العدد 410 - الإثنين 20 أكتوبر 2003م الموافق 23 شعبان 1424هـ

الحياة المرفهة تطير في العراق

انك بحاجة إلى اصطحاب مرافق عسكري حتى تصل مطار بغداد هذه الأيام. نعم فالأمور تزداد تحسنا في العراق كما يقول الرئيس الأميركي جورج بوش، وعليكم ان تتذكروا ذلك جيدا. ولكن رجال حرب العصابات يقتربون اكثر من مدرجات المطار الذي قطع الاميركيون كل الأشجار من حوله، وأزالوا كل أشجار النخيل، ونظفوا الطريق تنظيفا. وقد قتل الكثيرون باستخدام القنابل على امتداد هذا المدرج، إذ قام الاميركيون بكسح الطبيعة فيه، كما فعل قبلهم الاسرائيليون في بيروت منتصف الثمانينات.

أحد المهندسين في الجيش الأميركي صاح بأوائل الجمع القادم من عمّان مبتهجا: «حسنا يا جماعة، يمكنكم الآن ترك أمتعتكم هنا والذهاب إلى الداخل لحصول على تذاكر دخول الطائرة». من هنا خطونا إلى داخل غرفة ذات أثاث «بعثي» ثقيل، وأخذنا قصاصات من الورق لا تظهر عليها رقم الرحلة ولا رقم المقعد، ولا جهة السفر أو حتى وقت الاقلاع! وكان هناك مطعم (بيرغركنغ) في الممر، ولكنه لم يكن من المناطق المشدد عليها امنيا التي لا يمكن للمسافرين زيارتها. ولكن لم يكن هناك ما يمكن شراؤه، بالمقابل كانت هناك مقاعد محدودة جدا تقبع في الحرارة بالخارج، فيما يمكن اعتباره أكبر مكتب بريد في العالم، إذ يقوم الجيش الأميركي بفرز رزم البريد لكل فرد من جنوده الـ 146 ألفا في العراق، على رفوف يبلغ ارتفاعها 30 قدما.

ولكن لنلق نظرة على المسافرين: فهناك سيدة من «كير»، متوجهة لقضاء عطلة في تايلند وحسبت بسرعة كيف ان تايلند تقع في الشطر الآخر من الأرض بالنسبة إلى العراق. كما كان هناك أسقف البصرة، بثوبه الأسود والأحمر، وفي رقبته صورة الصليب . كما كان هناك طاقم تلفزيوني وممثل الصليب الأحمر الدولي، بجانب طائرة الصليب الأحمر الصغيرة المتوجهة إلى كركوك. وهناك رجل بناء بريطاني قادم من الحلة، إذ قضى ليلته السابقة تحت إطلاق النارمن جانب الفرقة البولندية، وكما عبر عنه بقوله: «نسمع صوت القذائف وإطلاق النار الكثيف لمدة ساعتين». وطبعا لم تأت سلطات الاحتلال على ذكر ذلك «لأن الامور تتجه نحو التحسن»!

وكانت وراءنا أربع طائرات ذات أربعة محركات ضخمة تحاول الدوران استعدادا للإقلاع في صورة دوائر، في سماء ذلك الصباح الحار. وحركة الإقلاع أو الهبوط تجري بارتفاع منخفض إلى درجة تظنها سترتطم بأطراف أجنحتها بالمدرج، كل ذلك لتجنب صواريخ أرض - جو، التي يطلقها أعداء اميركا على الطائرات في «العراق الجديد». وأسر إلينا أحد المهندسين الاميركيين قائلا: «انه عمل روتيني، فنحن نتعرض لإطلاق النيران كل ليلة».

ومن بين المسافرين الآخرين كان هناك أحد العاملين بالمنظمات الانسانية، الذي من الواضح انه تعرض لانهيار عصبي، إلى جانب سيدات عراقيات توجهن إلى نقطة التفتيش على يد ضابط من القوات الجوية الملكية البريطانية. وفي الممر كان هناك فرقة من جنود القوات الاميركية الخاصة يتمتعون بأشعة الشمس، وهم يرتدون نظارات سوداء وهم مدججون بمسدساتهم وأسلحتهم الآلية. فسألتهم لماذا يرتدون تلك النظارات، فأجابني احدهم بعد أن نزع نظارته المعتمة: «أية فتاة ستنظر إلينا إذا رأت وجوهنا الحقيقية؟». واقتنعت بكلامه. ولكنهم يعيشون في منزل آمن قرب الفلوجة، ويتم احتواء الإصابات في المعارك بعزوها إلى حوداث الطرق أو الغرق. وأراد أحدهم ويدعى شوك أن يسر إلي بسؤال: «هل تعرف المصدر الأغنى في هذا البلد يا بوب؟» وأجاب: «انه الشعب العراقي. فهناك الكثير من البروتوبلازم هنا». وكنت أتأمل في ما يعنيه بالبروتوبلازم عندما سقطت القذيفة الاولى تلك اللحظة، فيما حاول الجمع تفاديها بالانحناء وسط ما أثارته من ضجيج، وارتفعت دوائر من الدخان الأبيض من الجانب الآخر من المدرج. وتبعه صوت زمجرة اخرى وضجيج. وقال شوك: «انهم يتحسنون، فلابد انهم وضعوا تلك القذيفة بالقرب من المدرج». وأومأ رجال القوة الخاصة موافقين على كلامه. فيما تجمع المسافرون مثل حيوانات المزرعة حول البوابة، لكن الاميركيين كانوا واقفين في الواجهة. تبع ذلك انفجار ضخم جعلهم يتحركون جميعا وارتفعت سحابة من الدخان باتجاه السماء، وعلق أحد أصدقاء شوك: «انها ليست بتلك السوء».وأوضح شوك: «اننا نقيم محيطا آمنا حول المطار مقداره خمسة اميال. ولكنه الآن تراجع إلى ميلين فقط، فمعدل ما تصله مضادات الطائرات هو 8000 قدم. لذلك فانها على حافة 2000 قدم». وترجمة ذلك ان الاميركيين اعتادوا على التحكم بخمسة اميال حول المطار، وهي مسافة كافية جدا لمنع من يحاول إطلاق قذيفة محمولة باتجاه طائرة. والهجمات والكمائن التي تعرض لها الاميركيون قللت من المنطقة التي يسيطرون عليها إلى ميلين. وعلى حافة نصف القطر ذاك، ربما يمكن لمسلح ان يستهدف طائرة بقذيفة مداها 8000 قدم. وخاطبت أحد زملائي في بغداد عن تعرض المطار للقذائف فأجابني: «انني لم أسمع شيئا عنها يا بوب. فكم من القذائف قلت؟».

وفي المطار هناك طائرات للخطوط الأردنية الوحيدة التي تغامر بالذهاب إلى بغداد كل يوم وهناك فرقة من رجال الأمن الأردنيين يصرون على التفتيش بالكامل، أجهزة الحاسوب تغلق وتفتح، واجهزة التصوير تفتح وتغلق، وتفتح الحقائب وتفتش حتى دفاتر الرسائل والمذكرات.

والإقلاع أسرع من المعتاد. ولكن طائرة الايرباص تستدير بصورة حادة، وتدفعنا قوة الجاذبية في مقاعدنا، ومن خلال النافذة تشاهد خيام معسكر الاعتقال، إذ يحتجز الأميركان 4 آلاف سجين عراقي من دون محاكمة. وتضج محركات الطائرة وتبدأ الخيام بالتلاشي وتصعد الطائرة في الجو، وتأتي مضيفة الخطوط الأردنية في بلوزتها الناصعة البياض، فالأمور تتحسن إلى الأفضل في العراق. ثم تسألني: «عصير أم نبيذ أحمر، ماذا تحب؟»... فماذا كان علي أن أختار أيها القارىء؟

العدد 410 - الإثنين 20 أكتوبر 2003م الموافق 23 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً