ومن الزاوية الروسية لذلك المربع ننتقل إلى الصينية، حيث تجد بكين مجموعة متكاملة من العوامل التي تدفعها نحو تعزيز العلاقات مع كاراكاس. فإلى جانب عنصر المنافسة التي يحكم علاقاتها مع موسكو، هناك عوامل الضغط التي تحاول الصين أن تمارسه على الإدارة الأميركية كي تعيد النظر في العلاقات التي تحكم هذه الأخيرة مع تايون. على أنه من الأهمية بمكان معالجة العلاقات الصينية - الفنزويلية في إطارها الاستراتيجي، بدلا من حصرها في نطاق تكتيكي ضيق يتناولها من زاوية ردود الفعل الصينية الآنية فقط.
يعود اهتمام بكين الحديث في القارة الأميركية الجنوبية إلى مطلع هذا القرن. ففي العام 2001، وأثناء جولة الرئيس الصيني جيانغ تسه مين في أميركا اللاتينية، كانت هناك محطة متميزة في كاراكاس، حيث تم التوقيع على اتفاقات متعددة تشمل «تجنب الازدواج الضريبى ومنع التهرب الضريبى واتفاقية حول مد فنزويلا بقرض تفضيلي واتفاقية حول تنفيذ اتفاقية التعاون الثقافى (2001 - 2003) بين الحكومتين، كما وقع الجانبان وثائق تتعلق بالتعاون فى مجالات الطاقة والجيولوجيا والتعدين».
ولم يكد يمضي عام على توقيع تلك الاتفاقات حتى أصبح استقرار الوضع السياسي في كاراكاس، وتحت حكم الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز من صلب اهتمامات السياسة الخارجية الصينية. هذا ما أكدته تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية تشانغ تشي يوي مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 عندما قالت إنها «مسرورة بأن الوضع فى فنزويلا أخذ يستقر، وبأن الصين مقتنعة بأن الشعب الفنزويلي تحت قيادة الرئيس هوغو رافائيل تشافيز فرياس سيواصل التركيز على الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية وتحقيق إنجازات أكبر فى تقدم البلاد، وأن الصين ستواصل تنمية وتدعيم صداقتها وتعاونها مع فنزويلا».
بعد عامين على هذا التصريح، وتحديدا في مطلع العام 2004 وقّعت البلدان اتفاقية للتعاون تشمل إعادة تأهيل منظومة سكك الحديد الفنزويلية، من خلال مشروع يستغرق سنتين ويتضمن أعمال الاصلاح والصيانة والتحديث. وتطور العلاقات بوتيرة سريعة، وخاصة في المجالات الاقتصادية، عقب توقيع مجموعة من الاتفاقات في بكين، إلى درجة وجدنا فيها شافيز يؤكد في أغسطس/ آب 2008، «ان اقتصادي الصين وفنزويلا اللذين تسيطر عليهما الشركات الحكومية الكبرى يقدمان للعالم نموذجا صحيّا للنمو في وقت يتعثر فيه النظام المالي العالمي».
وبعد عامين أيضا، وفي العام 2006، وخلال زيارة تشافيز على رأس وفد فنزويلي كبير إلى الصين، أعلن الطرفان عن توقيع مجموعة جديدة من الاتفاقات حيث أعرب تشافيز عن ارتياحه لتوقيع «الاتفاقات والتعاون مع الصين وخاصة في مجال الطاقة»، مؤكدا عزم فنزويلا «على رفع صادراتها النفطية اليومية إلى الصين لتصل إلى 500 ألف برميل في اليوم من 150 ألفا». وبحث الطرفان حينها ما وصفته الجهات الرسمية في البلدين بسبل «تنفيذ اتفاقية الشراكة الاستراتيجية من أجل التنمية المشتركة التي جرى توقيعها منذ خمس سنوات، وتبادلا وجهات النظر حول السبل الكفيلة بتذليل كل الصعوبات التي تحُول دون تفعيل تلك الاتفاقية».
وأخيرا توج البلدان هذه المسيرة من التعاون بالإعلان، قبل أيام عن توقيع اتفاق نفطي مع الصين لاستغلال النفط في حوض أورينوك (شرق) بقيمة 16 مليار دولار حتى العام 2012». وسينفذ المشروع شركة فنزويلية صينية مشتركة لإنتاج 450 ألف برميل من النفط يوميا».
وإذا ما كانت مصادر الدوافع الفنزويلية وراء توثيق العلاقة مع الصين هي تشكيل جبهة مضادة تواجه بها الضغوطات الأميركية عليها سواء المباشرة، أو غير المباشرة عن طريق يعض دول أميركا اللاتينية، فهناك أيضا دوافع صينية محظة تفسر اندفاع هذه الأخيرة لتعزيز العلاقات مع فنزويلا، والتي يمكن تلخيص أهمها في:
1. تحجيم العلاقات الأميركية - التايوانية، وخاصة تلك الاتفاقية العسكرية الضخمة التي وقعتها الولايات المتحدة مع تايوان في العام 2006، والتي بلغت قيمتها، حينها ما يربوعلى 6 مليارات دولار أميركي، والتي اعتبرتها الصين بمثابة محاولة أميركية للإخلال بالنفوذ الصيني في آسيا، وبالتالي، وبدلا من المراوحة في مواقع دفاعية، وجدت الصين في فنزويلا موقعا متقدما تهدد من خلاله واشنطن وترغمها على إعادة النظر في أشكال ومستوى الدعم الذي تقدمه لتايوان، وخصوصا في المجالات العسكرية.
2. منافسة الوجود الروسي في دول أميركا اللاتينية، والذي رغم انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن موسكو لا تزال تحتفظ ببعض العلاقات المميزة مع دول تلك المنطقة، وعلى وجه الخصوص منها كوبا وفنزويلا. وتطمح الصين أن تكرر هنا ما حققته من تقدم في القارة الإفريقية، حيث نجحت في الاستفادة من الفراغ الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي وانشغال موسكو في إعادة ترتيب أولوياتها كي تتمكن من حل مشكلاتها الداخلية أولا، وتحجيم تلك القادمة من عواصم الدول التي كانت ضمن الكتلة السوفياتية، وفي مقدمتها جورجيا، وعن طريق تقديم المساعدات، وتوقيع الاتفاقات أن تجد لنفسها موطئ قدم في القارة السمراء.
وبقدر ما يخدم تطور العلاقات الفنزويلية الصينية بكين في تحقيق تلك الأهداف، بقدر ما يساعد كاراكاس في تحشيد أوسع جبهة عالمية تستفيد منها في تمردها الذي تشنه ضد واشنطن، فهي تدرك أن من بين الأوراق التي تملكها الصين بين يديها هناك الديون المستحقة للصين على واشنطن والتي تربو على تريليونين من الدولارات، وهناك الاحتياطي الصيني من العملة الصعبة والذي يصل أيضا إلى قرابة 1.8 تريليون دولار.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2570 - الجمعة 18 سبتمبر 2009م الموافق 28 رمضان 1430هـ