العدد 2015 - الأربعاء 12 مارس 2008م الموافق 04 ربيع الاول 1429هـ

متسولة القبور ... والورود

تمشي بتأنٍ غير مكترثة بحرارة الشمس وطول الطريق. تمشي بتأنٍ وكأنها لا تريد أنْ تقسو على الأرض، فالأرض بريئة، طيّبة، لا تملك قلبا قد يقسو يوما، لا تملك إحساسا قد يتمرد على الفطرة ويتحوّل إلى سكين مجرم. تمشي وتظل المسافة طويلة وإنْ قصرت، وهذا حال المشي حين يكون من امرأة لا تشعر. لا تشعر بحرارة الشمس اللاهبة، لا تشعر بطول مسافة المشي، لا تشعر بشيء «أي شيء». آلمتها الدنيا كثيرا وسلبت في نهاية عمرها الشعور حتى. كم تحمد الله على ذلك، على فقدان الشعور. أحيانا، يتحوّل الشعور إلى نقمة، بلاء، مصيبة ويتحوّل فقدانه إلى فقدانهم. بلا اكتراث وبلا شعور تعيش. لا تحتاجهما، تعبت منهما.

من حاوية قمامة لأخرى تبحث عن أيّ شيء قد يؤكل أو يُباع، «أي شيء». لو كانت ذات «شعور»لبحثت عن «شيء» أما وقد رحل الشعور فصارت الغاية «أي شيء». حاوية كبيرة فيها الكثير من الأكياس السوداء المليئة بالنفايات. صارت تبحث في أحدها وكان مليئا بالصحف، مليئا بمانشيتات حمراء تعلن - وبكلّ فخر واعتزاز - عن ارتفاع مستوى الدخل للفرد في البحرين، عن العمارات والفنادق، عن الاقتصاد والمال، عن العقارات، عن التلاعب بالأموال والفساد، عن سرقة الأرض، عن «كل شيء». لم تكترث، لم تشعر، كما العادة، وواصلت البحث عن «أي شيء».

تمشي وفي يدها كيس أسود به بعض وردات صغيرات من حديقة مرت بها. تطوف في شوارع مزدحمة فتزدحم في ذاكرتها الذكريات التي لا ترغب أبدا في تذكرها لكي لا تصاب بداء «الشعور». لا تريد هذا الداء، لا ترغب به، فهو أساس البلاء، وقد حمدت ربها ألف مرة حين فقدته بعد طول صراع. تمشي والعرق رفيق الدرب، ينساب كما المطر، وهي لا تشعر. كم صارت تهزأ بكلّ ما يُحاول إيذاءها. لم يعد يؤذيها شيء، «أي شيء».

وصلت مبتغاها. رمل ناعم الملمس بجانب مدخل المقبرة يغريها بالجلوس. أمسكت نفسها، لم تجلس. راحت تتجول بين القبور توزع الوردات الصغيرات. وصلت قبرا فانحنت إجلالا ووضعت وردة كإكليل عليه وواصلت المسير. هكذا فعلت مع أكثر من قبر. لا تعرف أصحابها، ليسوا أبناءها، ليسوا أقرباءها، ولكنها تحنو عليهم، تجلهم، تحترمهم، وتهدي كلّ واحد منهم وردة. ولكن لماذا؟ لماذا توزع الورود على القبور؟ لماذا تمارس «الشعور» معهم فقط فتجل وتحترم؟ هل لأن باب المقبرة هو الباب الوحيد الذي لم يلفظها؟ هل لأنّ الأموات لم يطردوها ولم يمنعوا جلوسها بقربهم؟ هل لأنّ موتهم يجعل الأحياء أكثر عطفا على الفقراء فيعطفوا عليها؟ هل لأنها لا تعرف غيرهم ممن يستحق أن يهدي وردة؟ هل لأنها تتمنى المبيت معهم وتسعى بالورود التودد؟

جلست عند مدخل المقبرة. عباءتها تغطي كلّ الجسد ونقابها يغطي كلّ الوجه. لا تأبه بحرارة الجو، حرارة التراب، حرارة العطش، حرارة التسوّل. تجلس وكل أملها أنْ تحظى بشيء من العطف تملأ يدها ببعض النقود. كانت سابقا تجلس عند باب مسجد فنهرها قيمه ولم تكن تحصل على ما يسد الرمق أصلا. يبدو أنّ الصلاة لم تعد تؤثر في القلوب، لكثرة الذنوب. توسمت في المقبرة خيرا، لا تظن أنّ الناس ستنسى الموت في المقبرة، فإذا لم تذكره هنا فأين؟ وإذا ذكروا الموت استعدوا له، هذا هو المفروض، وهذا ما تظن، والعطف عليها أحد طرق الاستعداد للموت. هكذا كانت تظن.

وكانت تظن أيضا، أنها ستحصل على عطف من المغادرين أكبر من القادمين. فالقادمون مازالوا يعيشون الدنيا، مازالوا منغمسين فيها، فيميلون لقبض اليد، أمّا المغادرون فقد تذكروا الموت وتذكروا الآخرة فيميلون لبسطها. تحاول أنْ تتفرس الوجوه، تحاول أنْ تتوقع ولكنها تفشل. أحيانا ترى من بعيد قدوم رجل يبدو عليه الإيمان، ذو لحية غليظة مثلا، فتستبشر خيرا ولكنه يمر دون الوقوف حتى لقراءة الزيارة. وأحيانا يعطف عليها صبي صغير ويعطيها بعض عصير أو بسكويت في يده.

كاد الليل أن يحل ولم تحصل على ما يسد الرمق. تجلس وهي سارحة. أين أولادك عنك؟ تحاول أن لا تسأل هذا السؤال. أين بناتك؟ تقاوم بكل قوّة. أين من سهرت من أجلهم الليالي؟ تقسم أنها إن واصلت مثل هذه الأسئلة فلن، لم تستطع أن تكمل هذه الجملة، تقسم بماذا؟ فلن تقوم بماذا؟ لا تشعر بقيمة أي شيء يستحق أنْ تقسم عليه. وقفت غاضبة من نفسها، غاضبة من الأسئلة التي كادت أن تجر الذكريات، والتي ستجر بدورها «الشعور». خرجت من المقبرة منزعجة، خرجت من المقبرة التي يستحق أمواتها بعض الورود، خرجت من المقبرة التي تأنس بالجلوس بقربها. لتدخل المقبرة الكبرى، لتدخل المقبرة المليئة بالأحياء الموتى، المقبرة التي لا يستحق أكثر من فيها بعض الورود

العدد 2015 - الأربعاء 12 مارس 2008م الموافق 04 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً