العدد 2121 - الخميس 26 يونيو 2008م الموافق 21 جمادى الآخرة 1429هـ

سياسة اللاتوازن واستجماع الأوراق

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

تدخل الإدارة الأميركية في مرحلة اللاتوازن في الأشهر الستة المتبقية من عمرها، وهي تشعر أن الزمن يلاحقها، في مطاردة للفشل الذي حصدته وتحصده، من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين، وصولا إلى لبنان الذي أحرجها وأسقط إمكان استيلادها لشرق أوسط جديد على الطريقة الإسرائيلية في مخاض الحرب على لبنان، التي أعادت إحياء حركة المقاومة والممانعة في الجسم العربي والإسلامي بطريقة تفاعلية حيّة.

ومع ذلك، فإنّ إدارة الرئيس بوش تحاول جاهدة هذه الأيام أن تستجمع ما يُمكنها من الأوراق لحسابها وحساب «إسرائيل» قبل أن تحزم حقائبها وترحل، فهي من جهة تحاول الضغط على العراقيين لإجبارهم على توقيع معاهدة مذلة تعطي الاحتلال بقواعده الجديدة شرعية أسقطها الشعب العراقي بدماء أطفاله وشبابه ونسائه وشيوخه وبمقاومته السياسية والجهادية معا، ومن جهة ثانية تعمل على تحضير الأجواء لتهدئة ملغومة في فلسطين المحتلة، يزحف خلالها الاستيطان اليهودي إلى القدس بكاملها، ليحاول تأكيد مقولة العاصمة الأبدية للكيان اليهودي، في خطة تستهدف إسقاط أية إمكانية لقيام كيان فلسطيني ناهض ومستقل وقابل للحياة.

وضمن هذا السياق، بدأ العدو بناء أربعين ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلّة، ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين، وشراء بعض أملاك الكنيسة، ومتابعة الحفر تحت المسجد الأقصى بما يهدِّد بنيانه وأساساته، في ظلِّ تغطية أميركية لخَّصها موقف وزيرة الخارجية الأميركية القائل إنّ استمرار الاستيطان لا يعطّل عملية التفاوض، لأن المطلوب من الفلسطينيين - أميركيا - أن يتفاوضوا مع الصهاينة على سراب وليس على وطن!

وهكذا يستكمل العدوّ استراتيجيته في مصادرة الأراضي واللعب على الوقت الضائع، معتمدا على دعم أميركا المطلق بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين يخضعان للشركات الاحتكارية وللناخب اليهودي؛ حتى إن المرشحين للرئاسة يتسابقون إلى تقديم أوراق اعتمادهم لـ «إسرائيل» بما لا يبقي أي شيء لفلسطين في الحسابات السياسية الواقعية، من دون أن يُحسب للعرب حسابٌ في الموازين السياسية الراهنة. وأمّا الجامعة العربية، فلا يملك أمينها العام إلا الحديث بأسلوب احتجاجي على سياسة الاستيطان التي تبقى هي الأمر الواقع وسط كل هذا السراب العربي، وفي ظل ركام الأوهام التي تُثير الحديث عن الشرعية الدولية من دون طائل.

شراكةٌ ودعمٌ مطلق لليهود

من جانب آخر، فإنّ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أصدروا بيانا عن استعداد الاتحاد لإقامة شراكة مع «إسرائيل» من دون تحديد مهلة زمنية لذلك، خشية إثارة غضب بعض الدول العربية، ومن دون أن يفرض على «إسرائيل» أية شروط يجب أن تلتزم بها. وقد نجد في هذه العلاقة الجديدة أنّها تقترب من علاقة أميركا بالدولة اليهودية، بينما لم يصدر من هذا الاتحاد أيّ بيان لإقامة شراكة وثيقة مع أية دولة عربية، في الوقت الذي يعرف الجميع أنَّ مصالحه ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الدول؛ لأنّهم تعوّدوا على استضعاف العرب والخضوع لـ «إسرائيل». ولذلك رأينا أنهم أهملوا مسألة خريطة الطريق وحصار غزة ومجازر «إسرائيل» واحتلالها لفلسطين؛ لأنّ الإدارات الأوروبية السياسية لا تحترم الإنسان العربي، بل الإنسان اليهودي.

وفي السياق نفسه، لم نسمع من أيّة دولة أوروبية اعتراضا على السلاح النووي الإسرائيلي الذي يهدّد المنطقة بكاملها، ولكنهم يتابعون الهجوم على إيران في مشروعها النووي السلمي الذي لا يملكون دليلا على تحوّله إلى مشروع عسكري؛ لأنّهم يتابعون الضغط من ناحية سياسية، لا من ناحية الواقع الذي يتحرّك به المشروع.

إنّ أميركا والدول الأوروبية لا تلتزم المعايير الأخلاقية في القيم الإنسانية، بل تلتزم مصالحها المادية الاستراتيجية. وقد لفت نظرنا تصريح البابا لبوش بأنه يشكره لدعمه التزام القيم الأخلاقية، وهو الذي ملأ الدنيا حربا، والعالم قتلا، والثروات نهبا، ولم يمرّ على أميركا رئيس مماثل في إسقاطه لكلّ القيم الإنسانية، فكيف يفسّر بابا روما كلامه؟! هذا ما لا نفهمه.

إثارات أمنية وعصبية خطيرة

أمّا لبنان، فإنّ الجميع مشغولون بتأليف الحكومة في حقائبها السيادية والخدمية، كما لو كانت المسألة أن كل وزير يملك إدارة الوزارة لمصالحه بعيدا عن مجلس الوزراء والنواب والجمهورية؛ ويستغرق الشعب في كلمات السياسيّين من دون أن يكون له صوتٌ قويّ أمام ما يُصيبه من أزماتٍ في الماء والكهرباء والهاتف وغير ذلك، ممّا يُراد إدخاله في بازار التجاذبات السياسيّة للمسئولين عن كلّ شيء إلاّ عن الشعب.

ويتساءل البعض: هل إنّ الذين تحدَّثوا عن اتّفاق اللبنانيّين بما يُشبه العقدة - عندما ثار الحديث عن اتفاق الدوحة بأنه هدنة أو ما أشبه ذلك - يحاولون التحضير للانتخابات النيابية المقبلة لتعبئة أكبر قدر ممكن من الحالات الغرائزية المختلفة التي تنادي بالدفاع عن الطائفة أو المذهب أو الحزب أو الزعيم؟ هل إنّ هؤلاء يقفون وراء عملية الإثارة للأوضاع السلبية الأمنية الخطيرة، وخصوصا أنَّ الكثيرين باتوا لا يدقّقون في المعطيات والإشاعات، بل يطلقون الأحكام بشكل انفعاليّ ليزيدوا النار اشتعالا في هذا الموقع أو ذاك؟

وعلى كلّ حال، فإنّه لابدّ لكلّ القوى السياسيّة والأمنيّة والدينية أن تتحمّل مسئوليّاتها تجاه الاختراقات الأمنية التي تتحوّل إلى خطرٍ على الناس الفقراء من خلال طموحاتٍ سياسية أو ذهنيّات تكفيرية أو عصبيّات إلغائية؛ وذلك قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. مع الإشارة إلى أنّ هذه الاختراقات تصيب أكثر ما تصيب - في تداعياتها - الفقراء والمستضعفين، في الوقت الذي يستثمرها أصحاب العصبيّات والزعامات لحسابهم، في معارك سياسيّة أو انتخابيّة أو عصبيّة لا يجني منها الناس سوى مزيدٍ من الفقر والضعف؛ ما يدلّ على مستوى السذاجة السياسيّة التي أصبحت ميزة إضافيّة من ميزات هذا الشعب في هذا البلد العجيب الغريب.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 2121 - الخميس 26 يونيو 2008م الموافق 21 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً