«نحن عبيد في البلاد العربية لأننا لا نمتلك الحرية... التيارات التي تحتضن الجهل باسم الإسلام هي من تساعد الموساد... الحكومات العربية تشتري أسلحة لا تعرف كيف تستعملها... لماذا لا تنفق هذه الثروات على العلم الحديث؟... في البلاد العربية يعمل بعض رجال الدين في المخابرات... النساء تحارب في الجيش البريطاني، وتعمل في الطيران في الجيش الإسرائيلي، وتجلس في البيت في بلادنا العربية»!
من هذه المحطات انطلق رجل الأعمال جاسم محمد مراد يعلن آراءه التي تميزت دائما بالجرأة، يؤمن بأن حرية الرأي لابد أن تكفل للجميع، وانه بالعلم يمكن أن تتطور الشعوب.
يقولون عنه (بايع ومخلص)، وهو يقول: «لم أسجن لأنني كنت دائما حذرا».
في حديث له ملامح واضحة، ومذاق خاص، فتحنا ملفات الذكريات، لنحاول أن نعرف خطوطا أخرى في شخصية جاسم مراد عاشق الحرية.
قال: «ولدت في العام 1930 في «فريج مراد» في المحرق، كان والدي يعمل طواشا، يشتري ويبيع اللؤلؤ.
توفيت والدتي في ظروف غريبة، كانت مصابة بقرحة في المعدة، ومن عادة الناس في ذلك الوقت في فترة النفاس - ولقلة وعيهم الصحي- أن تأكل المرأة في النفاس أطعمة مليئة بالفلفل والبهارات الحارة، ونزفت والدتي من معدتها، بعد أن تناولت وجبة بهذه المواصفات، وتوفيت على اثر هذا النزيف، لم يكن الطب متطورا في تلك الفترة.
موت والدتي وأنا في سن صغير- فلم أكن تجاوزت السبع سنوات- جعلني أعتمد على نفسي، قرأت القرآن في كتاتيب، وكان الشيخ الذي يعلمني أميا لا يعرف القراءة أو الكتابة، وإنما يعرف قراءة القرآن فقط، لم نكن نتعلم في الكتاتيب... ألف، باء، ولكننا كنا نتعلم قراءة القرآن حفظا.
أصبحت راعي البيت وأنا في الثامنة من عمري، كان والدي يترك لي المصروف - عشرون روبية - قبل أن يذهب في رحلة عمل، وأقوم بالإنفاق وأسجل كل ما أنفقه في ورقه، وكانت جدتي تقوم بكل شئون البيت، وغياب والدي عن البيت يتوقف على شراء وبيع اللؤلؤ.
فلسطين الهاجس
ومن الكتاتيب إلى مدرسة الهداية ثم إلى المدرسة الثانوية، وأنا في الثالث ثانوي كنت عضوا في نادي الإصلاح الذي أصبح فيما بعد جمعية الإصلاح، كان خالي محمد أحمد الباكر يعمل صرافا، وكنت أذهب لأعمل معه في فترة الصيف، وتعلمت منه الكثير، وكنت أملك من عملي في تلك الفترة رأس مال قدره عشرة آلاف روبية، وكان هذا يعد مبلغا كبيرا للغاية في تلك الفترة.
كانت قضية فلسطين في تلك الفترة هي هاجسنا، وشاركت في مظاهرات من أجل قضية فلسطين، كانت أحلامي بسيطة تتأرجح بين العمل في السوق، أو نوخذه في البحر.
أنهيت الرابع ثانوي وذهبت لأعمل مع خالي في السوق، كانت البحرين في ذلك الوقت لا تمتلك مجالات كثيرة للعمل، لو يجد المرء عملا راتبه 200 أو 300 روبية يصبح محظوظا.
سافرت العام 1950 إلى بومباي لأتدرب أكثر على عمل الصرافة، كان البعض يسافر إلى الهند في ذلك الوقت ليتعلم اللغة الإنجليزية، وليعرف كيف يعمل الهنود، ثم سافرت لأعمل صرافا في باكستان، ومكثت هناك نحو أربع سنوات، وعدت إلى البحرين في العام 1954 ووجدت هيئة الاتحاد الوطني في طور التأسيس.
أصبحت عضوا في الهيئة في العام 1956، وكنا نجتمع مع قيادة الهيئة، ونلتف جميعا حول الراديو لنسمع إذاعة صوت العرب، فقد كانت هي من تبث فينا الحماس في ذلك الوقت، وكانت المشكلة الكبيرة التي يعاني منها البحرينيون امتلاكهم لوعي سياسي كبير، وكانت هناك بعض الحركات الأخرى التي سبقت تأسيس الهيئة في البحرين، ففي العام 1938 قام العمال البحرينيون في شركة بابكو بمطالبة الشركة بإنصافهم، وكانت هناك مطالبات أخرى بمجلس تشريعي اقتداء بحركات الوفد وسعد زغلول في مصر، فقد كانت الصحف المصرية تصل إلى البحرين عن طريق بومباي.
سفروني
وفي العام 1956 حلت الهيئة ونفت قيادتها للخارج - عبدالرحمن الباكر، وعبدالعزيز الشملان، وعبدعلي العليوات، وسجن بعض أعضاء الهيئة في البحرين، وفي العام 1958 تم توزيع منشورات تحث على القومية، ولما كان اتجاهنا قومي، اتهموني بكتابة وتوزيع المنشورات، وتم توقيفي عشرة أيام في القلعة، ثم سفرت إلى الكويت لمدة عام.
وقبل سفري كنت قد شاركت أحد أصدقائي في محل رأس ماله 100000 روبية - مناصفة - لبيع الأثاث والسجاد، وتزوجت من نورة فخرو وهي من عائلتي، بعد إعجاب كبير متبادل، واصطحبت زوجتي وابنتي أسماء إلى الكويت، وشاركت كويتي في تجارة، وأنفقت خلال فترة إقامتي هناك 30000 روبية، ولم ترتح زوجتي على الاستمرار في الكويت فعدنا بعد عام إلى البحرين.
وأقدر الجهد الذي قامت به حكومة الكويت تجاه البحرينيين في تلك الفترة، فقد احتضنت قضية قيادة الهيئة المنفيين، وعادوا إلى البحرين بعد أن تم الاستناد على انهم سفروا قبل توقيع المعاهدة بين إنجلترا والبحرين بساعة واحدة.
ولأنني أحد الذي يحلمون بسعادة الوطن والشعب، ظللت ملتصقا بالسياسة وبالقضية الوطنية، ولم أسجن أبدا لأنني كنت حذرا.
وفي العام 1972 انتخبت من قبل أهالي القفول لأصبح أحد أعضاء المجلس التأسيسي لدراسة الدستور لمدة ستة شهور، وأخذت مجموعة دساتير لدول عربية وعملت مقارنة بينها، وقدمت عدة اقتراحات في المجلس منها، إجبارية التجنيد، وعدم فصل الأوقاف الجعفرية عن الأوقاف السنية، وتوحيد المقابر.
وبعد إعداد اللائحة الداخلية للمجلس، واجهتنا مشكلة حرب 1973، وانقسام الناس إلى مؤيد ومعارض وفقا للنتائج التي سببتها الحرب.
ارتفع سعر النفط وحل المجلس في صيف العام 1975».
(الخيبة) العربية
هل لك رسالة محددة أم مجرد حب في السياسة؟
- رسالتي هي الدعوة إلى الأخذ بالعلم الحديث، فالجهاد الحقيقي هو جهاد العلم، ولن ترتقي أية أمة لا تأخذ بأسباب العلم الحديث، وفي رأيي انه يجب علينا أن نأخذ بكل ما في العلم الحديث من إيجابيات وسلبيات، فلا يعقل أن نرفض الفن على اعتبار انه حرام، الفنون هي علامات تدل على ارتقاء الأمم، ونحن لا نتقدم لأننا لا نشجع الفنون.
نحن ننفق ثروات طائلة على شراء أسلحة لا نعرف كيف نستخدمها، ولو ركزنا على الأخذ بالعلم الحديث لاستطعنا استعمار حتى مستعمرينا، ماذا فعلنا نحن ضد الاستعمار الغربي؟ عنف وثورات لم تأت بنتائج إيجابية، في رأيي ان الثورة تعني (الثورات)، ولا تعني التمرد.
المشكلة الكبرى تكمن في استغلال اليهود للخيبة العربية، والنفسية العربية المحطمة التي تريد أن ترجع حقوقها بأي شكل، وجعلونا ننغمس في كل ما يقودنا نحو التأخر، الموساد يشجع الأساليب التي يطرحها بعض شيوخ الدين، والتي تشوه صورة الإسلام الحقيقية.
