العدد 349 - الأربعاء 20 أغسطس 2003م الموافق 21 جمادى الآخرة 1424هـ

دائرة الدم... من فلسطين إلى العراق!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تعقدت الأمور خلال الأيام القليلة الماضية في فلسطين والعراق، بدرجة أكبر مما يظن حتى الممسكون بزمام الموقف هناك، المحركون لدائرة الدم المراق... الدم العربي!

ومن الواضح ان التدهور الأكبر مقبل، ما يعني أن دائرة الدم ستتسع وتنتشر أكثر مما هي عليه الآن، لاسباب واضحة، أهمها أن الأميركيين بكل قواتهم العسكرية الاحتلالية لم يستطيعوا إحكام قبضتهم الحديد على العراق، والدليل هو تصاعد عمليات المقاومة العراقية المسلحة، بدرجة أقلقت القيادة الأميركية، السياسية والعسكرية على السواء، وخصوصا على تساقط قتلى من الجنود الأميركيين يوميا.

وكذلك هو حال الإسرائيليين الذين تقودهم أشد حكوماتهم تطرفا واندفاعا غبيا في استخدام الترسانة العسكرية، ضد شعب يقاوم ببسالة، دفاعا عن وطنه وشرفه وحقه في الحياة... وعلى رغم الهدنة الفلسطينية المعلنة، لم تتوقف دائرة الدم التي تقودها الدبابات الاسرائيلية؛ فالقتلى يتساقطون يوميا أيضا.

ولا ندري على وجه الدقة من استنجد بمن؟ هل استنجد الأميركيون الموجودون في العراق بحلفائهم الإسرائيليين للاستفادة من خبرتهم في مواجهة الشارع الثائر المتمرد؟ أم استنجد الإسرائيليون بحلفائهم الأميركيين لمدهم بمزيد من الدعم والمساندة لكبت الشارع الثائر المتمرد؟

الحقيقة الظاهرة للجميع، أن الطرفين تبادلا الخبرات «القتالية» مثلما تبادلا المعلومات والمساعدات على كل المستويات، بعدما نجح الصقور الإسرائيليون في إقناع الصقور الأميركيين بأنهم يحاربون في معركة واحدة، في ميادين قتال متقاربة، هي المعركة ضد «الارهاب العربي الاسلامي» الأمر الذي يستدعي تدعيما قويا «التحالف الاستراتيجي» بين «إسرائيل» وأميركا.

عاد رئيس وزراء «إسرائيل» ارييل شارون الملوث كل تاريخه بالدم من واشنطن حاملا أقصى ما كان يسعى إليه، من دعم مباشر من الرئيس بوش وصقور إدارته اليمينية، فإذا به بدلا من أن يلتزم بتنفيذ الخطة الأميركية التي يتبناها بوش شخصيا «خريطة الطريق» فإنه أعلن تجميدها، بحجة أن الفلسطينيين لم يؤدوا ما عليهم من واجبات!

ولقد فهم البعض من أصحاب النوايا الطيبة عندنا، أن قرار شارون بتجميد «خريطة الطريق» يعني تحديه لإدارة الرئيس بوش وعرقلة رغبته في انجاز تسوية سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يدخل بورقتها المهمة انتخابات تجديد رئاسة العام المقبل.

لكننا فهمنا الأمر على حقيقته، أي أن بوش أطلق يد شارون في العملية كلها، وأعطاه الضوء الأخضر والأبيض لتنفيذ ما يراه صالحا لـ «إسرائيل» وضامنا لأمنها وتعهد له بالمساعدة اللازمة في كل وقت، والسبب هو أيضا الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي يسعى بوش الابن إلى الفوز بها والتي يحتاج فيها إلى دعم «إسرائيل» واللوبي الصهيوني الأميركي، بعد أن صوت اليهود ضده في انتخاباته الأولى العام 2000.

وتفاديا لمصير أبيه، بوش الأب لم يعد الرئيس بوش الابن، مستندا إلى معاداة الصوت الانتخابي اليهودي، ولا راغبا في معاداة منظمات اللوبي الصهيوني ذات التأثير الحركي والمالي المعروف، في أية انتخابات أميركية محلية كانت أم برلمانية أم رئاسية؛ ولذلك قلنا من قبل ونكرر الآن وغدا أن الإدارة الأميركية الحالية وقد دخلت عام تجديد الانتخابات المقررة في 2004 لن تضغط على «إسرائيل» ولن تجبرها على تنفيذ «خريطة الطريق» على رغم أن شارون طلب إدخال عشرات التعديلات عليها، ولن تسعى إلى إيقاف بناء السور الاسرائيلي العازل (سور العنصرية) ولن تطالبها بإيقاف بناء المستعمرات «المستوطنات» الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي المستعمرات التي تحصل على معظم تمويلها من داخل أميركا نفسها.

إن أقصى ما يتمناه بوش من شارون من الآن حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، ألا يتسبب في زلزال سياسي عسكري في المنطقة، كأن يغزو دولة عربية مجاورة مثلا، أو أن يقصف المفاعل النووي الايراني أو أن يطرد مليون فلسطيني من أرضهم إلى الأردن أو إلى مصر ولبنان وسورية... إلخ.

ومقابل ألا يفعل ذلك، فإنه مطلق السراح في المضي قدما نحو تدمير كل ما تبقى من مقومات الشعب الفلسطيني، السياسية والاقتصادية والأمنية، وفي مصادرة أراضيهم وفي هدم منازلهم وفي قتل أبنائهم وتخريب حياتهم، بحجة القضاء على منظمات الإرهاب بعد أن فشل في إقناع الحكومة الفلسطينية بأن تقوم بذلك.

ومنذ قمة العقبة الشهيرة التي جمعت بوش وشارون وأبومازن، والطرفان الأميركي والإسرائيلي يراهنان على إشعال الحرب الأهلية بين الحكومة والسلطة الفلسطينية من ناحية، ومنظمات المقاومة الفلسطينية، وخصوصا حماس والجهاد من ناحية أخرى ويراهنان على أن تصفية الفلسطينيين بعضهم بعضا، أسهل وأرخص وأضمن من قيام «إسرائيل» المدعومة أميركيا بذلك.

أما وإن الحرب الأهلية الفلسطينية لم تقع لوعي أطراف المعادلة الفلسطينية بالمخاطر المحدقة والنيات المبيتة فإن شارون قرر الاستفادة من ظروف الانتخابات الأميركية لإتمام المهمة التي بدأها، مهمة تحريك دائرة الدم الفلسطيني تحت جنازير الدبابات الاسرائيلية، حتى وهو يدعي أنه متمسك بخيار السلام والتسوية السياسية، يقولها علنا، ويفعل ضدها علنا أيضا.

هكذا يحقق هدفه وفي الوقت نفسه لا يغضب أصدقاءه الأميركيين، أو يتسبب في أي حرج سياسي لحليفه الرئيس بوش... وكلما اقترب وعد الانتخابات الأميركية كلما زادت دائرة الدم عنفا وضراوة وخصوصا أن الصمت العربي مريح، ليس فقط لأنه صمت عاجز ومسالم ولكنه إن سعى وتحرك فهو يسعى إلى استرضاء أميركا وإراحة «إسرائيل» على حساب الدم الفلسطيني المراق يوميا.

وكما تفعل «إسرائيل» في فلسطين تفعل أميركا في العراق، إذ تمارس قوات الاحتلال الانجلو ـ أميركي كل أساليب الغازي المحتل، قتلا وتدميرا وتفتيشا ومواجهة، بالاسلوب الإسرائيلي نفسه، بحثا عن رجال المقاومة العراقية الذين يستنزفون الجنود المحتلين... يهاجمون ثم يختفون كالأشباح.

وبصرف النظر عن هوية هذه المقاومة هل هي تابعة لصدام حسين، أو غير تابعة؟ هل هي إسلامية أم علمانية؟ هل هي منظمة تحت قيادة موحدة أم هي فصائل مستقلة مختلفة؟ فإن العبرة حقا بما تفعله وما تقوم به، وتأثير ذلك على مستقبل التطورات السياسية في العراق الجديد، والعبرة بالرسالة التي تحملها، وهي أن ثمة احتلالا أجنبيا للعراق، تقابله مقاومة عراقية تماما كالوضع في فلسطين، حيث الاحتلال الإسرائيلي يدفع المقاومة للعمل والكفاح ضده، على رغم كل حماقات الدم ودائرته المتسعة هنا وهنا.

المؤكد ايضا أن ورطة أميركا في العراق، وعدم قدرة جيوشها الجرارة، مع الجيوش البريطانية على إحكام القبضة على العراق، وعلى توفير الأمن والغذاء وفرص العمل للعراقيين، فضلا عن فشلها في القضاء على شخص الرئيس المخلوع صدام حسين، وعلى أعوانه، وكذلك فشلها في الحصول على أسلحة دمار شامل هناك، ناهيك عن استمرار المقاومة العراقية في استنزاف أرواح الجنود الأميركيين... كل ذلك لن يكون في صالح الرئيس بوش حين يطلب تصويت الناخبين الأميركيين لصالحه في الانتخابات المقبلة، بل هو ضده على طول الخط.

واتقاء للآثار العكسية بدأت الإدارة الأميركية في تغيير بعض ملامح سياستها في العراق، وذلك عبر طريقين صارا الآن أكثر وضوحا وعلانية.

الأول هو إطلاق يد جيش الاحتلال في استخدام أكبر قوة من النيران والعنف أملا في سرعة القضاء على المقاومة العراقية، وإيقاف نزيف الدم الأميركي قبل أن يتصاعد عدد الضحايا العائدين في أكفان إلى أسرهم، ما يؤثر حتما على تصويت هذه الأسر وغيرها لصالح بوش. الطريق الثاني هو محاولة «تدويل» الوضع العراقي الحالي، وقد نجحت أميركا خلال الأيام الماضية في استصدار قرار جديد من مجلس الأمن، يضفي بعض (وليس كل) الشرعية على سياستها في العراق، وخصوصا على مجلس الحكم المؤقت الذي عينته هي في غيبة عن الجميع.

ولم يكن هدف أميركا هو مجرد إكساب هذا المجلس الشرعية الدولية بقدر ما إن هدفها الحقيقي هو استدراج دول أخرى إلى مشاركتها في تحمل عبء «المستنقع العراقي» وخصوصا ارسال قوات حفظ سلام، تحت غطاء دولي، تواجه هذه المقاومة العراقية المتصاعدة فتوفر بالتالي أرواح الجنود الأميركيين وتحفظ للرئيس بوش ماء وجهه في مواجهة الناخبين الأميركيين المتحفزين لحسابه!

وقد تنجح الجهود الأميركية في إدارة عجلة الدم ودائرته الجهنمية في العراق، بشراسة ما تفعله «إسرائيل» نفسها في فلسطين، وقد تنجح أيضا في خداع العالم واستقطاب دول كثيرة إلى جانبها بحجة إعادة بناء العراق الجديد وتعميره وضمان الأمن والاستقرار فيه، بالأسلوب الاسرائيلي نفسه في خداع العالم بحجة تدمير البنية الفلسطينية للإرهاب.

لكن المؤكد أن أميركا، القوة الأعظم في العالم، صاحبة أقوى ترسانة عسكرية عرفها التاريخ، لم ولن تنجح في إخضاع الشعب العراقي، وفرض الاحتلال وقوانينه وضغوطه عليه، وها هي بعد أربعة أشهر من إعلان الرئيس بوش انتهاء الحرب «العمليات العسكرية الرئيسية» في العراق في مايو/ أيار الماضي، تكتشف أن قواتها تخوض حرب أشباح يسقط فيها قتلى أميركيون ربما أكثر من الذين سقطوا خلال الغزو.

وقد تكون هذه هي المرة الفريدة التي لم تستفد منها أميركا من تجربة حليفتها «إسرائيل» فبعد أكثر من خمسين عاما على احتلال فلسطين بقوة إسرائيلية غربية هائلة، بما فيها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، لم تستطع «إسرائيل» أن تفرض الاحتلال وقوانيه وشروطه على الشعب الفلسطيني الأعزل، على رغم سرعة دوران دائرة الدم الجهنمية.

فثمة احتلال أجنبي غاصب هنا وهناك، وبالتالي ثمة مقاومة وطنية، تنبع من شعور وطني داخلي يضحي بالروح دفاعا عن شرف الوطن وعن معنى الكراهة، ولن يجدي نفعا أن تتحالف أميركا و«إسرائيل» على محاربة هذه المقاومة وتتهمانها بالتهمة الجاهزة المعلبة تهمة الإرهاب التي يرددها بعض العرب بكثير من التشفي الأحمق في خلط متعمد ومشوه بين الارهاب الإجرامي وبين الكفاح المسلح لتحرير الاوطان!

وهي تهمة لا تعيب المقاومة في ميزان التاريخ فكل حركات التحرير حتى حركة التحرير الأميركية التي قادت حرب الاستقلال ضد بريطانيا اتهمتها بريطانيا بالإرهاب!

إنه درس التاريخ الذي يعيد نفسه من دون ملل، لكن البعض لا يقرأ، بل لا يحب أن يقرأ التاريخ.

خير الكلام: تقول الشاعرة العراقية نازك الملائكة

كيف تذوي القلوبُ وهي ضياءٌ

ويعيش الظلامُ وهو ظلامُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 349 - الأربعاء 20 أغسطس 2003م الموافق 21 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً