التنوع... جانب الفوضى

وأنت تمشي وتلاحظ بالمشاركة -وهو وسيلة منهجية معتمدة في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)- في أزقة وأحياء المنامة تلاحظ وتعاين فعاليات متكاثرة. وفيما يأتي عرض لهذا التنوع بإيجاز. ولعله محاولة لتوثيق هذه الفعاليات بشكل أو بآخر.

- المجالس الحسينية والخطابة والمحاضرات التوعوية عن السيرة الحسينية وعن الأخلاق والعقائد والأحكام الشرعية والقضايا المعاصرة للرجال والنساء وهي كثيرة بعدد المآتم والحسينيات المنتشرة في أنحاء المنامة وسككها.

- مواكب العزاء للرجال والأطفال وحتى الصم إلى جانب مواكب الزنجيل وغيرها.

- المعارض للصور والرسومات واللوحات ومعارض الكتب والمطبوعات وقاعات للتعريف ببعض جمعيات المجتمع المدني الأهلي كجمعية تنظيم الأسرة وجمعية الذكر الحكيم وجمعية التوعية الإسلامية وجمعية الكوثر للرعاية الاجتماعية وجمعية المرسم الحسيني وغيرها.

- المضيفات والتكايا لتقديم الأطعمة والمشروبات.

- التبرع بالدم من الرجال والنساء.

- المجسمات والفن التعبيري المادي.

هذه أبرز المظاهر والشعائر الحسينية في عاشوراء التي تمتد من الصباح إلى الظهر والعصر إلى المساء وحتى قبيل الفجر وباكتظاظ مروري وازدحام بشري كبير. ومن الواضح الجلي جدّا التنوع والتعدد فيها لأقصى درجة في حالة إنسانية بامتياز، ويشمل ذلك:

- تنوع الإثنيات المشاركة (العرب، العجم، الهنود، الباكستانيون، والأجانب الآخرون).

- تنوع الجنسيات الحاضرة والمشاركة (أهل البحرين، باقي دول الخليج، العراق، إيران، الهند، باكستان، والدول الأخرى).

- تنوع الأديان (المسلمون وغيرهم) والمذاهب (الشيعة الاثنا عشرية، المذاهب الإسلامية الأربعة، البهرة وغيرها).

- تنوع اللغات (العربية، الفارسية، الهندية، الإنجليزية)، بل حتى لغة الإشارة حاضرة.

- تنوع المستويات (علماء، رجال أعمال، خبراء، وجهاء، مديرون، موظفون، عمّال، ربات بيوت، جامعيون...الخ).

- تنوع الجنس، الرجال إلى جانب النساء.

- تنوع الأعمار، الأطفال والشباب والرجال والكهول والشيبة.

وتشارك في هذا الموسم جهات رسمية عدة، هي:

- وزارة الصحة والعيادة التي تقيمها لخدمة المشاركين في بعض المراسم وكذلك سيارات الإسعاف المتوافرة من الوزارة ومن بعض المستشفيات الأخرى.

- وزارة البلديات وشئون الزراعة ومشروع النظافة الذي تتبناه بالتعاون والتنسيق مع المحافظات المعنية وكذلك تقوم الوزارة بتوفير مواقفها للاستخدام العام للتسهيل على المشاركين.

- وزارة الداخلية والتنظيم المروري المترافق مع التظاهرة الجماهيرية الحاشدة وكذلك أفراد أمن المجتمع ودورهم في الحفاظ على الأمن واستتبابه.

هذا هو جانب الفوضى وهو جانب الاكتظاط والاحتشاد وجانب التكاثر -بالتعبير القرآني- والكثرة والتفاعل بالآلاف المؤلفة مع الفعاليات والمراسم والشعائر المتزامنة المتعاقبة والمتشابكة.

يضج الضاجون ويعج العاجون

إنّ جانب الفوضى المذكور سابقا هو جانب العجيج كمصداق جلي عملي معاش ناهض ومعاين لما ورد في دعاء الندبة «ويضح الضاجون ويعج العاجون، أين الحسن؟ وأين الحسين؟».

الضجة والضجات وهي الصرخات والدوي والأصوات المرتفعة والرنة بعد الرنة المسموعة في أرجاء المنامة من هذا المجلس أو ذاك ومن هذا الموكب أو ذاك. أما العج والعجيج والعاجون فيتمثل في الأصوات المرتفعة وكذا في تلك الفوضى وذلك التنوع والتعدد والتموج والتكاثر بين الكثير من المؤسسات والأفراد وبأعداد كثيرة جدّا بحضورها في مساحة جغرافية محدّدة.

هذا العجيج وتلك الفوضى والعشوائية في أعلى المستويات وأقصاها التي يعاينها الماشي المتواجد المشاهد هي نفسها تنظيم ووحدة بأعلى المستويات وأقصاها. هي تنظيم ووحدة فريدة من نوعها ولا نظير لها عمليّا في العالم الإنساني. وهو ما يتضح بعد قليل.

التكاثر الكوثري

وحدة تلك الفوضى في أنّها كلها تنضوي تحت لواء سيد الشهداء المظلوم الغريب الحسين بن علي (ع). الوحدة ظاهرة عندما تنظر لهذه الفعاليات والحشود على تنوعها ولكن من أعلى ومن مسقط عمودي كما في الهندسة المعمارية وبشكل شمولي كلي. الوحدة في الاتجاه والهدف والتآلف والتكاتف والتشابه والتمازج والتعاضد والتآزر والانصهار من الجميع والارتباط بهذا الموسم زمنيّا ومكانيّا وهدفيّا ومبدئيّا والصلة بسيد الشهداء (ع) وتعزيته ومواساته وإظهار الموالاة له والنصرة.

هذا هو جانب الكوثر -بالتعبير القرآني- هو جانب الوحدة والواحدية في الهدف والانتماء والزمان والمكان، هذا هو التكاثر الكوثري.

أعلى المستويات

عجيب ومبهر هذا التضاد المنسجم والانسجام المتضاد بين الفوضى والوحدة بين العشوائية والتنظيم. إنه الإعجاز عينه. وليس هذا فحسب، بل إنّ هذا الإعجاز هو في أعلى المستويات. أعلى مستويات العشوائية الممكنة والمتواجدة عمليّا كما ذكر سابقا إلى جانب أعلى مستويات وأقصى المديات من الوحدة والانسجام والانصهار والتآزر في المواساة والتألم والعزاء لهذا المصاب الجلل والاتصال والصلة والارتباط والربط بسيد الشهداء (ع).

العشوائية والفوضى في أعلى مستوياتها وعجيجها لكن تحت مظلةٍ ولواء واحد وهدف موحَّد وموحِّد يصهر الجميع في بوتقة واحدة ويرسم لوحة تشكيلية لا أجمل منها عند النظر إليها بنحو شمولي كلي جامع من أعلى.

ما رأيت إلا جميلا

هذا هو جمال الشعائر الحسينة في عاشوراء وهو الذي ينطوي ويحمل في طياته جلالا وإباء وكبرياء ومقارعةُ للظالمين واستشهادا وجهادا للمعتدين المنحرفين وجهادا أكبر للنفس وميولها وترويضا لها على المعالي والسمو والفداء بين يدي الإمام سيد الشهداء (ع). هذا ما قرّرت عقيلة بني هاشم أخت الحسين (ع) زينب بنت أمير المؤمنين (ع): «ما رأيت إلا جميلا». هذه النظرة العلوية العُلوية. وقد نطق روح القدس على لسان الجواهري إذ يقول في مطلع عينيته:

فداء لمثواك من مضجع

تنوّر بالأبلج الأروع

وأيضا قال:

رأيتك في صورةٍ لم أرَ

بأعظم منها ولا أروع

لاحظه كيف يعبّر عن الصورة وأنها الأروع وأعظم إراعة وصعقا على الإطلاق.

المعادلة المتقنة للبشرية

التفاعل والحضور الحسيني العاشورائي يرسم ويعطي للبشرية درسا في الإدارة الجماعية للكتل والتجمعات البشرية والحشود المتكاثرة الكوثرية. إنّ هذه الحالة من التكاثر الكوثري يُمثّل معادلة متزنة متقنة بإحكام وحكمة متناهية. وتقوم على 3 أبعاد -كما يعبّر ويقرّر بعض علمائنا المعاصرين في أبحاثه هذا العام:

- البعد النفسي الوجداني والعقلي لكل فردٍ فرد من المشاركين والمشاركات بغض النظر عن التمايزات والتلوينات بل كإنسان له روح وعقل.

- الشخصية المجموعية وكيان المجتمع والحس العام.

- القيادة الرائدة المصلحة الصالحة الرشيدة الحقة العادلة.

هذه المعادلة باتزان وإتقان واعٍ وحكيم ترسمها وتصيغها عاشوراء الحسين (ع) بأجمل صورة وأروع منظر.

ختام

حري بالبشرية أن تعرف الحسين (ع) عظيما قائدا إماما تملّك القلوب وألا تشتبه بالدعوات الزائفة الباطلة المغرضة لرئيس دولة كبرى هناك في أقصى الغرب رفع شعار «الفوضى الخلاقة» وفشل فشلا عمليّا ونظريّا على حدٍ سواء.

إنها دعوةٌ صادقة وبعزم للجميع في هذا البلد وفي خارجه للتعلم والاستنارة من درس وإعجاز عاشوراء الحسين (ع) في الفوضى المنظمة أو التكاثر الكوثري كنموذج ملهم وناجح قادر على إدارة التنوع وصهر الطاقات البشرية قابل للتطبيق في المستقبل القريب على يدي ابن الحسين الطالب بدمه والناشر للعدل المقيم للدولة الكونية. وهنيئا لنا بالحسين (ع) الذي ندعو الله سبحانه المتفضّل أن نكون عنده وجهاء به.

بقلم الباحث: جلال مجيد الماجد

إداري وأكاديمي في علم الإنسان