لعبة الموساد
وفي رأيي ان الدين علاقة بين الرب والعبد، وليس من المعقول أن نزج الدين في السياسة، فكيف يزج الدين في الجهاد في أفغانستان؟
التيارات التي تحتضن الجهل باسم الإسلام هي من تساعد الموساد في تحقيق هدفها في جعل العرب دائما في نهاية الركب، والموساد فيها يهود عرب، وهم يعرفون نفسيتنا، ويعرفون من أين يمكن أن يحاربونا.
ونحن - للأسف - لدينا شيوخ دين يحاولون بث الجهل في نفوس الناس، هل رأيت شيوخ دين يعملون في المخابرات إلا في بلادنا العربية؟ فلابد أن تكون لرجل الدين مواصفات خاصة.
أحد أعضاء المجلس وقف على المنبر في أحد مساجد المنامة وقال، وكان يقصدني:« إن هناك من قال لا تأكلوا اللحوم التي ذبحت ذبحا إسلاميا» وللأسف فقد قال هذا الرجل نصف الكلام، والحقيقة انني قلت ألا نأكل هذه اللحوم إلا بعد أن يكشف عليها طبيب بيطري ويتأكد انها صالحة للأكل، ولا نكتفي أن يقول لنا البلد المصدر إنها ذبحت ذبحا إسلاميا.
أليس من حقنا نحن كمسلمين أن نتأكد من صلاحية اللحوم التي تصدر إلينا؟
نحن عبيد
وما هذه المواصفات؟
- أن يتقن اللغة العربية، وأن يكون مطلعا على الحضارة العربية، وأن يفسر القرآن بهدف الحث على العمل الصالح، وقد قرأت حديثا إن الأزهر أعلن انه لن يقف في طريق نشر أي كتاب يتحدث عن الإسلام ولكنه سيرد عليه، أخيرا يعترفون ان من حق الناس ممارسة حرية العقل، فنحن في بلادنا العربية عبيد لأننا لا نملك حتى حرية التعبير عن آرائنا.
هل يعقل أن تحارب النساء في الجيش البريطاني، وأن تقود المرأة طائرة في الجيش الإسرائيلي، وأن تجلس نساؤنا في البيوت بعيدة كل البعد عن العلم الحديث؟
أليس كل ما يحدث لنا من تأخر يعني ان هناك أيد تسعى إلى ذلك بكل قوة؟
الحاسة السادسة
ويواصل حديثه: «المشكلة الأخرى المهمة تكمن في ان بعض الأغنياء لا يحسون بالفقراء، فمن الناحية الاقتصادية الصديق الفقير يكون عبئا على الغني، والمفروض أن يحاول المرء المقتدر أن يلتصق بأسرته، وبأهل (الفريج).
وهل تطبق حرية الرأي على أولادك؟
- لدي ثلاثة أولاد وابنة واحدة، ودائما أقول لولدي الكبير إذا لم توافق على أي قرار أتخذه، لا تنفذه ولكن برهن لي على خطأ قراري، لا أتدخل أبدا في شئونهم، ولكني أحثهم على تعليم أولادهم، أقول لهم رأيي في تصرفاتهم، ولكنني أتركهم على حريتهم، أعلمهم ان لابد للإنسان أن يقول لا، فإذا لم تكن لهذه الكلمة وجود لابد أن تخلق، فقد خسرنا كثيرا من كلمة نعم.
ماذا ربحت وخسرت من السياسة؟
- أحمد الله على النعمة التي أعيش فيها، ولكن الحقيقة هي انني لو لم أكن وضعت في صفوف المعارضين لكنت امتلكت مالا كثيرا، العمل في السياسة خلق القلق لدى أسرتي، وخلق لدي الحاسة السادسة، أصبحت أتوقع الأشياء قبل حدوثها.
وهنا توقف الحديث مع جاسم مراد، ولا يزال قلبه ينبض بحب الوطن، هذا الحب الذي لا يعرف التوقف.
توقف حديثنا معه، ولم يتوقف حماسه وحلمه في أن تعرف الشعوب العربية كيف تستفيد من العلم الحديث، ربما يستطيع التخلص من كل ألوان العشق، وربما يستطيع التملص من كل دروب الحب، ولكن يبقى عشق الوطن، وحب الحرية لا سبيل للخلاص منهما
العدد 317 - السبت 19 يوليو 2003م الموافق 19 جمادى الأولى 1424هـ