العدد 304 - الأحد 06 يوليو 2003م الموافق 06 جمادى الأولى 1424هـ

إنها سينما إذا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كل يوم نسمع من المسئولين في الإدارة الأميركية «النغم» نفسه: انهم يكرهون أميركا، يحسدونها، يريدون تدميرها، يتمنون ان تصبح مثلهم.

هذه «المعزوفة» تتكرر يوميا. مضافا اليها الكثير من الكلام عن «النجاح الأميركي» و«الحلم الأميركي» و«النموذج الفريد من نوعه» وغيره من الكلام الذي يشير إلى نوع من تضخم الذات وارتفاع الأنا والاحساس بالعظمة والتفوق والنظر إلى الآخر «من فوق». فالآخر في الكلام اليومي الأميركي هو «التحت» والعالم هو ما دون أميركا. وعلى العالم ان يعترف بهذا الواقع ويتصرف ضمن شروط هذه الحقيقة. وتترافق مع هذا الغرور المتعاظم سلسلة مخاوف من الآخر (الغريب) الذي تصوره بعض الأفلام الأميركية بأشكال وهيئات غريبة وعجيبة وكأن صورة الإنسان الحقيقي هي تلك الأميركية وما عداها مجرد أشباح لا تملك تكاوين الانسان. فالوجوه دائما مختلفة، والألوان كذلك. وأحيانا تكون صورة الآخر مفزعة وشريرة تريد «الشر» من أجل الشر، وتريد تدمير أميركا لأسباب مجهولة وغير معروفة.

هذه الصور التي درجت بعض الشركات السينمائية في هوليوود في انتاجها واستنساخها منذ فترات بعيدة رسمت في ذهن الإنسان الأميركي (البسيط) الذي لا يهتم بالسياسة - ولا يسمع أصوات الجوعى والفقراء والمساكين والمرضى والعطشى في إفريقيا وبعض آسيا وأميركا اللاتينية - حواجز نفسية - ثقافية مع العالم الآخر. وبات الآخر (الغريب) هو نمط مختلف من البشر الذي لا يفهم سوى لغة العنف والقوة. فالمعركة كما تصورها بعض الاشرطة السينمائية هي بين «الشر» و«الخير». وفي حرب «الخير» ضد «الشر» لا مجال للحياد. فالمعركة واضحة وعادلة ومن يتردد في خوضها إلى جانب الولايات المتحدة يعتبر في معسكر الأعداء يجب التعامل معه بأسلوب الكسر والبطش.

سؤال «لماذا يكرهوننا؟» انتقل بعد سنوات من الترويج السينمائي من الشاشة إلى الواقع وبات العقل السياسي الأميركي يفكر في سياق الصور والانماط والأشكال التي صورتها بعض شركات هوليوود عن الإنسان «الآخر» و«الغريب». والآخر كما تردد بعض تصريحات المسئولين الأميركيين هو ذاك الشخص «المتوحش» و«الهمجي» و«الشرير» الذي يريد تدمير أميركا... فقط لأنه يريد تدميرها. وعلينا ان نسبقه ونضربه قبل ان يضربنا، وعلينا ان نسحقه قبل ان ينجح في انتاج الأدوات (الاسلحة) التي تسمح له بذلك. انه صراع مع الوقت، والغاية تبرر الوسيلة، ولا مجال للتردد في معركة «الخير» ضد «الشر»، وعلينا ان لا نعطيهم فرصة للتخطيط أو للنهوض. وعلى «محور الخير» ان يبقى دائما في حال حذر واستنفار واستعداد ثابت لخوض المعارك الدائمة ضد «محور الشر» لانقاذ البشرية (أميركا) من بشر تنقصهم الانسانية والتربية والاخلاق والحب والمعرفة.

سؤال «لماذا يكرهوننا؟» لم يعد مجرد وجهة نظر «فنية» اخترعتها مخيلة سينمائية بقصد الاثارة والتخويف وجذب المشاهدين إلى الصالات. تحول السؤال إلى سياسة والسياسة إلى استراتيجية ثابتة تهدد «الآخر» و«المختلف» لسبب بسيط وهو أنه مجرد «آخر» و«مختلف». فالآخر يعني الغريب والمختلف يعني المتخلف الذي يحسد الغني على غناه والناجح على نجاحه. انها معركة سينمائية انتقلت من الشاشة إلى الواقع. ومن يستعرض عشرات الاشرطة والصور التي تلاحقت في العقود الثلاثة الأخيرة يلاحظ هذا التطور في انماط اختراع الاعداء من المخيلة واعادة تجسيدهم في أشكال غريبة تشبه البشر ولكنها ليست من جنس الانسان.

المعارك الوهمية التي اخترعتها المخيلة السينمائية تحولت الآن إلى نوع من المعارك الحقيقية التي باتت تشكل حيزا من فضاء التفكير الاستراتيجي الأميركي في رؤية الآخر وقراءة المستقبل. والمشاهد «المقطعة» التي نراها في الافلام تحولت إلى سلسلة مترابطة من المفاهيم «الايديولوجية» التي يطلقها المسئولون. ومن يقرأ تصريحات وخطب بعض المسئولين في إدارة البيت الأبيض يستطيع ان يجد الكثير من التطابق بين فقرات من التفكير الاستراتيجي وبعض تلك النصوص التي سبق وسمعناها في اشرطة سينمائية. فالثقافة البسيطة الساذجة المختلقة والمخترعة من المخيلة أصبحت تدل على مؤشرات سياسية تكشف عن بدايات تحول في الرؤية الاستراتيجية للإدارة الأميركية. فالمعركة لم تعد بين بشر وبشر بل بين بشر و«وحوش». والأميركي هو الانسان الكامل أما الآخر فهو انسان ناقص شرير يجب مطاردته والقاء القبض عليه باعتباره مجرما أو لصا.

حتى فكرة تقديم جوائز لمن يرشد أو يطارد أو يلقي القبض أو يقتل أحد هؤلاء اللصوص والمجرمين والاشرار نجدها كامنة في التاريخ الأميركي في زمن «الكاوبوي». وهي فكرة ليست جديدة أو مستحدثة فهناك الكثير من الافلام (التواريخ) التي تشير الى فئة امتهنت حرفة مطاردة اللصوص والمجرمين لكسب جائزة ترضية تقدمها الدولة الفيديرالية في أميركا.

الآن تعولمت الفكرة وباتت الدولة الأميركية تضع الجوائز والحوافز لمن يدلي بمعلومات أو يرشد أو يساهم في مطاردة «المجرمين» و«الاشرار» الذين يريدون تدمير «الحلم الأميركي». فالأمور اختلطت بين السياسي والسينمائي والخيال تحول إلى واقع فضاعت الحدود بين الحقلين.

يا له من زمن... انها سينما إذا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 304 - الأحد 06 يوليو 2003م الموافق 06 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً