العدد 409 - الأحد 19 أكتوبر 2003م الموافق 22 شعبان 1424هـ

من يجرؤ على الكلام؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن قراءة الديمقراطية الأميركية في ضوء قرارات الكونغرس في غرفتيه (النواب والشيوخ) المتناقضة في جوهرها؟ فالنائب (أو الشيخ) يصوت إلى جانب إعلان حروب وتمويلها في هذه السنة، ثم يعود وينتقد سياسة الحروب التي يقودها الرئيس، ثم يعود ويصوت على مشروع قانون يشجع على إعلان حرب جديدة، ثم يعود وينتقد سياسة إعادة اعمار البلدان التي تسبب في خرابها... وهكذا.

يقال إن مشكلة الديمقراطية الأميركية تكمن في نظامها الافقي الذي يعتمد الولاية أساسا للتشريع والانتخاب، ونظام الولايات يكرس الافتراق بين المصلحة الوطنية الكبرى (الدولة العليا) والمصالح المتفرقة لكل ولاية. هذا الافتراق يضع النائب/ الشيخ أمام اختيار صعب، فهو يريد كسب ولاء أصوات الناخبين في ولايته حتى يطلب التجديد في دورة جديدة وفي الآن نفسه لا يريد إغضاب حزبه (الجمهوري أو الديمقراطي) الذي يعتمد سلسلة صيغ من التوجهات البراغماتية المتغيرة بين دورة وأخرى وأحيانا بين ولاية وولاية.

بهذا المعنى يصبح المرشح/ النائب أسير حلقات، الأولى حزبية والثانية محلية وبينهما هناك ما يسمى اللوبي. وكلمة اللوبي استحدثت للتعبير عن أهمية أجهزة الضغط في التأثير على قناعات النائب المنتخب وتسيير إرادته وتوجيهها نحو دائرة من المصالح المالية والدعائية فاذا قبلها وخضع لها تتم عمليات توظيف الإعلام وجمع التبرعات لمساعدته في حملته المقبلة وإذا رفضها تتحول ضده لمصلحة منافسه أو لمصلحة مرشح يختاره اللوبي للتشويش عليه. فاللوبي في هذا المعنى هو القوة الثالثة (والخفية عادة) التي تلعب دور تحريك آلية التصويت في الكونغرس في غرفتيه مقابل إغراءات مالية إعلامية أو العكس تماما. فاللوبي هو الوعد والوعيد الذي يقف كحاجز اعتراضي يسيطر على الصالات والمداخل التي تحتل البهو (منطقة فراغ) قبل ولوج النائب قاعة التصويت. وقبل دخوله القاعة تتحرك اللوبيات (أجهزة الضغط) للاتصال بالنائب وإقناعه بضرورة التصويت بهذا الاتجاه أو ذاك... وإلا تسلطت عليه اللعنات.

في الثمانينات أصدر النائب السابق بول فيندلي كتابه الشهير «من يجرؤ على الكلام؟» تحدث فيه عن وسائل «اللوبي» في إرهاب المخالفين ومحاربة كل نائب/ شيخ في الكونغرس في حال قرر تحكيم ضميره أو التعبير عن قناعاته.

تحدث فيندلي عن تجربته وكيف تجرأ مرة وخالف الكونغرس في قرار اتخذه ضد العرب ولمصلحة «إسرائيل». لم يكن لفيندلي آنذاك أية فكرة عن موضوع فلسطين أو الاحتلال الاسرائيلي أو الصراع العربي - الاسرائيلي ولم تكن لديه رغبة في التصادم مع هذا الجهاز أو ذاك ولم يكن على علم واطلاع على مدى تأثير اللوبيات على مجرى السياسة العليا للولايات المتحدة.

كل ما كان يعرفه عن المسألة انه صديق «إسرائيل» بغض النظر عن كل التفصيلات المتعلقة بالموضوع الفلسطيني وما يتفرع عنه من اتصال بالوضع العربي.

إلى صداقته لـ «إسرائيل»، كان هناك ضميره ورغبته الدائمة في اتخاذ قرارات تعكس المصلحة الأميركية وما يترتب عليها من حسابات الربح والخسارة. وبسبب ذاك الضمير تحولت حياته إلى جحيم وليله إلى نهار ونهاره إلى ليل لأنه خالف مرة أوامر اللوبي وصوت إلى جانب قرار لم يكن لمصلحة «إسرائيل».

وسقط فيندلي في الدورة الثانية بعد أن تنظمت ضده حملة تشهير استخدمت فيها كل وسائل الإعلام والمال طالت سمعته وكل شيء تقريبا... فأخرج من الكونغرس ضمن حملة تطهير وتأديب لكل المخالفين لإرادة اللوبي وغصبا عن حزبه وولايته. فاللوبي في هذا المعنى هو قوة ثالثة بعد الحزب والولاية ولكنه أحيانا يتحول إلى قوة ثانية وأولى في حال تركز الهجوم على أشخاص (نواب/ شيوخ) عندهم كرامة وبعض الاستقلال والعنفوان.

كتاب «من يجرؤ على الكلام؟» هو محصلة تجربة نائب في الكونغرس وألفه فيندلي ردا على تلك الحملة الجائرة التي شوهت سمعته لأنه قرر مرة مخالفة أوامر اللوبي. وفي الكتاب يكشف فيندلي كل شيء عن الهيئات والمنظمات ووسائل الضغط والاتصال والاغراءات والوعد والوعيد والتهديدات والشتائم وغيرها من أساليب لا أخلاقية تخالف الأعراف وتهدد الديمقراطية لأنها تقوم على تغيير القناعات بالإرهاب النفسي والاغراءات المالية والإعلامية وتجيير الأصوات وتمويل الحملات المؤجرة أو المضادة.

انها اذن «القوة الثالثة» وأحيانا الأولى والثانية إذا تعلق الأمر بمصالح لها صلة بمافيات شركات النفط والسلاح والأدوية والمقاولات والعقارات والاتصالات. فهذه اللوبيات (المنظمة) تحولت إلى ما يشبه المافيات التي تمثل شركات احتكارية ولها مصالح باختراع أزمات وحروب لضخ الأرباح والأموال إلى صناديق المستثمرين في تلك المؤسسات التي تصنع السياسة وبالتالي تسيطر على الديمقراطية وتوجه الناخبين للتصويت بهذا الاتجاه أو ذاك.

ومعرفة قرارات الكونغرس ومحاولة قراءة تناقضاتها تبدأ من معرفة سياسة اللوبيات ومصالح المافيات. فهذه اللوبيات تحولت مع الأيام إلى أجهزة ضغط تعتمد أساليب المافيات... والأخيرة تحولت الآن إلى قوة ثالثة (خفية) تقرر السياسة الاميركية انطلاقا من السيطرة على اللعبة الديمقراطية. فمن يجرؤ على الكلام؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 409 - الأحد 19 أكتوبر 2003م الموافق 22 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً