة خلط الأوراق تجري بدقة أحيانا، وبعشوائية ملحوظة أحيانا أخرى، ذلك لأن الأيدي اللاعبة بهذه الأوراق تتعدد وتختلف أو تتلاقى باختلاف المصالح، والمؤكد أن الأطراف العربية، اللاعبة أو المغلوبة على أمرها هي وحدها التي تدفع الثمن الباهظ، من أمنها واستقرارها، مثلما من ثرواتها وأموالها.

وما شجع على كل هذا الخلط والارتباك الخطير، هو ضعف التنسيق العربي، ولا نتكلم بالطبع هنا عن وحدة المواقف العربية، فلا تعتقد أن المواقف العربية عانت في أي مرحلة ماضية، من غياب التفاهم والتنسيق والتعاون، مثلما تعاني الآن، والأسباب كثيرة منها ضعف الإرادة السياسية وتواري الاستقلال الوطني وغياب الحرص على المصالح القومية الجامعة، مقابل شراسة «الحكم» والحرص على المصالح الشخصية أو القطرية، من دون النظر إلى المصالح العامة عبر المنطقة.

ولهذا وجد التدخل الأجنبي، وفي مقدمته الجموح الأميركي بقواه السياسية والعسكرية والاقتصادية، فرصة إشعال الحروب وشن الغزوات وتخويف الحكام واستنزاف الثروات، في ظل خلط واضح لكل الأوراق لكي تلعب لصالحه فقط لجني المكاسب، وعلينا جميعا تجرع مرارات الخسائر!

في معالجة أزمة غزة وانفجار أهلها عبورا للحدود المصرية بمئات الآلاف، على سبيل المثال، ثبت من تطور الأحداث أن سياسة خلط الأوراق وجدت طريقها بصورة واضحة، فالاجتياح الذي تصورناه عشوائيا، لم يكن عشوائيا صرفا، ولكن أطرافا عدة خططت له ودفعت لتنفيذه على نحو ما جرى، وربما بأخطر مما حدث. لكن العصبية والعشوائية لم تستطع أن تفرز الأوراق المختلطة بدقة كافية...

ونقول إن أطرافا أميركية وإسرائيلية، وعربية وإيرانية، وفلسطينية ومصرية شاركت في خلط الأوراق، ولعبت أدوارا مختلفة لإشعال جبهة «غزة - سينا» لتخفيف الضغط على جبهة «فلسطين - إسرائيل»، وربما يكون هذا أحد العوامل الرئيسية التي دفعت بعض الإعلام المصري مثلا إلى التشدد والمبالغة في خطر «الغزو الفلسطيني لسيناء»، وضرورة دفعه وردعه بعيدا عن حدود الوطن، بينما نعلم جميعا أن غزة وهي جزء من فلسطين كانت وستبقى على حدود الوطن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

بالمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني، نجحت «حماس» في استقطاب تعاطف شعبي هائل، لكن بوقوع الحركة في لعبة خلط الأوراق، حين دفعت مئات الآلاف لكسر الحدود المصرية بالطريقة التي تمت بها مع بعض التجاوزات التي وقعت خلالها، خسرت حماس جزءا مهما من هذا التعاطف، وأظن أن مخاطرة خسارة أي فلسطيني للدعم المصري رسميا وشعبيا، مغامرة فاشلة، لأن مصر كانت وستظل ظهر فلسطين وسندها التاريخي.

وبالمقابل، فإن الهجوم الشرس الذي جرى من البعض في مصر، ضد حماس واتهامها بالخيانة والغدر بمن يساند قضيتها الوطنية، احتد إلى درجة خلط الأوراق بصورة خطيرة، لا تحقق مكسبا ولكنها تسيء إلى الجميع، وتخدم المخطط الأميركي الإسرائيلي على طول الخط، فما أسعد هؤلاء أصحاب المخطط حين يرون المعارك السياسية والمواجهات العسكرية تندلع بين المصريين والفلسطينيين!

ولذلك يخطئ الجميع، وفي المقدمة بعض الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حماس، لو تناسينا الخطوط الاستراتيجية وتجاهلنا المبادئ الأساسية، وهي أن «إسرائيل» هي العدو الرئيسي، وأن تحرير الأرض المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة هو الهدف الأول، وأن كسر الحصار الوحشي المفروض على الفلسطينيين ضرورة من ضرورات العمل الوطني والقومي، وهذه ضرورة تتحمل مسئوليتها بالدرجة الأولى الدول العربية وأولها مصر.

ولا أتصور أن هناك مصريا أو فلسطينيا واحدا، يغامر بالوقوع في خلط الأوراق الحالي، والهادف إلى الإيقاع بين مصر والفلسطينيين، سواء كانوا من فتح أو من حماس أو من غيرهما، وصولا إلى حدوث اشتباكات مسلحة عبر الحدود، لتعريب الصراع، وتحويل دفته بعيدا عن «أمن إسرائيل» فهذه جريمة لا تغتفر لمرتكبيها، وتفسح مجالات الارتياح أمام «إسرائيل» ومخططاتها.

الآن، وبعد أن هدأت الخواطر المهتاجة والمشاعر الجياشة، نتيجة أحداث غزة على الحدود المصرية، وبعد عجز المغرضين عن تطويرها نحو الأسوأ، علينا أن نعيد التدقيق في الأهداف الرئيسية لخلط الأوراق تحديدا من خلال هذه الأزمة... ونظن أن هناك ثلاثة أهداف ظاهرة واضحة، هي:

أولا، ثبت أن دفع مئات الآلاف لاجتياح حدود شرعية، وبطرق غير شرعية، إنما هي «بروفة» تمهد الرأي العام العربي والدولي، لبحث وتنفيذ المشروع الإسرائيلي بتوطين الفلسطينيين في سيناء الواسعة قليلة السكان، وهو المشروع الذي أعده «موزى اراد وجدعون بيجر» وطرحاه للمناقشة في «إسرائيل» وأميركا وأوروبا، حلا لاختناق غزة ولقضية اللاجئين الفلسطينيين المقدر عددهم بنحو خمسة ملايين!

وهناك دعاوى كثيرة بشأن هذا الموضوع يجري الترويج لها إقليميا وعالميا، حتى إذا ما تهيأت الظروف واحتكمت الأزمة، كان المشروع الجديد جاهزا ومقبولا من جانب أصحاب القرار الدولي!

ثانيا، سواء كان الاجتياج الفلسطيني للحدود المصرية، حدث نتيجة مخطط دفين، أو جاء تلقائيا نتيجة الجوع والمرض والفقر تحت شراسة الحصار الإسرائيلي، فإن الجميع لم يقدر جيدا حدة الانزعاج المصري تجاه قضية تدخل في باب السيادة الوطنية، وحين جاء رد الفعل المصري قويا، تفهم الغافلون واقتنع التلقائيون بأن المدبرين كانوا هناك في خلفية الصورة ينتظرون!

والأمر يحتاج إلى تنظيم جديد لا يسمح بكسر الحدود والإساءة إلى السيادة الوطنية المصرية، ويسمح في الوقت نفسه بأن تظل البوابة المصرية مع حدود غزة هي النافذة الرئيسية للتنقل والسفر والتزود بالمؤن المعيشية والطاقة والكهرباء، حتى لا تظل «إسرائيل» تحاصر المليون ونصف المليون فلسطيني في سجن غزة، وتمارس لعبة خلط الأوراق لتحقق مكاسبها وحدها على حسابنا جميعا.

ثالثا، كلما اقترب موعد القمة العربية المقرر انعقادها بدمشق في 27 مارس/ آذار المقبل، زادت لعبة خلط الأوراق وتعقيد الأزمات وتحريك الخلافات، من العراق إلى فلسطين إلى لبنان، والهدف هو تعميق الانقسام العربي حتى لا تنعقد القمة، أو إذا انعقدت تفشل وترسخ الانقسام بين ما يسمى «محور المتشددين» و «محور المعتدلين»، فتفرز الأوراق المخلوطة من جديد، بما يحقق أهداف الاجندة الأميركية الإسرائيلية وحدها.

فهل يجرؤ قادتنا وزعماؤنا على الاجتماع في هذه الظروف، ومناقشة الازمات المطروحة بروح المصالح الوطنية والقومية، بعيدا عن الأجندات الأجنبية، أم أن خلط الأوراق أعمى البصر... والبصيرة؟!

أمام القمة العربية القادمة، طريقان، أما الحد الأدنى من التوافق في الرؤى والسياسات درءا لمخاطر ملتهبة قائمة وكامنة، وأما الخلاف فالانقسام والانشقاق والتخندق في المحاور المتواجهة، المتكئة على احلاف وحلفاء من خارج الإقليم، لهم أجندتهم وعندهم أوراقهم، وهي حتما غير أجندتنا وأوراقنا، فتفكروا يا أولي الألباب.

خير الكلام: يقول حافظ إبراهيم:

عرفنا مدى الشيء القديم فهل مدى

لشيء جديد حاضر النفع ممتع

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1986 - الثلثاء 12 فبراير 2008م الموافق 04 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً