العدد 2025 - السبت 22 مارس 2008م الموافق 14 ربيع الاول 1429هـ

ما بعد بابل

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

لقد شكّل الشرق الأوسط جزءا كبيرا من كتاباتي خلال السنوات الست الماضية. وقد حصل ذلك رغم أنني كشاعر، أرى نفسي ضائعا في غابة اللغة، رغم أنّ صوت القصيدة هو الذي يُسمع في نصوص المرء، وليس صوت الشاعر. ورغم أنني أعتقد أنه يتوجّب على المرء ألا يرشد المضمون أبدا أو يلتزم بمجرى موضوع المادة المحددة سلفا، حتى ولو كان يكتب في الظلمة. إلاّ أنني، أحيانا كثيرة، في مغامرة الكتابة وعندما أكون ضائعا بحق، أجد نفسي في مقترح: «وأرى الفلسطينيين وقد أصبحوا يهود النصف الثاني من القرن العشرين، وما يمكن التنبؤ به من القرن الحادي والعشرين». ما أعنيه هو نحن اليهود، الذين عشنا باللغة وحدها، دون أرض أو وطن عبر ألفي سنة. الفلسطينيون هم الآن المرادفون لحياة كهذه. ما أقوله واضح جدا.

لم يكن القول واضحا بحق في يوم من الأيام. يفترض كتابي الذي نُشر العام 2007 وعنوانه «اللغة كمسئولية» ضرورة وجود خطاب تجاه الآخر. اقترح الفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس أن مجرد وجود اللغة يعني ضمنيا وجود «الآخر»، ولذا فإنّ كلّ قول نقوله يحمل وزنا في العالم: أقوال تقف كأنما وجها لوجه، حيث يثبت الوجه البشري وجود الآخر. من هذه الفرضية المنطقية، يدمج كتاب «اللغة كمسئولية» ثلاثة أشكال من الخطاب تجاه الآخر: الحوار، والمقترح، والقصيدة. الجزء الأوّل مقابلة مع الشاعر الإسرائيلي والناشط السلمي أهارون شبتاي، والثاني مقال حول الكتابة العربية والإسرائيلية المترجمة والثالث جزء من إحدى قصائدي. في تلك القصيدة، أخطأت في اقتباس الشاعرة الروسية العظيمة مارينا تسفستيفا، التي كتبت في أوائل القرن الماضي قولها المشهور «جميع الشعراء يهود». ما عنته هو أننا كشعراء، نحن منفيون إلى اللغة، كما كان اليهود، وأن عمل الخلاص لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الكلمات أو بأية كلمات لم تتم إضاعتها بشكل كامل. حوّرت كلامها إلى «جميع الشعراء فلسطينيون». هذا صحيح بالنسبة للشعراء اليهود قبل كلّ شيء. يتوجب علينا أن نسمح لأنفسنا بإثارات وتحريضات كهذه، وأن نبقى منفتحينَ أمام التحريض، وأنْ نصرّ على قول عبارات موهمة بالتناقض.

نتكلّم بلغة لن تكون واضحة أبدا. في كتابي الذي صدر العام 2005 «الإذن وروح الشعب»، نشرتْ سلسلة من القصائد قررت فيها أنّ القيد الوحيد هو استخدام الكلمات الإنجليزية ذات الأصل العربي فقط. ليس أسلوب تبديد المفاهيم السامّة مثل «صدام الحضارات» هو كتابة مقالات طويلة غير رسمية بقلم حبر جاف، أو باتخاذ الموقف المتعالي للأخلاقيات، وإنما من خلال إثبات زيف هذه المفاهيم. لا نستطيع تسمية قطعة من الفاكهة بالإنجليزية من دون الاقتراض من العربية. اللغات متداخلة مع بعضها بعضا. ليس هناك صدام حضارات.

أسطورة اللغة، كفوضى وثروة في الوقت نفسه، منقوشة في القصة التوراتيه لبرج بابل في بلاد ما بين النهرين القديمة، حيث يتداعى البرج تحت الطموح البشري أو الغيرة الإلهية أو كلاهما، وهما مصدر اللغة البشرية. تشبث شعري النثري «بابل الجديدة» بتجربتي الشخصية في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، عندما سقط البرجان في مدينة نيويورك، ومجال الأفكار والرؤى والفوضى والارتباك والمشاعر التي جاشت في الشهور التي تلت. ذلك كان يوما اعتبره الكثيرون أوج صدام الحضارات. (شعرت به بعد أسابيع قليلة كهيروشيما صغيرة، وكأنني في قرية تم قصفها في أفغانستان).

نتكلم مع بعضنا بعضا، والفضل يعود إلى اللغة، أو من خلال عناق بابل. في برنامجي الإذاعي «شعر عبر الثقافات» أتحدث هاتفيا مع شعراء ومترجمين وكتّاب من أنحاء العالم كافة. هل تعلم أننا في أميركا ننشر أدبا مترجما أقل بكثير من أية أمّة صناعية أخرى؟ وأنه في أميركا، 1في المئة فقط من الشعر المنشور هو شعر مترجم بينما في فرنسا، 60في المئة شعر مترجم؟ كيف يمكننا سماع كلمات الآخر إذا لم يُسمح للآخر أن يُسمَع؟ إذا لم يسمح للآخر بكلمات بسبب حالة السكون التي نقبع فيها في مقابلة تلك الكلمات في منتصف الطريق؟ يمكن التوسط في النزاع من قبل الثقافة، ولكن فقط إذا كانت الثقافة على استعداد للمشاركة في نزاعات هي الأحدث في يومها وعمرها. ثقافتنا تخطو خطواتها الأولى، ويعمل الشعراء والمترجمون بجدِ. إنه الجزء الأعظم من عالم النشر، الذي قدّم نفسه لثقافة السلع والمؤسسات الكبرى، وهي التي فشلت في تحقيق ما نريد أوّلا وآخرا. يتحدانا نزاع الشرق الأوسط للتغلب على المحددات الرهيبة من خلال قدراتنا الخاصة بتخيّل أمر آخر.

* أستاذ الفنون الأدبية بكلية ايفرغرين الرسمية، والمقال ينشر بالاتفاق مع خدمةCommon Ground الإخبارية.

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 2025 - السبت 22 مارس 2008م الموافق 14 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً