العدد 2304 - الجمعة 26 ديسمبر 2008م الموافق 27 ذي الحجة 1429هـ

الحياد عن المبادئ تجاه القضايا الإفريقية

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

مع أن القس الجنوب إفريقي دزموند توتو لم يلتق أبدا مواطنه المناضل الطلابي ستيفن بيكو، لكنه قام بتأبين ذاك المقاوم الأسود الذي لقي حتفه في ميتة بشعة تحت التعذيب في إحدى مخافر الشرطة بجنوب إفريقيا العام 1977. كان أكثر من 30 ألف شخص حضروا تلك الجنازة، وينتابهم شعور بالحزن الممزوج بالغضب بالكاد استطاعوا كظمه. في ذلك اليوم حثهم دزموند توتو على الغفران، كما كان يفعل مرات عديدة من قبل وكما فعل تكرارا من بعد -الغفران للشهداء وللخونة على حد سواء، فحث أصدقاء الفقيد على الصلاة من أجل قادة البلاد ومن أجل الشرطة- ولاسيما قوى الأمن وحراس السجن حتى يدركوا أنهم أيضا بشر. وقال توتو: «إني أسألكم أن تصلوا من أجل البيض في جنوب إفريقيا».

يعرف القس توتو، على غرار غاندي ومارتن لوثر كنغ وستيفن بيكو، أن «القمع ينزع الإنسانية عن القامع بقدر ما ينزعها عن المقموع». إنه ينصح أصحابه دائما أن يصونوا كرامتهم ويذكرهم بأن لا أحد بمقدوره أن يسلبهم إياها. وهو ما فتئ يدعو إلى حل لا عنفي في الكفاح من أجل الحرية الذي نهض إليها السود في بلاده. ولذلك منح توتو جائزة نوبل للسلام العام 1984 تقديرا لكفاحه السلمي ضد التفرقة العنصرية.

لقد ساند توتو القضايا العربية بقوة وخصوصا القضية الفلسطينية ووقف ضد الحرب في العراق وأفغانستان.

ففي العام الجاري قدم هذا القس شهادته أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، حيث هاجم «إسرائيل» والحكومات الغربية التي تساندها وذلك على خلفية حادثة القصف الإسرائيلي لبيت حانون العام 2006 الذي راح ضحيته 18 بريئا غالبيتهم أطفال من دون أن يكون هناك نيران مقاومة أو مسلحون في المنطقة. وأطلق توتو مقولته الشهيرة «حين يشعر الإنسان بالذنب يكون على استعداد للتعبير عن الندم ويطلب أن يُعاقب، أما الغرب فيعبر عن الندم على المحرقة النازية لليهود، ويترك الفلسطينيين لدفع الثمن». رفض توتو أيضا الحصار الإسرائيلي «الظالم وغير القانوني» المفروض على قطاع غزة، معتبرا أنه من أكثر العوامل التي تؤثر حتى الآن على ضحايا قصف بيت حانون.

كل ما ذكرناه آنفا يعبر عن الفطرة السليمة الرافضة دائما للعدوان والظلم أينما كان وأيا كان مصدره والمطالبة بالعدالة.

بيد أن القس توتو انحرف عن هذه المبادئ إلى حدٍ ما حينما تحدث قبل يومين في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» بشأن الأزمة في زيمبابوي المجاورة لوطنه. اعتبر توتو استخدام القوة ضد نظام روبرت موغابي خيارا للتخلص من الرئيس الزيمبابوي، وهو بذلك يناقض مواقفه المناهضة لاستخدام القوة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. وعلى رغم أن موغابي معروف بالدكتاتورية وقد تشبث بالسلطة كثيرا وزوّر الانتخابات التشريعية والرئاسية العام الجاري إلا أن ذلك لا يعني الحياد عن مبادئ العدالة وخرق سيادة تلك الدولة والتدخل عسكريا فيها. ألا يكفي الحصار المطبق على هراري من قبل كل الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا ( الدولة المستعمرة السابقة لروديسيا = زيمبابوي قبل الاستقلال)، والولايات المتحدة. لقد قاد هذا الحصار الظالم إلى تفشي ما أسميه بـ»الكوليرا السياسية» التي أدت حتى الآن إلى وفاة 1174 شخصا منذ ظهور المرض في أغسطس/ آب الماضي. ولم يكن تأثير «الكوليرا السياسية « مقتصرا على زيمبابوي بل تعداها إلى الدول المجاورة وخصوصا جنوب إفريقيا موطن القس نفسه.

إن مثل هذا الموقف الداعي إلى التدخل العسكري في زيمبابوي من رجل دين مسيحي ذي نفوذ يعطي الضوء الأخضر للمستعمرين الغربيين الجدد لتنفيذ مآربهم وإملاء سياسياتهم على دول القارة السمراء التي لا تحتاج إلى مزيد من المشكلات. فقبل يومين فقط انتهزت قلة من الضباط العسكريين في غينيا وفاة الرئيس لانسانا كونتي للاستيلاء على السلطة في واحدة من أبشع الفضائح التي تنم على عدم الولاء للقادة والدستور. صحيح أن كونتي حكم غينيا بيد من حديد منذ وصوله إلى سدة الحكم عبر انقلاب العام 1984 وظل فيه محميا من قبل الجيش المنقسم على نفسه على رغم صراعه المرير والطويل مع مرض السكري. كان ينبغي على منتسبي الجيش، في الدولة الواقعة غرب إفريقيا، الصبر على محنة فقد الرئيس على رغم الوضع الاقتصادي المتردي، وعدم الإعراب عن شكواهم إلا بعد تشييع جنازته رسميا على الأقل، ومن ثم الامتثال إلى الدستور الذي ينص على أن يتولى رئيس البرلمان منصب الرئيس في حال وفاته إلى أن تنظم الانتخابات. ويبدو أن هؤلاء الانقلابيون لا يعلمون شيئا عن العالم الخارجي ومواقف الاتحاد الإفريقي الرافضة للانقلابات العسكرية في أية دولة عضو فيه. وخير مثال على فشل مستقبل انقلابهم -على رغم تأييد رئيس الوزراء لهم تحت الضغط والإكراه- ما حدث في موريتانيا أخيرا من تغيير قسري أجهض تجربة ديمقراطية مهمة. فحتى الآن لم يحصل القادة الموريتانيون الجدد على اعتراف سواء إقليمي أو دولي وأصبحت السلطة وبالا عليهم.

على رغم هذا الغليان السياسي في إفريقيا، لا يدع الغرب القارة في حالها ومساعدتها ماديا ولوجستيا، فنجده يتبنى بعض المغالطات من أجل النيل من سيادة الأنظمة التي لا تدور في فلكه، مستغلا في ذلك ضعف الأمم المتحدة وزعيمها ومن ثم استخدامها كأداة لتبرير التدخلات في الشئون المحلية لتلك الدول الإفريقية من خلال تقارير مفبركة تجافي الحقائق على الأرض. فما الخطأ مثلا في أن تصل أسلحة صينية إلى الجيش الزيمبابوي أو إلى الجيش السوداني في دارفور، أو إلى الكونغو الديمقراطية؟. أليست جيوش هذه البلدان معنية بحفظ الأمن في ربوعها والدفاع عن سيادتها. فقد دفعت القوى الكبرى الأمم المتحدة إلى التحقيق في انتشار الأسلحة الصينية في بعض الدول الإفريقية ونسيت تلك القوى أنها تسلح «إسرائيل» وتبيع ترسانة أسلحتها لبعض بلدان الشرق الأوسط حتى ترجح كفة بعضها على بعض.

وفي خضم ازدواجية المعايير هذه ينبغي على الأحرار، من أمثال القس توتو، في العالم أن يحكّموا عقولهم حينما يتخذوا مواقف حاسمة تجاه الآخرين، وفي جميع الأحوال فإن استخدام القوة العسكرية ضد أية دولة ذات سيادة يجب أن يكون خطا أحمرا ويستبعد تماما من ضمن الخيارات الأخرى «فاعتبروا يأولي الألباب»

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 2304 - الجمعة 26 ديسمبر 2008م الموافق 27 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً