العدد 286 - الأربعاء 18 يونيو 2003م الموافق 17 ربيع الثاني 1424هـ

جان دوبوفيه عبقرية الفن الفطري

يحيي متحف الفن الحديث في مركز جورج بومبيدو الذكرى المئوية لميلاد جان دوبوفيه، فقدم أخيرا العرض التاريخي الأول لاعمال الفنان جان دوبوفيه في فرنسا منذ 1973. وهو حدث على جانب من الأهمية على الصعيد الدولي يقام لمجد رائد الفن الفطري الذي رحل عنا في العام 1985.

القى المعرض، الذي ضم مجموعة متكاملة، نظرة اجمالية على مختلف التقنيات التي استغلها الفنان كما يقدم تشكيلة واسعة تظهر قدراته الابداعية الخارقة. تجتمع فيها بترتيب زمني جميع مراحل اعماله الفنية. اللواحات الـ 400 التي تم جمعها، ومن بينها مجموعات رسم مهمة (جسد سيدة، وسيرك باريس، ومسارح الذاكرة، وقبلة انظار ولا مكان) تأتي من متاحف كبيرة ومجموعات خاصة فرنسية (المتحف الوطني للفن الحديث لمدينة باريس ومؤسسة دوبوفيه وعالمية (متحف الفن الحديث بنيويورك ومتحف بواجمانز فان بونينجين في روتردام وقاعات المتحف الوطني للفن الحديث ببرلين).

ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. شعر بعض الفنانين من انصار الرسم الارتجالي بضرورة اعادة البحث الجذرية في بعض المسائل. فالفن الذي يقدمونه هو فن لا شكلي ولا يدين بأي شيء للماضي كما أنه لا يتأثر بأية موجة فنية أخرى. وكان جان دوبوفيه في عداد هؤلاء الرسامين الذين وضعوا لأنفسهم هدفا وهو التخلص من نفوذ التقاليد واستكشاف أراض مجهولة لاستعادة «العفوية التاريخية ليد الانسان عندما تقوم بخط الاشارات».

ولد دوبوفيه في الهافر بمقاطعة نورماندي الفرنسية في سنة 1901 ودرس الفنون الجميلة. إلا أنه لم يجد طريقه وعدل مرتين عن الاستمرار في الرسم. وفي سن الثانية والاربعين أعفته ثروة عائلته من الاحتياج لبيع لوحاته الفنية، ودمر كل انتاجه وقرر التحرر من «الثقافة الخانقة» والاستلهام من فنون الشارع والتفرغ للابداع.

تمجيد المبتذل

كان دوبوفيه يود لفت انتباه الجمهور الى العالم اليومي المعتاد، وبما أنه كان يعارض صراحة الفن «المثقف» الذي نتعلمه في المدارس أو في المتاحف، أخذ يهاجم مجتمع الاستهلاك البوجوازي ليظهر ان الأشياء التي قد يراها البعض قبيحة يمكن أن تحتوي على عجائب لا نهاية لها. فبالنسبة إليه، ليس الفن سوى نشوة ومجون.

وللتنديد بالطابع الانتقائي والقمعي للثقافة الرسمية، قام في العام 1945 بوضع مفهوم جديد للفن الفطري، وهو فن تلقائي ومبدع، رافضا تماما كل مظاهر التناسق والجمال، فن يتخذ من الافراد المغمورين الغامضين والغرباء عن أوساط المهن الفنية ابطالا له. واستوحى دوبوفيه من هؤلاء. فتأرجحت أشكال لوحاته الصافية بين الفن التصويري والفن التجريدي، وهي تذكرنا بما لها من ألوان جريئة ورعونة متعمدة بالأعمال التي يرسمها المصابون بالأمراض العقلية والاطفال، ولكن لا يمكن اغفال الترتيب في أسلوبه الفني.

ويتلاعب دوبوفيه بالخرق والخربشة والمادة الخام. وبهذه الطريقة أعاد اكتشاف أصول الفن، فالوجه الانساني ذو الخطوط المعروفة تحول الى مجرد وجه لرجل مهمل (دوتيل مطعم بالمشمش في 1947. ثم ميتافزيقا في 1950)، أما مجموعة البورتريهات التي اطلق عليها اسم اجمل مما يظنون (1947) وأجساد النساء (1951) فقد أثارت ردة فعل الجمهور بشكل عنيف.

في العام 1948 وبالاشتراك مع الكاتب السيريالي أندريه بروتون والرسام الاسباني انطوني تابياس أسس شركة الفن الخام التي جمعت اعمال الهامشيين. مفخرة أي مفخرة الادعاء بفتح عالم الفن للاطفال والمبعدين عن المجتمع... فبالنسبة إليه: أي انسان هو رسام. الرسم مثل الكلام أو المشي. الامساك بالقلم وعمل الخطوط أو بعض الصور على أية مساحة قريبة من متناول يده هو شيء عادي بالنسبة للانسان، تماما مثل الكلام.

عشق المادة

يستخدم دوبوفيه بحرية تامة التقنيات والمواد المتنوعة التي ينتقيها من بين الاكثر غرابة. فهو يعتقد أن المادة هي التي تحدد بوضوح الأثر الذي يحدثه الشكل النهائي للعمل الفني. «يجب أن يولد الفن من المادة والاداة المستخدمة».

لذلك فإنه يقوم بتركيب مناظر غريبة من خياله مثل مجموعة علم المادة وعلم النسجيات (1957 - 1960) فيكرم الأرض بنثر القطران والصدأ والرمل وقطع الاسفنج على لوحاته، وبلصق أجنحة الفراشات أو نشارة الخشب وبعض الألياف على أوراق بالية ومجعدة وعلى ألواح أو أقمشة برسوم زيتية. كما يقوم برسم خربشات وينقشها بقوة بسمك معجونة لا شكل لها يبحث عن الالهام في المادة العادية متجددا باستمرار.

وابتداء من العام 1962، تخلى دوبوفيه عن الاعمال التي «تبجل المادة واتجه الى أسلوب جديد يتميز بدورة الأورلوب التي شغلته لمدة 12 سنة. والكلمة محورة من الأصل انتورلوب وهي تعني «اللعبة الخبيثة». وتصور هذه المجموعة الجديدة المدينة بمشاكلها في المواصلات وفي مواجهة الخارجين عن القانون. وقد أنجز الفنان في هذه المرحلة اشكالا من الراتنج المكربن الشبيهة بلعبة تركيب معقدة (بازل) الزاهية الألوان والمكونة من الأحمر والأسود والابيض والأزرق، وقد تتحول هذه الاشكال إلى احجام ومنحوتات واشكال هندسية ضخمة. كالحجرة الواسعة التي أطلق عليها اسم حديقة الشتاء (1968 إلى 1970).

وفي 1975، قام بتأسيس قعلته الفنية فيللا فالبالا في بيريني سور يار بالاقليم الباريسي والتي نستطيع أن نزورها حتى اليوم. وتتكون مقتنياته التي تربو على ا لألف قطعة من أعمال متنوعة لفنانين علموا نفسهم بأنفسهم كاللوحات والمجسمات والمنحوتات المعروضة منذ 1976 في قصر بوليو بلوزان في سويسرا.

إلا أن التيار ظل مقطوعا بين الجمهور والفنان على رغم بساطة موضوعاته التي استلهم معظمها من الحياة اليومية. إلا أن عرض تاريخ لوحاته والرسومات والمنحوتات الذي أقيم في متحف الفنون الزخرفية في باريس في 1961 ثم المعرض الضخم الذي أقامه في متحف الفن الحديث في نيويورك في 1962 ساهما في دفع هذا الفنان الفرنسي الأكثر اثارة للجدل بعد الحرب العالمية الثانية الى واجهة الساحة الفنية العالمية. وكان لدوبوفيه موهبة غريزية في الكتابة وهو قد كتب ايضا كثيرا وبلغة بسيطة جدا. ففي كتابي نشرة اعلامية للهواة في كل المجالات والثقافة الخانقة قام باستعراض مفاهيمه الخاصة بالفن الحديث، من دون أن يكل من التمرد على الثقافة الرسمية. فهذا الذي أثار في بعض الاحيان الفضائح طواعية برسومه الطفولية لم يكن يبحث عن الاعتداء ولكنه كان يريد انتزاع الاعجاب والاحتفال بالشكل غير المكتمل وبالمواد المثيرة للاشمئزاز عند النظر اليها لأول وهلة. ويعتبر دوبوفيه مبتكرا ومثيرا للعبقرية. وقد نجح في لفت انتباه الجمهور إليه على المستوى العالمي وقد تعلم أيضا أن ينظر إلى العالم بعيون جديدة.

لابل فرنس بالاتفاق مع السفارة الفرنسية

العدد 286 - الأربعاء 18 يونيو 2003م الموافق 17 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً