في استفتاء شعبي أجرته احدى صحف مدينة شيكاغو الأميركية قبل أربعة أعوام كانت غايته تعيين من هم الأشخاص الأكثر شهرة وتأثيرا في أميركا خلال النصف الأول من القرن العشرين إذ كانت المفاجأة أن أتى اسم آل كابوني من بين الأسماء العشرة الأولى، إلى جانب الطيار لندنبرغ وتشارلي شابلن والرئيس روزفلت والملياردير روكفلر. فمن هو آل كابوني هذا؟ سؤال لابد من طرحه حتى وإن كنا نعرف. منذ زمن بعيد وبفضل السينما فإن آل كابوني ليس أكثر من رجل عصابات وزعيما من زعماء المافيا الأميركية، ذات الجذور الإيطالية التي نشطت في الولايات المتحدة، وخصوصا خلال تلك الفترة من الزمن.
والمدهش أن جزءا كبيرا من نشاط تلك المافيا ومن نشاط آل كابوني تبعا لذلك ارتبط بقرار منع بيع الخمور والذي اتخذ عند نهاية الحرب العالمية الأولى... إذ بفضل ذلك القرار صار تهريب الخمور نشاطا مربحا، وكان من الطبيعي لعصابات المافيا أن تستفيد من الأمر برمته.
ومن هنا فإن «عهد» آل كابوني الذهبي، يشمل تماما تلك الفترة الذهبية التي كان القرار فيها قيد التنفيذ... لأن نشاطه قام أساسا على تهريب الخمور. ومع هذا فإن الفكرة «العبقرية» لم تكن فكرته: بل فكرة نمت وترعرت في ذهن شخص يدعى جون توريو. وتوريو هذا كان نيويوركيا من أصل إيطالي، توجه ذات عام ليقيم في شيكاغو وبدءا من العام 1910 صار حارسا ومرافقا للمدعو جيم كولوزيمو الذي كان زعيما مرموقا من زعماء العصابات. وكان توريو قد مر بفترة تدريب شاقة وسط عصابات نيويورك. ثم بسرعة أبدى حسا تجاريا وعمليا متميزا، جعل أفكاره متفوقة على أفكار كولوزيمو نفسه... وهكذا تجده يمد علاقاته واتصالاته إلى خارج شيكاغو ويحقق أرباحا هائلة من خلال علاقته ببيوت القمار السرية وكذلك ببيوت الدعارة التي كان يؤمن إدارتها وحمايتها. وبعد ذلك حين وضع قرار تطبيق منع الخمور موضع التنفيذ، افتتح بعض الحانات يقدم فيها الجعة لا أكثر... وقد لاحظ بعد فترة أن الطلب على ذلك المشروب يزداد وأن الأسعار ارتفعت بشكل جعل من الأفضل له أن يبيع بالجملة بدلا من المفرق. ومنذ تلك اللحظة وجد لزاما عليه أن يصفي منافسيه الذين تعلموا أصلا على يديه كيف أن تجارة الخمور هي الآن التجارة الرابحة. وهكذا حين صفى توريو من صفى صار هو السيد المطاع، لاسيما بعد أن وجد «سيده» كولوزيمو مقتولا ذات يوم من دون أن يعرف أحد من قتله ولماذا؟
شاب واعد
في ذلك الحين شعر توريو أن عليه الآن أن يتخذ بدوره مساعدا له... لذلك راح يفتش في حيه القديم بنيويورك عن فتى نبيه مخلص يمكن أن يقوم بالمهمة... وهكذا عثر في العام 1920 على ضالته المنشودة: شاب في الثالثة والعشرين من عمره يدعى الفونس كابوني ويكنى آل. وكان آل هذا شابا واعدا سبق له خلال الحرب العالمية الأولى أن خاض الحرب مع القوات الهجومية الأميركية في أوروبا. لكنه بعد ذلك وجد متورطا في جريمتين على الأقل من دون أن تطاله الشرطة... لأنه كان حاذقا في تشغيل عقله كما كان حاذقا في تشغيل قبضتيه ومسدسه. صحيح أنه كان أميا بعض الشيء... لكن هذا الأمر لم يكن أبدا مهما بالنسبة إلى نوعية العمل الذي يريد منه توريو القيام به. فالعمل كان مربحا في الأحوال كافة طالما أن مدخول توريو السنوي لم يكن ليقل في ذلك الحين عن 100 ألف دولار - سيتلقى، كما قال له توريو - ربعها، كما أنه سينال نصف ما تدره تعبئة الزجاجات بالخمر سرا...
وكان هذا كله مغريا... وهكذا انتقل آل كابوني من نيويورك إلى شيكاغو إذ أقام في المنزل رقم 2222 بجادة ساوث واباش. أما بطاقة زيارته فكتب عليها أن مهنته «بائع أثاث عتيق». وهكذا إذا صار آل كابوني ابنا لشيكاغو وبدأ يمارس حياته فيها.
لكن الحياة في شيكاغو كان فيها «طلعات» و«نزلات» كثيرة، والشاب كان ينفق مبالغ كبيرة على لعب الورق ودعوة الأصدقاء إلى العشاء... إضافة إلى أن التعاون مع توريو لم يكن سهلا... والأهم من هذا أن مهمة كابوني الأساسية كانت تقوم على قيادة وتوجيه فريق من 700 شخص أكثر من ربعهم مجرمون سابقون مطلوبون للعدالة.
أما توريو نفسه فإنه كان يسيطر تماما على ضاحية من ضواحي شيكاغو تدعى شيشرو. فكيف تم له ذلك؟ عبر تخلصه من زعيم محلي... أما المنفذ الرئيسي للعملية فكان كابوني نفسه في عملية سال فيها دم كثير، بل قتل فيها شقيق لآل كابوني كان معاونا له.
المهم أن الأعمال أخذت تزدهر إلى درجة أن آل كابوني صار يكسب 25 ألف دولار، ليس سنويا بل أسبوعيا. أما توريو، الذي صار شديد الثراء وعجوزا، فإنه آثر محاولة اغتياله والتي أخفقت في العام 1924، ليمتلئ هلعا ويقرر أن يتقاعد... وأن يسافر ليزور بلده الأصلي إيطاليا مستفيدا الآن من الثروة التي تجمعت لديه، وكان من الطبيعي أن يخلفه آل كابوني الذي صار زعيما مطلقا.
ثمن باهظ
لقد صار في وسعه الآن أن يعيش حياته طولا وعرضا، ولكن من دون أن يخفى عليه أن أعداءه المتكاثرين قد وضعوا ثمنا لرأسه: 500 ألف دولار يربحها من يتمكن من قتله...
وفي الوقت نفسه، كانت الشرطة قد بدأت تتنبه إليه جديا. وفي هذا المجال كان الرجل شديد الدهاء والفطنة، لذلك كان يقوم بكل أعماله من دون يترك أثرا. ومع هذا وجد نفسه في العام 1929 نزيل السجن في فيلادلفيا. لكن التهمة لم تكن ضخمة: كل ما في الأمر أن الشرطة عثرت في حوزته على سلاح ناري أخفاه داخل ثيابه، وكان هذا الأمر يعتبر جريمة في ولاية بنسلفانيا، التي كان يمر بها صدفة. إذا ها هو الآن في السجن لعشرة أشهر... والأمر لم يكن سيئا طالما أن سجنه على ذلك النحو جعله لفترة في مأمن من منافسيه الذين كانوا في ذلك الوقت بالذات يطاردونه بشراسة.
غير أنه بعد عام ونصف العام من اطلاق سراحه في تلك المرة، عادت السلطات الفيدرالية لتعثر على مبرر جديد تسجنه به: التهرب الضريبي هذه المرة. فكانت فترة السجن هذه المرة طويلة، إذ انه لم يخرج إلا في العام 1939، ليموت بعد ذلك بثمانية أعوام وقد هدّه مرض الزهري الذي أصيب به في السجن.
إذا ما الذي أغرى الكتاب والسينمائيين في هذه الحياة بل حتى الجمهور العادي، بحيث حول آل كابوني إلى أسطورة، وصار على مر الزمن أشهر رجال عصابات عرفته الولايات المتحدة؟
إن الكاتب الذي وضع أول سيرة روت حياة آل كابوني، تمكن بشكل جيّد من تحليل شخصيته ليفيدنا بأن أهمية هذا الرجل تكمن في أنه كان ذا شخصية رباعية فهو في المقاوم الأول كان رجلا عاديا، زوجا طيبا، ابنا رؤوفا، أبا رحيما وأخا مشفقا. وهو حين وصل إلى شيكاغو لم يتمكن إلا بصعوبة شديدة من التخلص من التأثيرات الحميمة التي كانت مورست عليه في نيويورك. وهكذا بدت ثيابه مبتذلة وبدا دائما سيئ الهندام. والعنف في المقابل كان وسيلته المفضلة للتعامل مع أعدائه ومنافسيه. وكان سريع التعامل مع مسدسه وقبضتيه. ثم مع ازدياد ثروته تبدت لديه الرغبة في أن يعيش من دون أن يلفت أنظار أحد ما إذا كان ذلك ممكنا. وقد سكن في الجانب الجنوبي من شيكاغو، في منزل من طابقين قرميدي السطح: منزل يشبه كل المنازل الأخرى التي يمكن أن يعيش فيها أي مواطن أميركي متوسط. وهناك عاش مع زوجته وأبنائه وأمه وأخته وشقيقين له. وكان مسكنه بعيدا جدا عن «مكان نشاطه وعمله»، في حي هادئ من الصعب لأحد أن يشتبه بأن فيه مقطرة للخمور ومعملا لتعبئة الزجاجات. فهناك اعتبارا من التاسعة مساء كان الحي يخلد إلى هدوء وديع وكان عدد الإيطاليين المتجولين في الشوارع فيه قليلا. وفي المقابل كان كان هناك كثير من الألمان والايرلنديين والاسكتلنديين. كما أنه على بعد أمتار من منزل آل كابوني كان يسكن مطران متقاعد، وغير بعيد منه كان يسكن عدد من التجار، بل أيضا ثلاثة من ضباط الشرطة. والجيران لم يكن لديهم أي سبب للشكوى. فكل شيء هادئ هنا. وأسرة كابوني بسيطة وخدومة.
طباخ ماهر
والحال أن كرم آل كابوني وأريحيته كانا مضرب الأمثال. فكان يوزع المال يمينا ويسارا من دون أن يكون له أي هدف من ذلك بالضرورة. وذات مرة حين دخلت أخته مدرسة راقية في شيكاغو توجه آل بسيارته الفخمة إلى المدرسة عشية عيد الميلاد وراح يوزع الحلوى والسكاكر والفواكه وكل أنواع الهدايا على رفيقات أخته وبقية الطالبات. أما الضيف الذي كان يصل إلى منزله فكان يستقبل بكل ترحاب وود. وآل نفسه كان طباخا ماهرا، فكان يعرف خاصة كيف يطبخ السباغيتي ويقدمها مرفقة بكؤوس الشيانتي الفاخرة. وفي لحظات فراغه كان يعرف كيف يخلد إلى الهدوء التام ويستلقي مستمعا إلى جهاز الراديو الخاص به، أو يلعب مع ابنه. وفي الاجمال كان يبدو وكأنه يعيش حياة لا معنى فيها لكلمة عمل أو جهد. فهو كان يترك منزله، ويعود إليه في أية ساعة من ساعات اليوم، غير أن أحدا في الجوار كله لم يكن ليعرف شيئا عن عنوان مكتبه. صحيح أن اسمه كان يظهر من وقت إلى آخر في الصحف، ولاسيما في زوايا الحوادث والجرائم، لكن هذا لم يكن ليقلقه كثيرا. في المقابل، وفي اللحظة ذاتها بدأت الشرطة تراقبه وتراقب بيته بشكل كتوم لم يلفت نظر أحد.
في ذلك الحين، على أية حال، لم يكن زعماء العصابات في شيكاغو يشبهون زعماء سنوات الخمسين الذين كان يحلو لهم أن يتفاخروا بثقافتهم أو بأسلحتهم. فأشخاص مثل آل كابوني ولاكي لوتشيانو وكوسيتلو، كانوا متواضعين يقومون «بعملهم» بكل هدوء غير راغبين في أن يلتفت إليهم أحد. وكان الواحد منهم يحب أن يبدو محافظا وكتوما. ولم يكن ليريد أن يبدو وحشا ضاريا، من هنا كان يتصرف خارج «الدوام» كإنسان عادي. وهكذا، كان الناس يفاجأون حين يعلمون ذات يوم أن جارهم أو صديقهم الهادئ ليس في حقيقة أمره سوى زعيم عصابات خطير.
وآل كابوني، على تلك الوتيرة اذا، تمكن من أن يبني امبراطورية في منطقة شيشرو، امبراطورية مليئة بالفنادق والمطاعم وصالات القمار، كلها تحت سيطرة آل ورجاله. أما المقر الرئيسي لـ «بطلنا» هذا، فكان في فندق «هاوثورن» المؤلف من ثلاث طبقات وسطح قرميدي، والمدعم بشرفات ونوافذ معدنية تؤمن حماية إضافية للمطاف. وفي القبو كان ثمة ترسانة سلاح ضخمة، أما فناء الفندق فكان يسبقه ممر عرضه 8 أمتار، مراقب على الدوام بحيث يمكن للمراقب أن يعلن لمن في الداخل وصول زوار أو مدعوين. وكان هناك بشكل دائم نحو 12 شخصا جالسين يقرأون الصحف أو يدخنون، وهم مستعدون على الدوام للتدخل عند أقل إشارة. انهم حراس آل كابوني الشخصيون. وهكذا كان يمكن لهذا الأخير أن يعمل بكل هدوء أو يلعب النرد، ذلك أنه ظل حتى النهاية هاويا لكل أنواع المراهنات... ولنذكر هنا أنه بنى وسط الفيلا التي يسكنها ملعبا صغيرا بكلفة نصف مليون دولار، اللعبة الأساسية فيه محاولة القبض على أرنب كهربائي (!)... وكانت المراهنات تجري بين الزعيم ورجاله أو ضيوفه للقبض على الأرنب... وطبعا كان هو الرابح في معظم الأحيان. وبالمناسبة نذكر أن مكاتب المراهنات التي كان يهيمن آل كابوني عليها إضافة إلى أعماله الكثيرة، كانت وحدها تربحه أكثر من 10 ملايين دولار سنويا. ومن ناحية أخرى فإن الفندق كان من البعد عن وسط مدينة شيكاغو بحيث أنه كان يشكل مكانا مثاليا للقاءات السرية التي يمكن أن يعقدها السياسيون ورجال المال والأعمال، وكان آل كابوني يستقبل كل هؤلاء باحتفاء، بحيث اننا خلال حفلات العشاء والتي تكلف مئات الدولارات كان يمكننا التعرف على كبار القوم في شيكاغو.، وكانت التسلية كبيرة خلال تلك اللقاءات... وكان آل كابوني السيد المطلق في ذلك كله. وفي شيكاغو نفسها أيضا كان آل كابوني لفترة من الزمن سيدا مطلقا..
العدد 295 - الجمعة 27 يونيو 2003م الموافق 26 ربيع الثاني 1424هـ