العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ

نحن وثورة يوليو والقراءة المنقوصة للتاريخ

محمود حسن جناحي comments [at] alwasatnews.com

-

في ذكرى ثورة 23 يوليو/تموز تمتلئ صفحات صحفنا المحلية بأحاديث عن هذه الثورة، فيكتب البعض تحليلا عاما عنها، بينما يكتفي البعض الآخر بذكر حوادث معينة يركز عليها، كبناء السد العالي، أو تأميم القناة، أو تجربة الوحدة مع سورية، أو غير ذلك من حوادث ترتبط بالثورة، وبشخص قائدها، وذلك من باب ذكر المنجزات، والتباهي بهذه المفاخر التي هي من منجزات الأمة العربية في العصر الحديث، من وجهة نظر كاتبيها.

ولكن يلاحظ أن هناك إعراضا شبه تام عن الخوض في موضوع نكبة 5 يونيو/حزيران 1967، مع أن هذا الحدث هو أهم حدث يرتبط بثورة 23 يوليو، كما أن هذه النكبة هي أشد ما نزل من بلاء بالأمة العربية و الإسلامية، في القرون الخمسة أو الستة الأخيرة.

إن الغرض من التاريخ هو الاستفادة من حوادثه سواء كانت مفاخر أم مثالب، والتاريخ نور من الماضي ينير لنا الحاضر والمستقبل، فهل ننجح في التعرف على هذا النور إذا قرأنا التاريخ بعين واحدة؟ إن التاريخ له وظيفة حساسة جدا تتلخص في استخلاص الدروس والعبر، من خلال تعميق الوعي بالحدث، وإزاحة الضباب من حوله، وتجلية الحقيقة للعقول والبصائر كما هي، بلا مغالطة ولا تزييف ولا غلوّ ولا تحيز، فهل تتحقق كل هذه الفوائد إذا أقبلنا على التاريخ نقرأ صفحات معينة منه ونمزق صفحات أخرى، أو قمنا بتلميع حوادث معينة ترتبط بالقضية لإضفاء العظمة عليها، مع تجاهل حوادث أخرى أكثر أهمية بكثير!

هل من الجائز أن تمر علينا ذكريات، هي في منتهى الألم والندم والعار من دون أن نتساءل:

ما الذي حدث؟

لماذا انهزمنا؟

لماذا كانت المأساة في هذا الحجم المروّع؟

من هو السبب، وكيف تمت معاقبته، بل هل كان هناك عقاب أصلا؟

إن المحور الأساس بالنسبة إلينا - كأمة مسلمة - هو موقعنا نحن من الإسلام وقت تعاملنا وتفاعلنا مع الحوادث، وموقع الإسلام منّا: من فكرنا وأخلاقياتنا ومناهجنا وعلاقاتنا حكاما وشعوبا. إن السبب الحقيقي لما حلَّ بنا من هزيمة قاسية فاضحة يوم الخامس من يونيو العام 1967 هو التخلي عن النهج الإسلامي الصحيح، بعقائده وعباداته وشرائعه وأنظمته ومفاهيمه وأخلاقه ومشاعره. إن غياب هذا النهج القويم هو السبب في تحول ذلك الحشد الهائل من القوات المسلحة إلى مجرد أصفار على الشمال، وإلى تحول ذاك الكم الهائل من الأسلحة إلى مجرد قطع من الخردة. إن تغييب الإسلام عن ساحة المعركة، في وقت كانت التوراة والتلمود تقودان العدو في معركته معنا، هو السبب في حال الوهن الذي وصلنا إليه. وهذا هو ما حذرنا منه رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت».

إن الزعم بوجود ميول إسلامية لقادة الثورة لن يحجب عنا حقيقة وجود منهج مقصود في تحجيم دور الإسلام وحجبه عن عقول وعواطف وضمائر الشعب... والحديث عن الاهتمام ببعض المظاهر الإسلامية «الرسمية» لا يكفي لإظهار تبني الإسلام منهج حياة، فما من قائد أو زعيم أو جبار أو طاغية ابتلينا به في تاريخنا المعاصر، إلا وكان يظهر اهتمامه ببعض المظاهر الإسلامية، ويحرص على الظهور على صفحات الصحف وهو ساجد أو راكع! أو في لباس الحج والعمرة!

ولكن الحكم في ذلك هو السياسة العامة التي كان نظام الثورة الحاكم يتبعه في الميدان العقائدي والأخلاقي والاجتماعي. يتجلى ذلك على سبيل المثال في الوضع الشائن الذي كانت تظهر فيه الأفلام المصرية طوال عهد الزعيم القائد، لتخدش كل ما له علاقة بالحياء والإيمان! ولتقضي على البقية الباقية من شعائر الدين وفضائل الأخلاق، ويتجلى في تمكين القوى العلمانية، وخصوصا الشيوعية منها (بعد رضاء الزعيم عنها) من السيطرة على وسائل الإعلام. هل تذكرون يوم أساء ذلك السفيه الشيوعي إلى مقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فرسم رسما كاريكاتوريا لديك وتسع دجاجات، وكتب تحت الرسم عبارة «محمد أفندي ودجاجاته التسع»!!

إن وظيفة الثورة أن تتصدى للتغيير والتحرير، تغيير المجتمع نحو الأفضل والأكمل، ليكون بالتالي مؤهلا للقيام بتحرير الأرض والمقدسات، فهل نجحت الثورة في إحداث هذا التغيير؟

إن السلاح الرئيس في عملية تغيير بهذا الحجم هو القيام بالتعبئة الإيمانية والأخلاقية للأمة، حتى تكون على مستوى الهدف، ومستوى المعركة ولكن... أنّى لنا ذلك وقادة الجيش والشعب يقضون الليالي في احتفالات حمراء يصدح فيها محرم فؤاد ووردة الجزائرية!! أنّى يأتي النصر وقد وضع على رأس الشعب ليكون قدوة (بالعافية!) أمثال عبد الحكيم عامر وجمال سالم وصلاح سالم وشمس بدران وصلاح نصر؟

عندما زار الشيخ يوسف القرضاوي تركيا في العام 1967، بعد النكبة بقليل، رأى الشباب المسلم هناك في استياء شديد، ويتساءل: كيف ينهزم الإسلام أمام اليهودية؟ فأجابهم: «إن الإسلام لم ينهزم وما انهزم قط، والإسلام لم يدخل هذه المعركة أبدا، إنما الذي يحمل عارها هو الثورية العربية التي جرّت العرب جميعا إلى هذه الحرب، ظانّة أنها لن تتعدى الصياح والتهديد وعرض العضلات». والشيخ محق في إجابته، فلا القرآن ولا السنّة كانا طرفا في الصراع، بل كانا فقط للاستشهاد ببعض نصوصهما في افتتاح الحفلات والمراسيم، إنما الذي دخل المعركة الميثاق الاشتراكي، والأقوال الدعائية لقادة الثورة، وعضلات أبطال الغناء والموسيقى!!

ثم إن هناك مسألة محورية أخرى، وهي الدور السيئ للإعلام: إعلام الثورة، الذي كان من المفترض أن يهيئ الشعب لمعركة المصير. استطاع هذا الإعلام أن يقلب الحقائق، وأن (يسوّد) الأبيض و(يبيّض) الأسود، وأن (يقزّم) العملاق و(يعملق) القزم! وأن يقوم بكل شيء إلاّ خدمة المعركة. فقد كانت الوظيفة الوحيدة لإعلام الثورة هي تلميع القادة والقيادة، ونشر وتوصيل (قذائف!) التصريحات والشعارات إلى مختلف أرجاء المعمورة وبأسرع ما يمكن. وظل هذا الإعلام الناصري يقوم بالخديعة الكبرى حتى آخر رمق! أتذكرون يوم كانت (العقل - جمع عقال) و(الغتر) تتطاير في الهواء أمام المذياع ابتهاجا بالنصر الوشيك! المعركة انتهت في الساعات الأولى بتحطيم الطيران المصري، والإذاعة تبشرنا بقرب دخول تل أبيب!!

أهكذا يعامل شرفاء الأمة من قبل الإعلام الثوري... أهذه قيمة الإنسان العربي عند زعماء الثورة؟

ثم يقال ان الثورة حفظت كرامة العربي ورفعت رأسه! كم كانت درجة مقياس الكرامة العربية يوم 11 يونيو 1967؟ وقيل لنا «ارفع رأسك يا أخي»... أرفع رأسي لأتباهى بماذا؟

يا اخوة: إذا أردنا أن نتعلم من الماضي فلنبحث عن النجاحات لنتعلم كيفية تكرارها، ولنبحث كذلك عن الإخفاقات لنتعلم كيفية اجتنابها.

ألم يكن من المفترض أن استعداداتنا كاملة لخوض المعركة، وأن جميع التدابير الدفاعية والهجومية قد اتخذت، وأصبحت قابلة للتنفيذ في أية لحظة؟ ألم تكن كل الشعارات المطروحة، وكل التصريحات المعلنة تدل على هذا الاستعداد: «إذا أميركا مش عاجبها تشرب من ماء البحر المتوسط، وإذا ما يكفيها تشرب من ماء البحر الأحمر»!

«سنؤدب إسرائيل، ومن يقف وراء إسرائيل»!

«سندمر الأسطول السادس بطائراتنا من طراز تي يو 16»!

أهكذا أرادت الثورة أن تحارب: بتهديدات أرض - جو... وتصريحات أرض - أرض!

والمصيبة الأكبر أن الأخطاء التي ارتكبت في حرب 1956 لم تحل دون تكرارها بعد 11 سنة من عمر الثورة المديد! فبعيد هذا العدوان، وكل المؤشرات تدل على قرب وقوع عدوان بريطاني فرنسي، متحالف مع «إسرائيل»، قام العدو اليهودي في 29 أكتوبر/تشرين الاول 1956 بتحريك لواء ميكانيكي مدرع في اتجاه منطقة (الكونتيلا) في سيناء، وبإسقاط كتيبة مظلات في منطقة سدر الحيطان في ممر (متلا)... كل هذا على أرض مصر، وفي عمق سيناء!؟ أين القوات المسلحة التي تحرس الحدود؟ ولم تدر القيادة بالخبر إلا من وكالة أنباء (يونايتد برس)! أين سلاح الاتصال، وأين المباحث العامة؟ وهل يسأل عن المباحث العامة أين هي! إنها مشغولة بزج المجاهدين الشرفاء في السجون، أولئك الذين جاهدوا حق الجهاد على أرض فلسطين ضد اليهود العام 1948 وعلى أرض مصر ضد الإنجليز العام 1951!

هل اتعظ رجال الثورة... بعد 11 سنة؟ أنزلت «إسرائيل» قوة مظليين في إحدى الجزر المصرية في البحر الأحمر، وفكت هذه القوة الصغيرة محطة رادار حديثة وحملوها وانصرفوا إلى «إسرائيل» وأذاعوا النبأ من إذاعتهم، فعرف القادة الأشاوس بالخبر من إذاعة العدو!

يا اخوة... هذه السطور ليست للشماتة، فالشماتة عيب في تقاليدنا، ولا تجوز في شرعنا، ولكنها للعبرة، ويا ليتنا نعتبر، إذ ستظل نكبة 1967 عبرة لكل ذي عقل وبصيرة، وتدعونا إلى أن نعي ونعقل ونتدبر أن:

المعركة من دون الإسلام محسومة نتيجتها سلفا...

وأن الاستعداد للمعركة يكون بما استطعنا من قوة وجهاد، لا بالشعارات البراقة والتصريحات النارية...

وأن النصر يتنزل على من اتكل على الله، لا على الاتحاد السوفياتي...

وأن لا معركة من دون مشاركة الشعب...

وأن لا شعب إلا بمنهج تربوي قويم، وليس بإعلام ضال مضل.

سمعنا في السبعينات عن ذلك المسئول الأوروبي الكبير الذي قدم استقالته عندما علم أن سكرتيرته الخاصة والأمينة على أسراره (أسرار بلده) تعمل جاسوسة للمعسكر الشرقي... وجد نفسه لا يستحق الزعامة لتقصيره في أداء واجباته فتنحى!

أما نحن... فقد ضاعت منا بقية فلسطين، فقدنا القدس والضفة والقطاع والجولان وسيناء، ولم نجد من يستحي أو يخجل أو يشعر بالذنب فيقدم استقالته (استقالة حقيقية جادة)!

أما مصر العظمى، التي انطلق منها عقبة بن نافع لفتح شمال افريقيا، وانطلق منها صلاح الدين الأيوبي لهزيمة الصليبيين وتحرير بيت المقدس، والتي خرج منها سيف الدين قطز لكسر جحافل المغول والدفاع عن الدين والأرض والشرف، مصر هذه لابد أن تنعم بإذن الله عز وجل بالقيادة العظيمة التي تستحق، لتكون سندا للعرب حقا، ومظلة للعالم الإسلامي صدقا، فالتاريخ كثيرا ما يعيد نفسه:

اقرؤوا التـاريخ إذ فيـه العبـر

ضـل قـوم ليـس يدرون الخـبر

العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً