اشتهرت البحرين بأسواقها الشعبية منذ القدم، وكانت هذه الأسواق محطات تجمع ومراكز نشطة لبيع مختلف البضائع والسلع سواء المصنعة محليا أو المجلوبة من الهند وإيران وغيرهما من الدول، ولكل سوق منها طابعه الخاص الذي يميزه عن باقي الأسواق، ثم ان هذه الأسواق كانت تأخذ أسماء مختلفة أو تكون ذات أسماء يومية كيوم الجمعة والاثنين والأربعاء والخميس، كما هي العادة التي لا تزال في بعض نواحي البحرين.
ومن جانب آخر فإن المواطن البحريني لا ينسى الأسواق الشعبية الموجودة في المملكة، فهي مازالت تحظى بزيارة صنوف كثير من الزبائن، ومن هذه الأسواق المنتشرة في البحرين سوق يطلق عليه «سوق المقاصيص» أو «سوق الحراج» كما كان يطلق عليه سابقا، ذلك ان كل بائع يجلب بضاعته ويحرج عليها كما يقال بالعامية ومن هنا جاءت التسمية على الأرجح.
قامت عدسة «الوسط» بجولة في سوق المقاصيص في مدينة عيسى، والذي يقام كل يوم خميس وجمعة حيث عطلة نهاية الأسبوع إذ تتغير ملامح مدينة عيسى وتصبح في هذين اليومين أكثر اكتظاظا من باقي أيام الأسبوع ويختل الهدوء فيها إذ يقصدها البحرينيون وغير البحرينيين من كل مناطق المملكة تقريبا، وسلطت الضوء على السوق الذي يحتفظ بطابع خاص يميزه عن باقي الأسواق سواء الشعبية أو الحديثة عبر جولة ميدانية شملت غالبية أرجائه، والتقت عددا من أصحاب البسطات المفروشة على الأرض الذين يحتفظ غالبيتهم بلمحات تاريخ هذا السوق التي حطت الرحال في مناطق عدة ثم عادت وغادرتها لتستقر في مدينة عيسى وقد لا تكون في الغالب هي المحطة الأخيرة.
توقف صحافيون عدة عند هذه السوق، ويكاد كل صحافي يحبوا في بلاط صاحبة الجلالة قد مر على هذه السوق في تحقيقاته الأولى، تاريخ هذا السوق وحاضره ومستقبله الذي سيظل مرتبط بماضيه العتيق يجعله في كل حين موضوعا يستحق الطرح من جدد وإن طرح في مرات عدة.
«الوسط» توقفت عند أبرز مميزات وعيوب هذه السوق، المقترحات لتطويرها وخصوصا بعد تكرار المشادة والمشكلات بين «المحرجين» أصحاب البسطات والزبائن، وخصوصا النساء اللاتي يتسرعن في شراء بعض الأجهزة ثم يكتشفن أنها تالفة، إضافة إلى استغلال النساء هذه السوق لبيع الملابس المستعملة على بعض العمالة التي تشتريها لتبيعها مرة أخرى عند الذهاب إلى بلدها... وشئون أخرى سجلتها الساحة التي تتوسط مدينة عيسى نتوقف عندها لنعرضها في سياق السطور الآتية.
الصفة المميزة
يأتي المقاصيص على شكل مهرجان أسبوعي رواده من كل الأعمار والفئات، ويباع فيه كل شيء حتى تلك البضائع التي لا تخطر على البال، ويبقى الأثاث والأدوات الكهربائية المستعملة هي الأكثر رواجا بين باقي البضائع، ويدخل ضمنها وسائل التبريد وأجهزة التلفزيون والتسجيل ثم مواد البناء، وهناك بضائع جديدة لم تستعمل تباع بأقل من سعرها في السوق، كما أن هناك أجهزة ومعدات مقلدة تحمل علامات تجارية مشهورة ولا يعطى عليها ضمانا، ووسائل أخرى مجهولة المصدر.
هذا كله إضافة إلى ملابس وأحذية ووسائل طبخ وأواني منزلية ومقتنيات أثرية كلها مستعملة، إلى جانب ذلك توجد بضائع أخرى استهلاكية مثل المكسرات والحلويات وكماليات وكتب قديمة وأدوات مكتبية.
كما تضم هذه السوق سوقا خاصة بالحيوانات والطيور بأنواعها الأليفة وغير الأليفة والمواطنة وغير المواطنة. بمعنى آخر التنوع هو الصفة المميزة لسوق المقاصيص.
تاريخ السوق
يحدثنا سيدمحمد علي عن تاريخ سوق المقاصيص، فيقول: «بدأ سوق المقاصيص مجرد سوق للخردة بجانب سوق الغنم، ثم انتقل إلى جانب السوق المركزي، ثم إلى مدينة حمد، إلى أن حط رحاله في مدينة عيسى، وبجانب السوق الشعبي».
وأضاف: «اتخذ السوق هذه التسمية منذ إنشائه، إذ كان في بداية الأمر مركزا للمقاصيص وهم المفلسوف أو المحتاجون الذين يدفعهم الإفلاس إلى بيع ممتلكاتهم من أجهزة أو ساعات وذلك لحل الأزمات المالية الطارئة التي يعانون منها، ومن ثم تطور السوق بعد ذلك ليضم مجموعة من البسطات التي تحتوي على الملبوسات والساعات وغيرها من الأشياء التي تباع بأسعار منخفضة جدا».
أما عباس علي الذي جاء ليستطلع ما في السوق من جديد وبعدها يقرر الشراء فيرى أن «تسمية السوق بسوق الحراج تأتي من العربية الفصيحة والتي تنبع من قولهم أحرج في أمره فاضطر إلى بيع ما عنده».
ويضيف قائلا: «السوق يظل هادئا طول أيام الأسبوع ثم يتحرك فجر الخميس ليبلغ ذروة نشاطه عصر يوم الجمعة من كل أسبوع مع تغير بسيط في شهر رمضان المبارك إذ يبدأ النشاط متأخرا إلى قبيل منتصف الليل».
أما أبوحسين صاحب بسطة وسط السوق فيخالف عباس علي في رأيه، قائلا: «السوق يشهد حركة نشطة يوم الخميس من كل أسبوع وهو اليوم الرسمي، إذ يبدأ الدوام مع صلاة الفجر مباشرة، ولكن نشاطه يختفي مع غروب الشمس في يوم الجمعة من كل أسبوع».
المحرجون أو الباعة في سوق المقاصيص يتفننون في عرض بضائعهم، حتى يبدون لك وكأنهم استعراضيين يؤدون حركات شبه راقصة وهم يلوحون بالبضاعة، فيأتي لك صوت المحرج أو البائع وكأنه يؤدي أنشودة للأطفال، ويبدأ البيع على صنف واحد من البضاعة وعندما يصل إلى السعر الذي يريده يبيع القطعة، ثم يتناول قطعة أخرى وهكذا.
النساء منافس قوي للرجال
لا تقتصر البسطات والبيع في سوق المقاصيص على الرجال، بل ان المجال مفتوح حتى للنساء، فهم خير منافس للرجال، التقينا الكثير منهن وتحدثن ألينا عن السوق.
تقول أم محمد وهي صاحبة مبسط في السوق: «المقاصيص هو مصدر رزق لي ولعائلتي، إذ انني اعمل به منذ استقراره في مدينة عيسى، إذ أبيع البخور والملابس الجاهزة وبعض أدوات المكياج وحاجيات النساء والألعاب».
أما زميلتها في الفرشة أم عبدالله فتقول: «أمارس البيع في مبسطي داخل السوق المظلل يوم الخميس والجمعة، إذ أبيع الأجهزة الكهربائية والتحف المنزلية التي أحرص على أن تكون سليمة وأعطي عليها ضمانا بأنها تعمل بشكل سليم ومن وجدها لا تعمل فعليه أن يقوم بإرجاعها إلي».
وعن دخلها اليومي تقول: «لا أستطيع تحديد ذلك فالأرزاق على الله والدخل يعتمد على حال السوق ونشاط الفرد فيه».
وعن المشكلات التي تصادفها في السوق تقول: «هناك بعض السيدات ممن يشترين منا البضائع، ثم يذهبون بها إلى ركن مختلف من السوق ليفرشن لهن مبسطا آخر ويبعن الجهاز أو أية سلعة بسعر أغلى من السعر الذي اشترينه به».
يقول أحد أصحاب الفرشات انه يحصل على بضائعه المستعملة من أصحابها الذين يبيعونها أو في بعض الأحيان من بعض الشركات التي تبيعهم البضائع القديمة لرغبتها في شراء بضائع جديدة.
وفي أحد أركان هذا السوق لفت انتباهنا شاحنة محملة بكراتين بضائع مختلفة يتجمهر حولها حشد كبير من رواد السوق، على ما بدى لنا من سعر البيع فإن نوعيات الأجهزة ماركات مقلدة أو غير معروفة وتشمل ألعاب أطفال وأجهزة تسجيل وساعات وأدوات حلاقة وخلاطات وأشياء كثيرة متنوعة.
السوق يفتقر إلى التنظيم
أوضحت إحدى النساء الزائرات للسوق أن السوق يعج بالناس من كل شكل ولون وقالت «ان البائعين يستغلون جهل النساء ويبيعونهن أجهزة كهربائية تالفة، ويقومون بتنظيفها وعرضها على أنها جديدة أو أنها مستعملة استعمالا بسيطا».
سيدة أخرى روت لنا قصتها مع مثل هذه البضائع قائلة: «اشتريت فرن غاز من أحد البائعين في السوق وبعد ذهابي به إلى البيت اكتشفت تسرب الغاز من الأسفل، ولو قمنا بإشعال الكبريت لانفجر البيت، لكن الحمد لله الذي سلمنا وقمنا بإرجاعه له ولكنه رفض، وحدثت بيننا مشادة ما استدعى الأمر الذهاب إلى مركز الشرطة»، وطالبت البلدية أو أي جهاز آخر في الدولة بمراقبة هؤلاء الأشخاص وبضائعهم.
أما هبة حسين (مدرسة) فتقول: «السوق يفتقر إلى التنظيم فهو يعج بالفوضى، كما أن العمالة الوافدة تستغل هذه الفوضى فتقوم بممارسة البيع والشراء لنفسها».
وأضافت: «ان وضع السوق فيه خطر على الجميع فلو - لا قدر الله - وحصل حريق أو ما شابهه فإننا سنخسر الأرواح الكثيرة، إذ ان السوق تباع فيه مواد سهلة الاشتعال كالمواد الكهربائية والأثاث والأخشاب».
أما محمد رضا - زائر آخر - فيؤكد أن طريقة عرض البضائع في فوضى كبيرة، وأن البعض يتخذ من سيارته مبسطا خاصا ليقف بها في وسط الطريق، ما ينتج عن ذلك المشاجرات المستمرة بين الباعة أنفسهم أو حتى مع زوار السوق، إضافة إلى ما ينجم عنه من تعطيل لحركة السير.
أما الخطورة التي لفت الانتباه لها جعفر عباس (بائع طيور): «بيع اسطوانات غاز وسط سوق يضم أعدادا كبيرة من الناس، إضافة إلى وجود السوق وسط أسواق رامز والسوق الشعبي والمركز اللبناني، فالكثير من الناس يتجمهرون في هذه المنطقة يوم الخميس والجمعة، فلو - لا قدر الله - وحصل انفجار لاحدى اسطوانات الغاز، فأننا سنفقد أرواحا كثيرة».
تذمر جيران السوق
أبدى عدد من سكان المنازل القريبة من سوق المقاصيص تضررهم واستياءهم من موقع السوق الحالي، إذ عبر البعض عن أن الازدحام يجعل بعض سياراتهم تتعرض للصدام غير المتعمد، وإنما بسبب الازدحام، كما أوضحوا أنهم يضطرون إلى حبس أولادهم خوفا عليهم من التعرض لحوادث دعس مع هذه الزحمة.
أما البعض فقد عبر عن استيائه من موقع السوق بقوله: «لا يستطيع أهلنا في عطلة نهاية الأسبوع زيارتنا بسبب هذه الزحمة، وحتى ان فكروا في ذلك، فإنهم يضطرون إلى وضع سياراتهم في أماكن بعيدة ويكملون مشوارهم إلى بيوتنا سيرا على الأقدام».
يظل هذا السوق بحاجة أكثر إلى مزيد من التطوير واستكمال جميع الخدمات ورفع مستوى التنظيم والانضباط داخله وإيجاد عنصر التشجيع بالمساهمات الفعالة حتى نرقى بمستواه إلى مستوى أسواق مماثلة في دول خليجية وعربية، مثل: سوق المناخ في الكويت، وخان الخليلي في مصر، والحميدية في سورية وأسواق أخرى تمتزج فيها مقومات الحضارة إلى جانب التراث، إذ أصبحت هذه الأسواق واجهات بلدها التي أعطته تميزا وهوية مختلفة، وأصبحت إحدى وسائل الجذب السياحي والتجاري
العدد 350 - الخميس 21 أغسطس 2003م الموافق 22 جمادى الآخرة 1424هـ