العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ

تشومسكي المثقف المعزول... لمحة عن حياته

روسو القرن العشرين

«التراث المتضارب»: أحدثت نظرية نعوم تشومسكي في علم اللسانيات ثورة في هذا المجال. ولكن تحليله السياسي الراديكالي هو الذي جعل له أنصارا يتبعون مذهبه. فعندما يذكر الناس اسمه بعد قرن من الآن، فأي تشومسكي سيعنون؟

يوجد مكتب الرجل الذي عُرف بأنه من أهم المثقفين الذين مازالوا على قيد الحياة في بناء بسيط مهدد بالسقوط في الجانب الآخر من خطوط السكك الحديد في المنطقة الداخلية الصناعية من الحرم الجامعي لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا.

إن هذا المبنى الذي يعرف باسم المبنى رقم 20 قد بُني العام 1943 لمختبر للرادار والإلكترونيات. وكان من المقرر هدم هذا المبنى الكئيب الذي تنقصه التهوية منذ سنوات، ولكنه مازال يقف رمزا لعصر آخر. وبإمكانك أن تجد تشومسكي في هذا المبنى، فإذا سرت أسفل المدخل، استدر يسارا وسترى هذا الشخص ذا الشعر القصير الأبيض والأسود والذي أحدث ثورة في دراسة اللغة. إنه الرجل الذي قام بتغيير فهمنا للسلوك والتفكير والعقل والذي يتم تشبيهه بسيغموند فرويد وإلبرت اينشتاين.

إن ذلك قد يكون كافيا بالنسبة إلى غالبية الأكاديميين، ولكن تشومسكي كان واحدا من أعظم المعلقين السياسيين الكثيري الإنتاج، الراديكاليين والمولعين بالمعارضة في الولايات المتحدة. ويصل عدد أنصار مدرسته الذين يتبعون فكره السياسي إلى عدد تلاميذه الذين يدرسون نظريته اللسانية. وتوجد ستة مواقع على شبكة الإنترنت لتشومسكي تبرز آخر محاضراته ومقالاته عن السياسة والمجتمع. ومع أن أحدث كتاب له عن علم اللسانيات، والذي نشر في وقت لاحق من العام الماضي قد قوبل بنوع من الشك من قبل نظرائه، إلا أن مكانة تشومسكي في التاريخ الأكاديمي تبدو آمنة. أما تراثه باعتباره معلقا سياسيا فيبدو أنه أقل أمنا. ومازال ينظر إليه باعتباره شخصية ثقافية ذات امتياز في أوروبا، أما في الولايات المتحد فإن كتاباته السياسية القصيرة تظهر في المجالات غير المعروفة. لا يمكن القول أبدا إنها تنشر في الصفحة المقابلة لصفحة المقالة الافتتاحية في «نيويورك تايمز».

ويأتي هذا في الوقت الذي يطالب فيه زملاؤه في عالم المعرفة بالمزيد من المناقشة للآراء السياسية والسياسة ولرعاية مثقف أكثر انشغالا في مرحلة تتحتم أن يصبح تشومسكي ناضجا كرجل سياسة بين المعلقين السياسيين وفي وقت تطالب فيه القوى المهيمنة المحافظة في واشنطن بقوة بوجهات نظر معارضة وبالتجديد وأشياء أخرى.

تجاهل المثقف الراديكالي

وإذا سألت هذا المثقف الراديكالي عن سبب تجاهله من قبل التيار الفكري السائد فإنه سيجيب قائلا: إن القوى البارزة لم تستطع قط التعامل مع النوع الذي يتبناه من الخلاف في الرأي. ومع بدء أفول مهنته فإن أنصاره يتساءلون: هل انتهى عصر تشومسكي؟ هل مازال يصطدم بخطاه؟ ويمكن مشاهدة تشومسكي في معظم أيام العمل في المبنى رقم 20 وكان يتحدث أخيرا عن السياسة. وبينما كان يرتكز على كرسيه الدوار واضعا إحدى قدميه على درج المقعد الذي كان سحبه ليرتكز عليه، أخذ بعض الوقت المخصص للقراءة وكتابة المقالات والكتب وعشرات الرسائل يوميا لدراسة الجمهوريين في الكونغرس الذين وصلوا إلى السلطة العام 1994. وفي وقت قصير صاغ هذه العبارة الجيدة «أعتقد أنهم خطيرون بشكل كبير. أعتقد أنهم سيفتحون الباب أمام الفاشية الأميركية».

إن الأمر يشبه ما حدث في إيران العام 1980 وما حدث في ألمانيا في الثلاثينات، كما يقول تشومسكي. ففي ألمانيا أيد الصناعيون الفاشيين، وفي إيران أيد التجار الأصوليين كقوى للثورة. وتبين فيما بعد أن هؤلاء الأشخاص لهم تفكيرهم الخاص.

إن الشيء نفسه يحدث مع المؤسسات التجارية التي تدير أميركا، كما يقول تشومسكي. إن هذه المؤسسات تؤيد الجمهوريين في القيام بإلغاء بعض القوانين الحكومية وخفض المعونة للفقراء، ولكن المديرين التنفيذيين مصابون بالهلع خشية قيام بعض المارقين بمحاولة خفض بعض أموال الدعم الحكومي المخصصة للأنشطة التجارية، وهي الأموال التي تأتي من خلال دوائر الطاقة والتجارة ووزارة الدفاع.

إن هؤلاء المديرين لا يمكن أن يبقوا من دون هذا الدعم، كما يقول تشومسكي. وبعد لحظة يتحدث بلهجة غاضبة عن الكتاب الحديث لوزير الدفاع الأميركي السابق روبرت مكنمارا عن فيتنام «وكل هذا الهراء» عن سبب عدم اعتذار اليابان عن الحرب، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة مسئولة عن جرائم كثيرة ارتكبتها ضد الشعب الفيتنامي وآلافا آخرين في أميركا الوسطى والشرق الأوسط.

فلنأخذ ـ على سبيل المثال ـ تفجيرات أو كلاهوما سيتي التي لا تشبه شيئا أكثر من الهجوم بسيارة مفخخة من عمل المخابرات المركزية الأميركية خارج مسجد في بيروت العام 1985 راح ضحيته ثمانون من الأبرياء. هل قام أحد من المسئولين الأميركيين بالاعتذار عن هذا العمل؟ هل قام أحد بالحديث عنه؟

وبعد مضي ساعة نرى تشومسكي الكلاسيكي يقف خارج الجهات ويقوم بتحليل الدعاية وإيجاد صلات بين الأشياء لا يمكن لأحد التوصل إليها. وبعد تقييمه للسياسات الأميركية الخارجية والداخلية أنجز تشومسكي بإتقان صيغة فعالة للفصل وصيغا منطقية لا تقبل التنفيذ والكثير من الأدلة الموثقة التي تدعم كل زعم من مزاعمه.

عبقرية منذ الصغر

ومع ذلك ومع كل هذا التحليل الذي يتطلب جهدا كبيرا إلا أنه لم يكن الشخص الذي اختارته صحيفة «ذا نيويورك رفيو أوف بوكس» لكتابه عن دفاع مكنمارا. إنه لم يُدَع قط للانضمام إلى اجتماع هيئة خبراء في جامعة كيندي الحكومية بهارفارد.

وباعتباره معلقا سياسيا، يعاني تشومسكي من نوع من العزلة يظهر فيها شبح الأشياء غير المترابطة. ولكي نفهم شخصية تشومسكي الآن علينا أن نعود إلى بدء حياته، إلى الطبقة العاملة في فيلادلفيا قبل الكساد الأعظم عندما وُلد افرام نعوم تشومسكي في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1928.

كان ابنا لوليام وإلزي (سايمونفسكي) تشومسكي، وكان كلاهما مدرسان للعبرية ومهاجران متعلمان ذاتيا إلى حد كبير. وقد اكتشف الوالدان أن ابنهما تشومسكي كان ذا موهبة خاصة لأنه تفوق على زملائه في مدرسة أوك لين كنتري التقدمية الخاصة. وفي سن صغيرة لا تصدق بدأ تشومسكي يحاول فهم الفوضى في ذلك العصر، الشيوعية والفاشية والبلشفية ومذهب تروتسكي. وقد كتب أول مقالة افتتاحية له في الصحيفة المدرسية عن الحرب الأهلية الإسبانية عندما كان في العاشرة من العمر. ويزعم أنه قد رفض الماركسية وأصبح من أنصار مذهب الفوضوية الذين يؤمن أن حال البشر تزدهر بشكل أفضل في ظل عدم وجود حكومة فعلية (عندما كان في الثانية عشرة من العمر).

وقد بدأت قصة حياته الحقيقية المليئة بالحوادث في نيويورك، أوائل الأربعينات طالبا مبكر النضج عقليا في المدرسة العليا. كان تيار اليسار في تلك الأيام نشطا إذ كان الحديث الثوري ينبض بقوة في شوارع ومقاهي ومكتبات منهاتن. وفي معظم الليالي كان تشومسكي يقف عند محل بيع الصحف الذي يمتلكه عمه في مدينة نيويورك إذ كان المهاجرون والمنشقون يتحدثون عن تجربة الاتحاد السوفياتي مع الاشتراكية ويتحدثون بصوت خافت عن مخاوفهم من استسلام أوروبا للفاشية. لقد تم هناك رسم خط سيره الخاص وغرس إخلاصه الثابت والقوي لضحايا الظلم والاضطهاد.

تجاهلته هارفارد

وعلى أية حال فمن المهم أن نذكر أن تشومسكي لم ينضم قط إلى أية مجموعة. إن أقرب ما وصل إليه كان دعم فكرة تحالف يهودي ـ فلسطيني اشتراكي قبل قيام دولة «إسرائيل» التي كان يعارض قيامها دائما.

وعندما أصبح طالبا في جامعة بنسلفانيا كان مشتت الذهن غير مكرس وقته للدراسة، هذا ما يرويه تشومسكي نفسه.

وعلى رغم تأثير عمل والده المتميز على النحو العبري، فإنه يزعم أنه مال إلى دراسة اللسانيات عندما كان يبحث عن شيء مثير للدراسة. وقد أصبح مولعا بدراسة علم اللسانيات. وبعد وظيفته الأولى مدرسا في جامعة بنسلفانيا بفلوريدا تمت دعوته ليصبح عضوا أكاديميا في هارفارد. وقد انتقل هو وزوجته كارول شاتز تشومسكي ـ التي ترعرعت في المنطقة نفسها في فيلادلفيا والتي تزوجها العام 1949 ـ إلى كامبريدج. وتم تجاهله ولم يعط وظيفة للتدريس في هارفارد نظرا إلى أن المسئولين في الجامعة كانوا يتوخون الحذر بالنسبة إلى السياسات الراديكالية لعائلة تشومسكي.

وحصل تشومسكي أخيرا على وظيفة في معهد التكنولوجيا بمساشوستس العام 1955 إذ كان المناخ في المعهد مثاليا بالنسبة إليه. كان المعهد يقدم القليل في مجال الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، لذلك قام تشومسكي مع بعض الأشخاص الآخرين بإنشاء قسم لعلم اللسانيات من الصفر. واستقر تشومسكي مع نخبة من العلماء في المبنى رقم 20 وبدأ العمل على تغيير طريقة تفكيرنا بالنسبة إلى كيفية التعلم وعن كينونتنا. لقد واجهت الثورة التشومسكية مدرسة الفكر السائدة في مجال العلوم الاجتماعية في الخمسينات: المدرسة السلوكية.

ويجادل بي إف سكنر وأنصار المدرسة السلوكية الآخرون أن جميع الأعمال البشرية بما في ذلك التفكير هي سلسلة بسيطة من الاستجابات لمثيرات خارجية. ويقول السلوكيون إنه عن طريق مكافأة بعض السلوكيات ومعاقبة سلوكيات أخرى يستطيع العالم أن يشكل جميع أعمالنا. وقد استخدم تشومسكي اللسانيات اسفينا للرد على المذهب السلوكي، رافضا الجدل الذي يسوقه أنصار المذهب السلوكي بأن الأطفال الصغار ينطقون الكلمات لأنه تتم مكافأتهم على هذا العمل، واقترح بدلا من ذلك أن البـشر جميعا وُلدوا ولديهم قدرة فطرية عامة على تعلم اللغة. وإذ ان مكان الميلاد جعلنا نتحدث الإنجليزية بدلا من اليابانية، والألمانية بدلا من الفرنسية فإنه طبقا لتصور تشومسكي فإننا نستطيع تحدث أية لغة بسبب «التركيب العميق» الرئيسي المتمثل في نوع من علم النحو العام.

كيفية عمل العقل

لقد دعّم تشومسكي نظريته بأدلة فنية كثيرة كان في جوهرها فكرة بسيطة: إن العالم هو الذي يشكلنا ولكننا نبدأ بمواهب فطرية. لقد كان لمقالته النقدية للمدرسة السلوكية والمدرسة التركيبية للسانيات ـ الفكرة القائلة إن اللغة مثل جميع أنماط السلوك قد تطورت تماما بواسطة التدريب والبيئة الخارجية ـ تداعيات تعدت الدراسة الأكاديمية الضيقة الأفق. وأدت هذه المقالة إلى حدوث ما يعرف بالثورة المعرفية: طريقة جديدة تماما لاستكشاف كيفية عمل العقل.

لقد كانت المقالة كالقنبلة، كما يقول أستاذ القدرات العقلية والعلوم المعرفية في MIT ستيفن بنكر، وهو صديق لتشومسكي ومؤلف «غريزة اللغة»: كيف يخلق العقل اللغة؟

وقد وضع تشومسكي مجال الدراسة في اتجاه مختلف. وما كانت الغالبية ستطرق هذا المجال من دونه، كما يقول الخبير في علم اللسانيات في جامعة برانديس والتلميذ السابق لتشومسكي، ري جاكندوف: أعتقد أن هناك شخصا آخر فقط سيطر على أحد مجالات المعرفة غير تشومسكي وهو فرويد.

وفي الأعوام التالية عمل تشومسكي ـ مع مجموعة من التلاميذ والأتباع ـ على تسوية القضايا الخاصة بكيفية نمو اللغة في العقل من المقدرة الفطرية الأصلية التي حددها.

وبحلول العام 1980 بدأ تشومسكي في ترويج نموذج «المبادئ والمعايير»: الفكرة القائلة إن القدرة اللغوية الكامنة تتكون من مبادئ ثابتة متحدة مع مجموعة من المعايير والمتغيرات يرتبط كل منها بواحد من بعض القيم المحتملة فقط. إن معرفة اللغة هي عملية تثبيت قيم المعايير، وهي عملية تشبه الإجابة عن استبانة، كما يقول تشومسكي.

المبادئ... المعايير

فلو نظر إلينا عالم عقلاني من كوكب آخر، كما ننظر نحن إلى حشرة النمل لربما يقول إن هناك لغة واحدة في هذا الكوكب مع اختلافات سطحية. وما ان أصبحت طريقة تشومسكي المعروفة بـ «المبادئ والمعايير» تقف على أرض صلبة، حتى حقق تشومسكي تقدما في أنشطته الأخرى: التعليق السياسي.

لقد كان العامل المساعد في الستينات حرب فيتنام التي كان ينظر إليها تشومسكي على أنها جريمة ضد الإنسانية، ونموذج للشر الذي تمارسه الولايات المتحدة بشكل روتيني. كان تشومسكي ينظر إلى نفوذ أميركا في الخارج على أنه امبريالية اقتصادية وقحة مستترة تحت الترويج الأجوف للديمقراطية. وقام تشومسكي بالتنقيب عن المعلومات الخاصة بالحروب الخفية (غير المعلنة) وأنشطة الاستخبارات الأميركية في دول العالم الثالث وطور القضايا التي كان يدافع عنها مثل حملته ضد الاضطهاد في تيمور الشرقية.

وفي الوقت ذاته قام تشومسكي بكتابة مقال نقدي قاسٍ ضد الثقافة الفكرية ووسائل الإعلام والعالم الأكاديمي الذي كان يعمل فيه. وتقول النظرية الأساسية التي نشرت في كتب مثل «القوة الأميركية» و«الحكام الجدد» (1969) إن المثقفين والصحافيين كانوا يشاركون في عملية تمويه للجرائم وتلقين للأفكار والمبادئ الحزبية وكانوا خاضعين بشكل يائس للقوة المسيطرة.

ويجادل تشومسكي قائلا إن المثقفين يتحملون مسئولية خاصة في البقاء لجهة مستقلة والعمل على فضح الأكاذيب. إن الغالبية العظمى من زملاء تشومسكي في عالم المعرفة لا يقومون بشيء من هذا القبيل في رأيه، مفضلين شغل أنفسهم داخل الحدود المرسومة بدقة للمناقشات المقبولة. «إن الحياة الثقافية أصبحت خدعة»، كما يقول تشومسكي.

ولا ينطبق ذلك على العلوم، وهذا ما يجعلني أحب العمل في MIT. إن الطبيعة تبقيك إنسانا أمينا، أما الكثير من الأمور الثقافية فهي فاسدة وغير أمينة ولابد أن تكون كذلك. كما أن العالم الأكاديمي يتكون من مؤسسات طفيلية تعيش على دعم المؤسسات التجارية الخارجية، لذلك فإنه إذا حاد الناس عن الخط الذي تتبعه هذه المؤسسات الطفيلية ستكون هناك بعض المشكلات. ولا يوجد سبب يدعو أصحاب السلطة إلى السماح بالاستماع إلى الأصوات الانتقادية.

وسائل الإعلام... النقد المفضل له

ويعتقد تشومسكي أن ما يحسبه الناس اختلافا أمر مثير للضحك. إننا نسمع أن صحيفة «نيويورك تايمز» توصف من دون سخرية بصوت اليسار الليبرالي لأنها تقوم أحيانا بنقد بسيط. إن وسائل الإعلام هي موضع النقد المفضل لأن تشومسكي يرى فيها جزءا من جهاز دعاية أكبر يتحرك ببطء في الحياة في أميركا. لقد سارت الأمور على هذا النحو طيلة خمسين عاما. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت مواقف الرأي العام في أميركا متشابهة لما كانت عليه في أوروبا، ديمقراطية اشتراكية وهذا ما سبب الهلع داخل المجتمع التجاري.

لذلك بدأ هذا القطاع التجاري حملات دعاية ضخمة. وكانت الشركات تدفع ثلث كلف الكتب المدرسية، كما تولت أمر الرياضة والترفيه وموّلت أفلاما مثل «الواجهة المائية» الذي يصور الرجال العاملين الشرفاء الذين يقفون ضد رؤساء الاتحادات الفاسدين.

وعندما تنظر إلى المواقف العامة تجد أنها تظل ديمقراطية اشتراكية تقريبا. إن الناس يبدون القلق تجاه الفقراء ويأملون في الحصول على تعليم أفضل والعيش في بيئة أفضل. ولكن الدعاية لها تأثير عندما نستمر في إدخالها إلى عقول الناس بشكل مستمر. لقد أصبحنا نخشى الأمهات اللاتي يعملن في مجال الرعاية الاجتماعية والجريمة والمخدرات والموازنة غير المتوازنة. وستصدق الناس ما يرد في هذه الدعاية عاجلا أو آجلا.

لقد أصبح رمزا لآلاف الطلبة والكثير من نظرائه المثقفين كما أصبح رئيسا لهذا المذهب الفكري بالنسبة إلى المتشككين والمتحررين من الوهم. وأصبحت قاعات المحاضرات تعج بالطلبة الذين يحضرون محاضراته من كامبريدج إلى باريس. أما في المحافل الفكرية فإن الإشارة إلى تشومسكي عند نقل معلومات عنه كان يحدث ابتسامة تدل على المعرفة. ولم يكن غريبا أن تصطدم مقالته النقدية الراديكالية بمقاومة غاضبة. فكان يوجد من بين كل معتنق لفكره شخص واحد على الأقل غير مؤمن بنظريته يرى في تشومسكي اليساري المهووس، مدبر النظريات التآمرية والشخصية المزعجة التي تتبع موقفا ذا سمة مميزة واحدة. ويبدو أن بعض العوامل ساهمت في نهايته.

كان هناك أولا موضوع الطريقة التي كان يتم بها سماع صوت تشومسكي: محلات وسائل الإعلام، المجلات ومحطات الإذاعة التي جعلت صوته يصل إلى الكثير من المستمعين. وكانت مجلة «ذا نيوريورك رفيو أوف بوكس» إحدى منصات الخطابة بالنسبة إلى تشومسكي حتى العام 1972 أو ما يقاربه. ويرجع تشومسكي السبب في ذلك إلى تحول السياسة التحريرية للمجلة بصورة فجائية إلى اليمين آنذاك. وقد فشل تشومسكي في إيجاد مكان له مع الصحف الأخرى.

وكان يقوم بالتشاور مع محرري الصحف ونقل أفكاره إليهم، إلى أن تم منعه بصورة تامة. فقد رفضت «الجمهورية الجديدة» التعامل معه بسبب انتقاده العنيف لـ «إسرائيل». أما صحيفة «الأمة» فكانت تتعامل معه أحيانا. ولكن سوق الصحافة السائد تجاهله في غالبية الأوقات. وتنحصر الآن مقالته عن التطورات السياسية والاجتماعية في المجلات الأقل شهرة مثل مجلة گ. ويفسر ذلك جزئيا إلى التحول الحقيقي في المزاج السياسي للشعب.

الثقافة المضادة

ومع أن تشومسكي لم يكن ليبراليا على الإطلاق، بمعنى إيمانه بأن الحكومة يمكن أن تحل معظم المشكلات ـ وفي الواقع فإن اعتقاده بالفوضوية يدل على العكس ـ فإنه جمع من دون تمييز مع المثاليين الذين يشير إليهم المتحدث باسم مجلس النواب نيوت غنغرتش بالثقافة المضادة. وكما يعرف غنغرتش ورونالد ريغان وجورج بوش وبوب دول أن هناك ميزة سياسية يمكن كسبها عن طريق توجيه النقد إلى المثقفين من الساحل الشرقي الذين ينتمون إلى المؤسسة الليبرالية والذين يوجهون اللوم إلى أميركا بالدرجة الأولى. ولكن اليمين لم يكن الجهة الوحيدة التي أوصدت الباب في وجه تشومسكي. ففي المحافل الثقافية لكامبريدج والمناطق الأبعد منها تخلى عنه الكثير من المفكرين الذين كانوا يميلون إلى اليسار ويبدون كحلفائه الطبيعيين. لقد كانت الشكوى الرئيسية ضده تتمثل في دعمه الذي لا يعرف الكلل «لتحليل قابل للتطبيق بشكل شامل».

إنه أسلوب ماركسي قديم للتحليل: أسلوب الجدل والمناظرة. إن كل شيء يشكل وحدة متماسكة، فمهما يحدث فإن هذا التحليل يفيد الطبقة الحاكمة، كما يقول الأستاذ في جامعة هارفارد ناثان غليزر، وهو عالم اشتراكي ليبرالي كان صديقا لتشومسكي منذ فترة الشباب. إن ذلك النوع من التحليل قد يكون مملا، كما يقول غليزر.

ويقول صديق تشومسكي في MIT بنكر إن تشومسكي مناظر لامع وصديق بمعنى الكلمة. إنها متعة كبيرة عندما تكون مؤيدا لموقفه ولكن الأمر ليس كذلك إذا أصبحت فجأة هدفا لنقده. إن الناس قد يبتعدون عنه بغضب ويكرهونه بشكل كبير طيلة حياتهم.

وعادت المشاعر الصعبة تراود تشومسكي المرة تلو الأخرى. لقد أصبح حلفاؤه قلة ومثال على ذلك انه لم يلقَ تأييدا عندما دافع عن حق روبرت فويسون الرافض لوقوع حادثة المحرقة كي يقاوم عملية مقاومة المطبوعات من قبل الحكومة الفرنسية. وقد ازداد الاستياء ضده حتى في مجال اللسانيات، إذ تخلى عنه أتباعه.

تقول الأستاذ البارزة في علم اللسانيات في جامعة سنافورد في كاليفورنيا جوان برسنان، وهي تلميذة سابقة لتشومسكي: إن تشومسكي أحدث ثورة في علم اللسانيات ولكنه عمل ذلك بطريقة مسببة للخلاف. إنه شخص مسبب للانقسامات وقد أوجد مدارس متشاحنة.

ويستمر الحد ضد تشومسكي حتى بعد قيامه بتنقيح نظريته اللغوية الأخيرة التي تم تلخيصها في كتابه الجديد «برنامج المعتدل»، ففي «تحليل المبادئ والحدود» تركز طريقة تشومسكي الجديدة على المبادئ بشكل جوهري ـ هيكل تكوين اللغة ـ والتي يصفها بأنها نظام بسيط رائع يثير أسئلة جديدة بالنسبة إلى إطار وأصل القدرة اللغوية.

نظرية الاعتدال

ويشيد بعض العلماء بنظرية الاعتدال (الاكتفاء بتحقيق الحد الأدنى من برنامج) كثورة مهمة خرجت من المبنى رقم 20. إن تشومسكي يأتي بأشياء مهمة كل خمسة عشر عاما أو ما يقاربها وهذه النظرية ستكون الشيء الرئيسي. إنها ستكون مهمة بشكل كبير، كما يقول صديق تشومسكي لفترة طويلة في MIT موريس هالي.

أما الآخرون فإنهم غير متأكدين من إنجازات تشومسكي. لقد عمل تغييرات راديكالية في برنامجه ولكن هذا البرنامج مازال يرتكز على أسلوبه التحويلي الذي طوره العام 1957، كما تقول برسنان التي تشبه برنامجه الخاص بنظرية الاعتدال ببرامج مايكروسوفت وندوز 95 التي تم عمل دعاية مفرطة لها.

ويقول بعض الزملاء إن السؤال يتمثل في ما إذا كان تشومسكي راغبا في التفكير في نظريات تتعدى نطاق أفكاره الأصلية. إن تشومسكي يميل إلى منع النقاش، إنه ليس رجلا عظيما بالنسبة إلى جعل الشباب يحملون الشعلة، كما يقول صديق له في MIT طلب عدم ذكر اسمه.

أما بالنسبة إلى تعليقاته السياسية فقد بدأ بعض نظرائه المثقفين في النظر إليه كإنسان سلبي معتوه يرفض الاشتراك في بعض المناظرات العلمية لأنه يقول إنه أُخطئ فهم مقدمتها المنطقية. وقد أدى به أسلوبه المعارض إلى فقدان بعض أكثر الأشياء إثارة في البيئة الأكاديمية اليوم. ومع أن الكثيرين يجادلون بأن تشومسكي قد تخلف من الناحية الأكاديمية والسياسية، فإن هناك الكثيرين الذين يعتقدون أن الأمر ليس صحيحا بالنسبة إلى علم اللسانيات.

ويسأل الكثيرون من الناس عما إذا كان تشومسكي قد فقد مكانته. إنهم يحاولون القضاء عليه بسرعة، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، كما يقول غاكندوف.

إن نظريات تشومسكي مازالت في أكثر مراحل تطورها ومازالت تحدد مجال علم اللسانيات بكثير من الطرق، ومازال تشومسكي يلعب دورا كبيرا في تجميع عمل الآخرين، كما يقود صديق تشومسكي في MIT ديفيد بستسكي. ونظرا إلى أنه الشخصية المسيطرة في هذا المجال فإن مهاجمته هي الطريقة الوحيدة التي يلجأ إليها بعض العلماء لجذب الانتباه لنظرياتهم.

ويرحب الآخرون بالشك الذي يبديه تشومسكي في الجدل المتزايد بخصوص كيفية عمل العقل. إن طلب تشومسكي نتائج واضحة يكسبه بعض النقاط عند معظم العلماء.

يقول تشومسكي إنه من السهل جدا سرد القصص في عالمنا الأكاديمي اليوم. إنه يعترف بالخوف بسبب عدم معرفتنا بالكثير من الأشياء، ويقول: لا أحد يفهم الكثير عن كيفية عمل القوانين الفيزيائية.

وإذا كانت مكانة تشومسكي في عالم الثقافة ثابتة فإن مكانته باعتباره معلقا سياسيا تبقى قضية أكثر دقة. إن الدليل القوي يكمن في المدى الذي أصبح فيه منعزلا عن الحديث الثقافي الواسع عن الحياة الأميركية.

سوق الأفكار

يقول تشومسكي إنه لا يستطيع الوصول إلى القليل من الأماكن في معظم المراكز النظرية مثل «ناشونال ببلك راديو» و«نيويورك تايمز» و«الواشنطن بوست» سواء كان سيقدم مقالة أو كلمات منقولة عنه.

ويقول تشومسكي إن عبارة تهميش تحمل دلالة مثيرة تشبه إلى حد ما «العزل»، ويجب على المرء أن يكون حذرا بالنسبة إلى هذا المعنى. فعندما كنت طالبا في هارفارد لم أستطع الانضمام إلى بعض النوادي ـ نظرا إلى كوني يهوديا ـ ولكني لم أمنع من دخولها لأنني لم أوافق على رفض إقامة نوع من العلاقة معها. كذلك فلم يتم تهميشي من قبل الكثير من مؤسسات تيار الفكر الرئيسية والاتحادات التي لم يكن لديّ اهتمام بالاشتراك فيها.

يقول بعض المسئولين في وسائل الإعلام إن بإمكان تشومسكي الحصول على توزيع أكبر لأعماله إذا ما عبّر عن أفكاره بشكل أكثر إيجازا وبلاغة، شيئا يشبه الخطب القصيرة التي يلقيها السياسي. أما الآخرون في عالم المعرفة فيقولون إن وجهات النظر المعقدة والنتائج الراديكالية لا يوجد لها مكان في سوق الأفكار اليوم حتى لو وضعت بصورة مفحمة.

إن علماء السياسية الأميركيين يتجاهلون أي شخص لا يتفق معهم. إنهم ببساطة يكرهون النقد، أي نوع من النقد، كما يقول العالم السياسي بجامعة ماساشوستس في بوسطن توماس فيرغيوسن.

إن العلاقات الدولية أصبحت حقلا مغلقا فعلا. ويشير فيرغيوسن ـ ويتفق معه تشومسكي تماما ـ إلى أن الكثير من الأكاديميين في هذا المجال يأملون في الحصول على وظائف تختص بصنع السياسة في الحكومة الأميركية، لذلك فإنهم يتحاشون أي شيء باستثناء الآراء السائدة في التيار العام.

ولكن غوشوا كوهين، وهو صديق ومعجب بأعمال تشومسكي في MIT يقول إن إقصاء تشومسكي يبيّن كيف أن المثقفين الأميركيين يواجهون صعوبة في المشاركة في تيار الحياة المدنية. ولا توجد في الولايات المتحدة العلاقة نفسها بين المثقفين والمناظرة العامة والسياسية، كما هو موجود في فرنسا أو ألمانيا.

إنك لا تستطيع الإشارة إلى الكثير من المثقفين البارزين الذين يلعبون دورا رئيسيا في المناظرة العامة. إن هذا ما لا نقوم به.

عزلة المثقف

وهناك وسائل أخرى للتأثير على مجرى الحديث السياسي الأميركي طبعا. إن صوت تشومسكي سيُسمع في المحاضرات وسيقوم بالتدريس، كما سيؤثر في كتّاب المقالات الآخرين الذين يكتبون في الصفحة المقابلة للافتتاحية حتى لو كتب القليل من الأعمدة بنفسه.

وهناك سلسلة كبيرة من التأثيرات ولربما تجد تشومسكي كحلقة وصل مهمة في هذه السلسلة، كما يقول كوهين. ومازال تشومسكي يحضر إلى الحجرة 219 في المبنى رقم 20 ويقود ندوات الخريجين والطلبة الذين لم يتخرجوا بعد، ويكتب عشرات الرسائل يوميا.

ولكن يمكن تذكر تشومسكي مثل روسو القرن العشرين باعتباره مفكرا احتقره نظراؤه ثم أعادوا تقديره فيلسوفا ذا نفوذ قوي. ويقع اللوم على جُبن المثقفين الأميركيين في النوادي الأميركية والثقافة السياسية.

وعلى أية حال، فإن حماس تشومسكي للبقاء دخيلا على الجماعة هو الذي أبقاه خارج اللعبة. وبالنسبة إلى تشومسكي فإن البقاء في ذلك الوضع هو قضية نزاهة لأن ذلك يكشف عن طبيعته التي يريدها. فلو أن أصحاب التيار الفكري السائد قاموا بإطرائي لكان ذلك يعني أنني كنت أقوم بعمل خاطئ، كما يقول تشومسكي.

أما أولئك الذين يعتقدون بأن تشومسكي يستحق أن تنتشر أعماله بشكل أوسع فيراودهم الأمل بأن المواجهة بينه وبين التيار الفكري السائد يمكن أن تنتهي يوما ما

العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً