العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ

كتاب جديد لنادر كاظم من صفحات الوسط إلى القرّاء

«خارج الجماعة: كيلا تتحول التعددية الثقافية إلى جماعيّة قمعية»

بعد «استعمالات الذاكرة» يتناول نادر كاظم قضية التعددية الثقافية من منطلق إشكالي هذه المرة، وذلك في كتابه الجديد الذي نشر معظمه على صفحات الوسط والذي سيصدر خلال الأيام المقبلة، والكتاب بعنوان: «خارج الجماعة: كيلا تتحول التعددية الثقافية إلى جماعيّة قمعية».

وقد سبق لنادر كاظم أن تناول التعددية الثقافية في كتبه الأخيرة بما هي وصفة سياسية واجتماعية تضمن التعايش السمح داخل المجتمعات التعددية، إلا أنه في هذا الكتاب يتناول الآثار الجانبية السلبية التي قد تتسبب فيها التعددية الثقافية، ويركّز الكتاب على دور التعددية الثقافية في تعميق انتماء الأفراد إلى جماعتهم، الأمر الذي يمكّن الجماعات من الهيمنة على أفرادها والتعامل معهم كممتلكات خاصة، وهذا يقود إلى ما يسميه الكتاب بـ»الجماعيّة القمعية»، وفي هذه الحالة لا يصبح انتماء الفرد لجماعة ما مجرد خيار متاح بحرية أمام الأفراد، بل واجب على الجميع الالتزام به، وعلى الجماعة عدم التهاون تجاهه.

والكتاب بهذا المعنى يعترف بقيمة الانتماء وحق الأفراد في الانتماء إلى الجماعة، وهذا على خلاف ما يذهب إليه القوميون (الذين يتعاملون مع الانتماء إلى جماعة فرعية على أنه تمزيق لوحدة الأمة، وتقسيم للمجتمع، وتشجيع التعصّب والتخندق الطائفي، والخروج على الإجماع القومي) والتقدميون والطليعيون.

ينطوي الكتاب على مقاربة تأصيلية وتأملية في قضية التعددية الثقافية، وما تنطوي عليه من تقدير ضمني تجاه الجماعة وتجاه الهوية الثقافية أو العرقية. إلا أن الكتاب ينطوي كذلك على نقد صريح للتعددية الثقافية والجماعيّة القمعية التي تهدّد باختزال الإنسان، وتقليص وجوده إلى كونه مجرد عضو في جماعة من الجماعات، بحيث يكون انتماؤه الثقافي أو العرقي هو عنوان هويته المفردة، ومحور وجوده كله. إن مقاومة هذا النوع من الاختزال هي موضوع هذا الكتاب. ويذهب نادر كاظم إلى القول إن هذه المقاومة ينبغي أن تكون مزدوجة، فالمطالبة بالحرية السلبية ضد «تدخل الدولة» تعني أن من حق المرء أن ينتمي إلى الجماعة التي يريدها ويطمئن إليها، وتعني كذلك أن من حق المرء أن يبقى «خارج الجماعة» بحيث لا ينتمي إلى أية جماعة، كما أن من حقه أن يتعامل مع انتمائه الثقافي بمرونة تسمح له بالانتماء إلى أكثر من جماعة في الوقت ذاته، ومن حقه كذلك أن يقاوم ممارسات الاختزال التي تستهدف تقليص وجوده في انتماء مفرد ومعزول ومغلق إلى جماعة من الجماعات. فليس من المهم أن يكون المرء منتميا لجماعة أو يعيش «خارج الجماعة»، بل المهم أن تكون لنا الحرية في اختيار الجماعة التي نريد الانتماء إليها، وحرية البقاء داخلها أو مغادرتها، وذلك بعيدا عن سلطة الإكراه التي تمارسها الدولة أو الجماعات بحق أفرادها. وما يشدد عليه الكتاب هو أنه ليس من حق الدولة ولا الجماعات أن تلزم الأفراد بتأكيد انتمائهم لجماعة ما أو لهوية ثقافية ما، وأن من مصلحة الأفراد ألا يتعاملوا مع هذا الانتماء على أنه قدرهم الحتمي الذي لا يتغير له ولا يتبدل.

كما ليس من حق الدولة إلزام الجميع بتأكيد فردانيتهم وعدم انتمائهم لأية جماعة من الجماعات.

صحيح أن هذا الكتاب يتجاوز قضايا الذاكرة وسياسات التذكر والنسيان، التي كانت محور كتاب «استعمالات الذاكرة»، وصحيح أنه يركّز، بدل ذلك، على قضايا التعدد والجماعية وسياسات الاعتراف، إلا أن الصحيح كذلك أن هذا الكتاب يلتقي مع «استعمالات الذاكرة» في كون الكتابين ينهضان على نقد كل أشكال الاختزال الذي تمارس بحق الإنسان وبحق التنوع والتعدد. وإذا كانت الذاكرة مكونا أساسيا من مكونات هوية الجماعة، فإن النسيان، في المقابل يسمح للمرء بأن يبقى «خارج الجماعة». و»خارج الجماعة» ليس موقعا مريحا بالضرورة، بل هو عزلة وغربة وهامشية وحالة من الحرمان والقلق، وهي لا تكون إلا من نصيب «الخوارج» الذين يكتب عليهم أن يعيشوا حياة غير مطمئنة ولا مؤمَّنة، وهي أشبه بحياة المنفى، إلا أنه منفى داخلي، فأنت تعيش بالقرب من الجماعة، إلا أنك لست جزءا منها، وتمتنع، بإرادتك، عن التمتع بفضائل الانتماء إليها، وتحرم من كل الامتيازات التي يتحصّل عليها أعضاؤها المنتمون.

يقع المنفى على النقيض من وطن الإقامة الذي يمنح الشعور بالألفة «البيتوتية» مع الجماعة القومية أو الدينية أو القبلية أو غيرها. إلا أن المنفى الذي نتحدث عنه هنا ليس غربة مكانية عن وطن الإقامة، بل هو غربة تعاش داخل الوطن ولكنها «خارج الجماعة». إلا أن لهذا النوع من المنفى فضائل وامتيازات، فهو يسمح بالتحرر من ضغوط الجماعة والتزاماتها وذلّ المديونية إليها. صحيح أن الانتماء إلى الجماعة يمنح صاحبه شعورا بالأمان والطمأنينة والاستقرار، إلا أن الصحيح كذلك أن هذا الشعور ليس مجانيا، بل هو شعور مدفوع الثمن، والجماعات بارعة في تحصيل حقوقها من أفرادها بطرائق شتّى.

راهن كثيرون على أن انتصار الدولة سيلحق الهزيمة المنكرة بالجماعات والطوائف، وأن التقدم في التحديث السياسي والاجتماعي سيحوّل الجماعات إلى ذكرى من زمن سحيق، إلا أن الكتاب يثبت أن هذا لم يحدث بالصورة التي كان يراهن عليها. صحيح أن الدولة نشأت، وأنها تجذّرت في الواقع بعلاتها وعيوبها، إلا أن الصحيح كذلك أن الجماعات مازالت باقية ومحتفظة بجزء لا يستان به من وظائفها القديمة. وبدل أن تنقرض الجماعات وبنية المديونية القديمة، صار على الفرد أن يخضع لمديونية مزدوجة تجاه الجماعة والدولة معا، وصار كل فرد مطالبا بتقديم الولاء لجماعته ودولته معا. وخلقت هذه المديونية المزدوجة معضلة جديدة أمام الفرد، وخاصة حين تتعارض مصالح الجماعة مع مصالح الدولة.

ينتقد الكتاب تلك الفرضية كثيرة التداول التي تقول إن العلاقة بين قوة الدولة وقوة الجماعات علاقة تناسب عكسي، فكلما قويت الدولة ضعفت الجماعات، والعكس صحيح. إلا أن الحاصل على خلاف هذه الفرضية، فالجماعات حين تضعف فإنها لا تنقرض، بل تزداد قسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها. وقد كان نيتشه على حق حينما ربط قسوة الجماعة بضعفها، وتهاونها وتسامحها بقوتها، فـ»كلما ازدادت قوة الجماعة كلما نقص اهتمامها بتقصير أفرادها، ذلك أنهم لا يبدون لها خطرين على وجودها ولا مخربّين مثلما كانوا من قبل (...) وبمجرد ما يظهر فيها ضعف أو خطر محدق تظهر كذلك أشكال العقاب الصارمة. لقد كان (الدائن) دائما يتأنسن بقدر ما يغتني». وبما أن الدولة قد أضعفت من قوة الجماعات بشكل أو بآخر، فلن يكون من المستغرب أن تكشف هذه الجماعات عن وجهها المكفهرّ، بحيث تتعامل بقسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها، كما تتعامل مع أي نقد قد يطالها على أنه خطر يهدد البقية الباقية من وجودها.

العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً