العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ

حمزاتوف لم ينحنِ الاّ مرتين

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

رحل صاحب «داغستان بلدي»، وهي واحدة من أروع الروايات التي شكلت النسيج النفسي والفكري والأدبي لعدد كبير من الأدباء العرب، وامتد التأثير على النسيج ذاك بكل تنوعه ليشمل بعض المفكرين منهم.

لم يك «رسول حمزاتوف» رجلا «عابرا» في لون «عابر» من الكتابة، إذ امتد تأثيره وبراعته وسحره لتشمل كتّابا كبارا لم يخفوا اعجابهم واحترامهم للسحر الذي مارسه الرجل طوال عقود من الكتابة، وفوق هذا وذاك، ظل محتفظا بنقائه ووضوحه وانتمائه الإنساني والكوني وتعاطفه الكبير والمسئول مع عدد من القضايا العالمية، ولم تكن القضايا العربية بمنأى عن اهتماماته، إذ ظلت القضية الفلسطينية حاضرة وملحّة في الكثير من حواراته وكتاباته المتقطعة في الصحف الروسية، عدا عن ترميزاته وإن بدت ذات أفق محلي محض الا انها لم تكن بمنأى عن ترميزات تطول فلسطين ورموزها وفعلها المؤثر والحاضر في الكثير من الفعاليات والحوادث التي اكتظ بها العالم.

ما يجب التوقف عنده هو ذلك الثبات على مواقفه من القضايا الإنسانية الكبرى التي لا تقبل التلون والتغير تبعا للظروف السياسية والدولية أو تبعا لتلون الموقف الرسمي أو تراخيه وربما تراجعه عن تلك القضايا.

كان نقيضا لـ «جنكيز اتماتوف» ذلك الذي ظل مهووسا بجائزة «نوبل» ولم يتورع عن زيارة الدولة العبرية، بل وذهب الى أبعد من ذلك حين أهدى كتبه إلى واحد من جزاري «اسرائيل» وارهابييها «اسحق شامير» يوم أن كان رئيسا للوزراء، على رغم التفسير المرَضي والمنهزم الذي خرج به على عدد من الصحافيين والكتاب العرب بقوله: «ليفسر أصدقائي العرب إهدائي كتبي الى اسحاق شامير على انه فعل تربوي حتى لو كان المُهْدى اليه قاتلا محترفا»!.

وفي الشعر علينا تذكر قصيدته التي أهداها إلى أمه والتي تعد واحدة من الروائع الخالدة في الشعر العالمي، إذ نهج من خلالها أسلوب «التقاطعات» في السرد وشحنات عاطفية عالية وذات امتداد وتجذر نفسي قل أن تجد نظيرا له في الكثير من الأعمال الشعرية الكبرى.

كما علينا تذكر احدى قصائده التي كتبها لنساء ثلاث، إذ يقول حين ودّع الأولى: صرخت وأعولت حتى تجمع الجيران حولهما، فقال لحصانه: اسرع الى الثانية يا حصاني، وحين ودع الثانية بكت ولكن بلا صراخ أو عويل، صافحها ولم يعانقها وقال لحصانه: أسرع يا حصاني الى الثالثة، وحين ودعها بقيت صامتة، وكأن شفتيها قد التصقتا الى الأبد، أما عيناها فقد فر منهما سرب حمام بلون البنفسج، عندئذ شد لجام جواده، وترجل، فتلك هي الحبيبة الجديرة بالمكوث».

حمزاتوف، شهادة عصر على ثبات في المواقف، وجرأة في الانحياز الى العادل من القضايا، بل ومجازفة في التوغل في توحده مع تلك القضايا، والاستعداد لمراكمة الخسارات - كما يريد الآخرون النظر اليها - في سبيل أن يظل محتفظا بانتمائه النقي والعميق والواعي إلى هذا العالم، بما يراكمه يوميا من معان كبرى تعمل عملها في تبرير وجوده في هذا العالم.

ويظل ذاته الحر الذي صرّح ذات ضمير بقوله: «ما انحنيت طوال عمري الا مرتين... مرة لأداعب طفلا، ومرة لأسقي جواد أبي من عين الماء»

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً