العدد 374 - الأحد 14 سبتمبر 2003م الموافق 18 رجب 1424هـ

الرئيس والمختلفون معه... من دعوة شارون إلى ترقب الحرب

القاهرة 3002/5002 (الحلقة الثالثة)

مصطفى الحسيني comments [at] alwasatnews.com

لم يكن مطلع العام 3002 في القاهرة يبشر بحسن الطالع، لا لغالبية سكانها ولا للحكومة. كانت المدينة محتشدة بتوتر يرجح من لامسوه أن مصدره إحساس سكانها بالعجز عن أن يحولوا إلى أفعال تضامنهم مع الانتفاضة الفلسطينية الناشبة منذ أكثر من سنتين. لم يكونوا، حتى، يستطيعون التعبير الجماعي عن مشاعرهم، فقوانين الطوارئ المفروضة على البلاد منذ أكثر من عشرين سنة تقف لهم بالمرصاد.

قرب نهاية الشهر الأول من العام الجديد، كسب رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون الانتخابات مرة أخرى، عرف الناس أنه لا أمل قريبا في انفراج الحال في فلسطين. لكن الإعلام الرسمي أبلغهم أن رئيسهم أرسل إلى شارون برقية يهنئه فيها بالفوز. تحدثت تصريحات حكومية ومقالات لبعض كتّاب الحكومة عن «احترام اختيار الناخب الإسرائيلي». ذكّرهم هذا بحالهم مع حكومتهم التي تتجنب التعرف على اختيارهم وأنعش مقارنة مع عدم احترام «إسرائيل» اختيار الناخب الفلسطيني، بل عدم احترام حياته. الحصيلة: طبقة أخرى من الغضب المكتوم ومن الإحباط.

القاهرة - مصطفى الحسيني

فاجأهم الإعلام الرسمي - الذي يعرفون في أي الأحوال يصدقونه وفي أيها لا يولونه آذانهم - بأن الرئيس وجه إلى شارون دعوة إلى زيارة مصر لإجراء محادثات بشأن «عملية السلام». لم يلحظ أحد أي رد فعل مشهود من الشارع. لكن الحكومة لم تلبث أن بدأت تراجعا غير منظم عن تلك الدعوة التي وصفها الأمين العام للجامعة العربية - الذي لا يخرج عادة عن الخط العام للسياسة المصرية التي كان رئيس دبلوماسيتها حتى وقت قريب - أن «توقيتها غير مناسب». يبدو أن آذان الحكومة التقطت جمجمة لم ينقلها الإعلام.

كان منتجع شرم الشيخ في شبه جزيرة سيناء قد تحول إلى عاصمة غير رسمية للبلاد، كثيرا ما تستخدمها الدولة لاستضافة الحوادث والزوار عندما لا تريد للضيوف أن يكونوا قريبين من رد فعل الرأي العام، ليس لأنها تريد الإخفاء الذي لم يعد ممكنا، ولا أنها تراعي مشاعر الناس تجاه «ضيوف غير مرغوب فيهم»، بل مدار حرصها ألا يؤذي رد الفعل المحتمل، الذي لا تستطيع التنبؤ به، أنظار ضيوفها ولا أسماعهم.

انتهى التراجع غير المنظم باستبدال دعوة شارون إلى قمة تعقد في منتجع شرم الشيخ بشبه جزيرة سيناء وتضم الأطراف المعنية مباشرة بالمسار الفلسطيني من «عملية السلام». تدخلت واشنطن بتحويل القمة إلى قمتين: واحدة تعقد في شرم الشيخ لا يحضرها شارون. والأخرى تعقد في العقبة بالأردن بمشاركته.

فهم الناس أن واشنطن تدخلت لمعالجة رد فعل شارون على تراجع الحكومة المصرية عن دعوته منفردا. بلغهم أن الصحافة الإسرائيلية قالت إن شارون «لا يريد دورا مصريا في عملية السلام».

أسئلة الترقب

بدأ العام الجديد - 3002 - أيضا والناس في القاهرة في حال من الترقب. لكنهم لا يعرفون بالضبط ماذا يترقبون. هل يترقبون الإشارة الأميركية ببدء الحرب على العراق؟ هل يترقبون تراجع احتمال الحرب، بل انحساره؟ هل يترقبون - إن نشبت الحرب - انتصارا يحرزه الحكم القائم في بغداد؟ هل يخشون هزيمته؟ ماذا يعني لهم نصر من هذا النوع - إن تحقق؟ لماذا يخشون هزيمة من هذا القبيل؟ هل يقوي نصر يحرزه نظام صدام حسين مركز نظام الحكم عندهم - هل يقويه عليهم؟ والهزيمة، ألا تلحق بهم أيضا وتنسحب آثارها عليهم؟

هل ينتظرون زوال وهم آخر مثلما زال وهم الرخاء الذي يأتي به السلام مع «إسرائيل» و«الانتفاح الاقتصادي»؟ أي وهم هو؟ هل هو وهم إمكان وجود قوة عربية قادرة على تحدي المعطيات والمسلمات والدفاع عن نفسها وأن تكسب؟ إذن، هل هو أمل؟ أم أنه تطلع إلى سراب؟

مثلما كان حال زوال أوهام الرخاء، الأسئلة كلها صائبة والإجابات عنها - على تعددها وتنوعها وتعارضها - كلها أيضا صحيحة.

ما ينتج عن ذلك هو انتشار النقاش الذي يتخذ طابع الجدل الذي غالبا ما تمزقه الحدّة والذي لا يفوت من يتابعه، إذ استطاع عدم الانغماس فيه، أن يلاحظ أنه يفتقر إلى وجهة وبالتالي يتميز بانزلاق كل مشارك فيه إلى التناقض مع نفسه، تعارض الفكرة فكرة أخرى طرحها الشخص نفسه وتنفي الجملة تلك التي سبقتها.

النقاش والجدل بشأن احتمال الحرب على العراق لا يصدران عن اهتمام سياسي فحسب، ثمة بعد خاص مصدره كون أعداد كبيرة من المصريين عملوا في العراق منذ منتصف سبعينات القرن الماضي. ذكريات التجربة مختلطة، كثيرا ما تؤدي إلى مشاعر أو عواطف مختلفة أو مرتبكة.

بعض الذين عملوا في العراق مازال يعيش على استثمار ما ادخره من عمله هناك، أو يسكن المسكن الذي اشتراه من تلك المدخرات ولم يكن ليتاح له أن يشتريه من دونها. بعضهم يستعيد ما قيل له أثناء وجوده هناك عن المكتب الخاص الذي أنشأه صدام حسين لمعالجة مشكلات المصريين هناك، حرصا عليهم ورعاية لهم. بعضهم أيضا يستعيد ما جرّبه أو سمع به عن سَوْق المصريين في العراق إلى الجبهة أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، بعد أن أصدرت الدولة العراقية قانونا منح الجنسية العراقية للعرب المقيمين في البلاد، أو فرضها عليهم ليجعل منهم وقودا في تلك الحرب - سخرة عسكرية - في حرب لا يعرفون لها سببا ولا موضوعا ولا يستطيعون أن يروا أنفسهم طرفا فيها. كثيرون من الذين لم يعملوا في العراق، بل لم يزوروه، يتحدثون عما تداولته الأنباء غير الرسمية في مصر عن التوابيت التي كانت تحملها الطائرات من بغداد إلى القاهرة أثناء تلك الحرب وفي أعقابها. أنباء غير رسمية لم تعرف طريقها إلى التدقيق المؤدي إلى النفي أو التأكيد، بينما لم يصدر بشأنها عن السلطات المصرية شيء - كأن الأمر لا يعنيها.

الاكتئاب يتحول إلى تحفز؟

لم يكن أي من هذه الأمور بأوجهها المتعددة كافيا لحسم مواقف الأفراد من احتمال الحرب واحتمالات نتائجها. كان ثمة عنصر غير متوقع يحول بين الذكريات والانطباعات والمشاعر والعواطف وبين تحولها إلى مقدمات تنبني عليها نتائج لازمة: كانت الولايات المتحدة الأميركية طرفا في كل شيء. هل يؤدي دورها إلى أن يغفر لصدام حسين ونظام حكمه كل مساوئه وجرائمه؟ هل يعزز وجودها في قلب المشكلة ودورها باعتبارها محركا أساسيا لها لعب دور المضاعف لرصيد صدام حسين في نظر من لا يرون مساوئه؟

كانت هناك أيضا «إسرائيل». ألم تكن «أسلحة الدمار الشامل» التي تتخذ ذريعة لشن الحرب بيد «إسرائيل» أيضا؟ وفي رؤية أوساط غير ضيقة: ألم يكن هدف صدام حسين من السعي إلى امتلاك تلك الأسلحة هو «إسرائيل»، أو على الأقل تحقيق قدر من التوازن معها؟

بعض الناس تصدر آراؤهم في الموضوع الدائر عن منطلقات غير متوقعة من أمثالهم، هؤلاء «غير مشتغلين» بالسياسة ولا بالشئون العامة، و«غير متعلمين». لا تدري من أين استخرجوا تلك المقارنة بين «العدوان الثلاثي» على مصر في 5691 وبين ما يحيق بالعراق الآن. بعض هؤلاء، إن اتخذ الحديث منحى آخر، سيشخصون عهد عبدالناصر بأنه عصر الضيق والفقر، وعصر السادات بأنه عصر البراح والرخاء. ويصعب أن تعرف كيف مدّوا خيطا يربط بين الذي يوشك أن يحدث في العراق وبين سخطهم على الأوضاع في مصر وبين نظام حكمهم الذي لا يرضون عنه وينعون عليه سياساته وتدور بينهم مدار مُعتاد الحديث قصص فساد رجاله. ذلك الربط لا يؤدي إلى النتيجة نفسها في كل الأحوال. تسمع من يرى فيما يتوقع أن يحيق بالعراق نموذجا ومثالا لما تجلبه «هذه النظم على شعوبها». وتسمع من يعتبر ذلك جزاء وفاقا تستحقه. وتسمع من ينعى على النظام ما يتوقعه من عجزه عن تضامن واجب مع العراق بغض النظر عن الموقف من النظام الحاكم فيه، فما سيتحدث سيصيب العراق نفسه - البلد والناس - وبغض النظر عن الحكام.

الاكتئاب العام يتحول إلى تحفز ينتظر انجلاء وجهة الحدث الذي يتكون ويتشكل. لكن التحفز لن يلبث أن ينجلي عن غضب عاجز أو كظيم.

الرئيس والمختلفون معه

قبيل بدء الهجوم الأميركي على العراق بأقل من ساعات يوم واحد، أذاع الرئيس المصري حسني مبارك بيانا خلاصته تحميل الرئيس العراقي مسئولية تدهور الموقف إلى الحرب. لم يكن في البيان جديد لا من حيث مضمونه ولا من حيث المعتاد من تناول الرئيس لمثل تلك الأمور. مع ذلك استفز البيان مشاعر غير قليل من الناس. هل كان التوقيت هو المستفز؟ هل أن القصد من البيان الذي صدر قبل ساعات من الطلقة الأولى التي كانت دخلت دائرة التوقع، تقديم تغطية سياسية للحرب التي توشك أن تندلع؟

في اليوم التالي وقّع 82 مثقفا من اتجاهات فكرية وسياسية متنوعة بيانا يعلن اختلاف الموقعين مع بيان الرئيس، لكن البيان لم ينشر إلا بعد توقيعه بأيام انتظر أثناءها صدور الصحيفة الوحيدة التي نشرته «العربي» الأسبوعية الناطقة باسم الحزب الناصري. على رغم ما تميزت به لغة البيان ولهجته من هدوء ووقوفها عند مجرد إعلان الاختلاف مع بيان الرئيس، كان له وقع المفاجأة على من قرأوه أو سمعوا به، مفاجأة تمتزج بالإعجاب بجرأة من أصدروه وشجاعتهم. كان انتقاد تصريحات الرئيس قد اختفى من العادة السياسية في البلاد.

... ونادي القضاة

صدر البيان التالي بعد أربعة أيام من «بيان المثقفين» ومن جهة غير متوقعة، نادي القضاة الذي لم يصدر عنه بيان سياسي منذ العام 8691.

في ذلك الحين أصدر النادي بيانا يعترض على المحاكم الاستثنائية وعلى تدخل السلطة التنفيذية في شئون السلطة القضائية - التدخل الذي يشرّعه نص القانون «المجلس الأعلى للقضاء» على أن يكون تحت رئاسة رئيس الجمهورية. وردت السلطة التنفيذية على ذلك البيان بما عرف فيما بعد بوصف «مذبحة القضاء» إذ فقد الكثيرون من القضاة وظائفهم أو نقلوا إلى وظائف خارج سلك القضاء. احتوى البيان الجديد على عناصر غير مطروقة فيما ألفته البلاد في بيانات الاعتراض السياسي، فأشار في ديباجته إلى «رغبة المعتدين الصريحة في إعادة تشكيل المنطقة تحقيقا للهيمنة الإسرائيلية وحماية المصالح الأميركية بزعم نشر الديمقراطية والحرية وتخليص الأمة من حكام مستبدين، يستمرون في كراسيهم مدى حياتهم ثم يورثونها...». ثم يستطرد إلى عرض ما انتهت إليه مداولات «قضاة مصر»، فورد تحت بند أولا، «... إن تعطيل الديمقراطية الحقيقية خطأ جسيم يكاد يرقى إلى مرتبة قتل الأمة عمدا وتمكين عدوها منها». وورد في البند الخامس والأخير «إن قضاة مصر يناشدون الرئيس مبارك أن يرد على طغاة العصر الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقيموا في العراق نموذجا للحكومة الديمقراطية تحتذي به حكومات العالم العربي، فليبادر سيادته بجعل مصر النموذج الذي يحتذي به العالم العربي فتلك هي مكانتها وهذا هو دورها».

الاعتراض على الحرب ضد العراق يستطرد إلى التعرض للأوضاع الداخلية أو يرتد إليها.

العدد 374 - الأحد 14 سبتمبر 2003م الموافق 18 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً