العدد 2344 - الأربعاء 04 فبراير 2009م الموافق 08 صفر 1430هـ

قنسرين في زمن التحولات

فضاء لصراع الخير مع الشر

قنسرين مسرحية ينتسج صراعها من أجل طقس تطهيري، في مواجهة محتدمة، ما بين قيم الخير في مقابل قيم الشر، في فضائين، الأول فضاء زماني، يعود لزمن المسيح، والثاني فضاء مكاني، يعود للعصر الإسلامي، هكذا بكل بساطة ثمة قلب في الرؤية، ففي الفضاء الأول الاسم مسيحي، ”قنسرين” ولكن الأحداث إسلامية، وفي مقابله فضاء آخر، عصر مسيحيي، ولكنه يؤول إلى حالة إسلامية، فإذا كان الاسم ينقلنا إلى عصر المسيح، فإن الحدث ينقلنا إلى العصر الإسلامي، ويدير المخرج محمد الصفار مع ممثليه أحداث المسرحية بين هذين الزمنين في مكان واحد هو قنسرين التي هي محط التحولات على مستوى المكان والزمان، في العرض المسرحي وفي الحكاية التاريخية.

الراهب ورأس الحسين

ملخص حكاية قنسرين أنها كانت عامرة بأهلها وما إن وصلها خبر قتل الحسين وأن الجند أقبلوا يطوفون برأسه بينهم حتى أغلقوا الأبواب وجعلوا يرمون الجند بالحجارة ويقولون: يا قتلة أولاد الأنبياء والله لا دخلتم بلدنا، وملخص حكاية الراهب كما يرويها التاريخ والمريدون أن ثمة راهب حين مرت به قافلة السبايا والرؤوس توسم في رأس الحسين نورا فطلب أن يبيت عنده في صومعته فأعطى القوم عشرة آلاف درهم فأعطوه الرأس فأخذ يحاوره إلى آخر الحكاية، وملخص الحكاية في العرض المسرحي أن ثمة راهب ستئول به الأحداث في نهاية المسرحية لأن يقول «أمنت بالحسين»

تراوح زمكاني

عله بهذا التراوح الزمكاني يتم نسج حكاية قنسرين، سواء في المسرحية التي شاهدناها، أو في الحكاية الأصل المقتبسة منها، والمنسوج على منوالها أحداث المسرحية، ففي الحكاية ثمة راهب مسيحي يتحول بفضل رأس الحسين إلى مسلم، وحتى تسير الحكاية إلى غرضها وخاتمتها كما أراد المؤلف والسارد التاريخي، كان هناك حاجة للعودة للمسيحية الأصل في صراعها بين الحق الباطل لبيان بذور الخير والشر في العمق التاريخي للحكاية لإثبات هذا المآل «المغرض» الذي ستكون عليه الحكاية في خاتمة المسرحية حيث يختتمها الراهب بمقولة «آمنت بالحسين» إذ يتم تحوّل الذات وأسلمتها في الصراع المحتدم وبناء الشخصية، وكذلك على نفس النمط يتم تحوّل المكان وأسلمته في الحكاية وفي الفعل المسرحي.

قيم الخير وقيم الشر

تناقش المسرحية قيم الخير في مقابل قيم الشر هذا الصراع الذي هو ثيمة أساسية عادة في الدراما الكلاسيكية، والذي ها هنا يمهد للثورة ويكون محلا للتحولات الاجتماعية واحتدام الصراع في دواخل الشخصيات، ومنه تستمد المسرحية عملية الدراما فثمة تحولات اجتماعية تصنع الحدث وثمة تحولات في الشخوص تؤسس لبناء الشخصية وتعمل في تأطير المواجهة بين المجموعتين ولهذا فقد انقسم الممثلون في المسرحية إلى جماعتين وفي زمنين مختلفين الأولى جماعة الخير والثانية جماعة الشر، وقد مثل جماعة الخير الحسين وصحبه وكذلك المسيح وصحبه، وفي مقابلهم جماعة الشر الذين هم بالطبع خصوم الحسين وخصوم المسيح والمناوئين لهما، فكان الحسين والمسيح في جهة والشمر وقيافة كمناوئين للحسين والمسيح في جهة أخرى من العرض المسرحي.

نقلات إيقاعية متقابلة

وقد تراوحت أحداث المسرحية في نقلات إيقاعية مستمرة حاول المخرج من خلالها أن ينتقل بالحدث مرة في الزمن المسيحي، ومرة في الزمن الحسيني مجليا ما حدث للحسين وصحبه، وما حدث للمسيح وصحبه، كل ذلك ليقدم للحدث الخاتم وهي عبارة «أمنت بالحسين» وليربط بين القيم التي يجسدها الرجلان مع اختلاف الزمن، فمرة الحسين وصحبه مع المسيح وصحبه ومرة ينتقل بالحدث إلى الجهة الأخرى من معمار المنصة حيث قيافة وجماعته وإنكارهم على المسيح، مع الشمر جماعته وحربهم للحسين.

من خلفية سوداء هالة الضياء

وقد جعل المخرج الممثلين في أدائهم الحركي لشخصيات المسرحية يخرجون الظلام الكثيف من الخلفية السوداء إلى النور وكأنهم بفعلهم المسرحي هذا إنما يخرجون من الظلمات إلى النور فالمجموعة الممثلة في هذه المسرحية إنما تسبر هذا الحدث التاريخي، وتضعه أمامنا في سياقه التنويري، لتستظهر عملية الإطاحة بالقيم التي مثلها الحسين والمسيح، ولكي يتم تجلية هذا الفعل الذي هو خبيء التاريخ وإظهاره للجمهور كان هناك حاجة للخروج من الظلام إلى النور، ثم العودة إلى ذلك الظلام مرة أخرى حيث تنطفئ الأنوار ويطغى السواد على الحدث وعلى كل شيء، ونعود إلى ظلام كنا فيه فهل يستمر الظلام الرمزي على هذه الشخصيات وعلينا بعد هذه المسرحية هذا ما هو متروك للمتلقي.

إشارات معاصرة

لم يكن الحدث المسرحي هذا ليمر بين زمن المسيح وزمن الحسين من غير تلك الإشارات لهذا الزمن المعاصر، وهي إشارات تمثل إحدى أهم الأغراض التي تعتمل في العرض كلما انتقل من حدث إلى آخر، فثمة ثوّار يقبلهم الراهب بل ويدعوهم لضيافته ولو لليلة واحدة في مقابل رفضه للجند وتقطيبه في وجوههم، فالدير حرم للعبادة ولا مكان فيه للسلاح، هذا ما قاله الراهب «علي عبدالحسين» وهذا ما شاهدناه كذلك في التقابل ما بين دعوة الراهب لنصر الخزاعي وجماعته من الثوار للمبيت في الدير، ورفضه للشمر وجماعته وعبوسه وتقطيبه في وجوه الجند.

التقليل من الإبكاء

وأظن أن المخرج حاول قدر الإمكان إبعاد المشاهد المتكررة كل عام المتمثلة في صور القتال، والإبكاء والحزن وقد اقتصر على مشهد المقتل بحيلة استذكارية استعادية على طريقة «الباك راوند» وذلك حين قال الشمر «لجعفر إسلام» في دور «نصر الخزاعي» وهو يقاتله أتريد معرفة كيف قتل الحسين فأشار إلى زاوية تصور اللحظات الأخيرة لمقتل الحسين وقد استطاع هذا المشهد أن يحصد تفاعلا معه حيث يحفظه المتلقون من جهة وينتظرون تفاصيله واستعادته بالإضافة إلى ما أضفت عليه المؤثرات والإضاءة الخافتة من جلال ورهبة وإخافة مع إتقان صوتي وحركي لدور الحسين أظهره الممثل «طه حسين» في أداء الشخصية، وتصاعد للحدث صنعه «السيد صادق العلوي» في تأدية دور الشمر وإيصاله المشهد للذروة بأداء حركي متميز من حيث الصراخ على مستوى الصوت و الهيجان على مستوى حركة الجسد، والذي كان بدخوله وخروجه وإشهار سيفه دائما ولباسه الأحمر يعكس لون الدم وتعطشه لإراقته، وكذلك كان قيافة في مقابله والذي مثل دوره ميثم النوري وهو يحمل عصاه ويتحين الفرصة للمسيح وينكر عليه ويضيق به ذرعا كلما رآه بين حوارييه.

رقية براءة الطفولة وبساطتها

ومن الحكايات الجانبية التي لجأ إليها المؤلف في هذه المسرحية حكاية رقية تلك الطفلة التي مثلت دورها آمنة السيد عدنان التي من خلالها يتم تصعيد الحدث في المسرحية وإضفاء عنصر البراءة والبساطة عبر حوارها مع الحسين ومع الراهب وقد استخدمها العرض كرابط بين الشخصيتين حيث مرة يحنو عليها الحسين، ومرة يحنو عليها الراهب، ويعرض عليها شرب الماء، مع طفل آخر هو حسين حمزة والذي أبدى تفوقا وتفاعلا مميزا حين عبّر عن شدة الألم بعد ضربه من قبل الجند الذين تركوه يئن على جانب من المنصة ليقدم الراهب ويمسح على آلامه.

الحسين جرأة ووقار

وثمة تميز في الأداء الحركي والصوتي من الشخصيتين الأساسيتين في المسرحية حيث مثل دور الحسين الممثل «طه حسين» الذي كان يجول ويصول على المنصة محافظا على ثبات شخصية الحسين وشجاعته حين مواجهة دهاء ومكر صلاح خليل وفيصل النشابة في دور الوليد بن عتبة و مروان في القصر ومعبرا عن حكمته في رده عليهما في أمر البيعة وقد استطاع «طه» أن يوازن بأدائه وحركته وصوته المعبر بين صفتين من الصعب الموازنة بينهما إلا في شخصية كالحسين حيث صفة الشجاعة التي تطلبت منه سرعة الرد وحدة النبرة في مقابل صفة الحكمة والدراية بما تؤول إليه الأمور والتي احتاجت منه إلى نبرة مختلفة وقد أداهما بتوازن وإتقان.

المسيح يد ممدودة

أما الشخصية الأخرى والتي هي المعادل الموضوعي للحسين فقد مثلها هيثم الخير في دور المسيح وقد أبان كذلك إتقانا حركيا في التعبير عن وقار المسيح وتواضعه للعامة والبسطاء من الناس في قبالة التعبير عن جريان الحكمة على لسانه بأداء صوتي حيث حاول من خلاله هيثم أن يبطئ نبرة الكلام ليضفي على أحاديثه هالة من الوقار والهدوء المعبر، وكم كان موحيا وهو يتجول في أنحاء المسرح بطول فاره ولباس تنسدل أقمشته كتلقائية حديثه حيث يلقي حكمه هنا وهناك في جمع من حوارييه الذين يلتفون حوله في حلقة وهو يعلمهم ويلهمهم الحكمة بتبسّط وتواضع عبر عنهما الخير وهو يمد يديه في الأفق معبرا عن قيمه الإنسانية المفتوحة، أو وهو يمد يديه ليمسح ويغسل أرجل حواريه ليعلمهم التواضع التبسط في الحياة.

نصر الخزاعي ترقّب وحجاج

ومن الشخصيات التي حملت الحدث إلى مستوى تصاعد آخر شخصية نصر الخزاعي الذي مثل دوره «جعفر إسلام» الذي يدخل ويخرج ملثما بنظرات حادة ممعنة في الإصرار والتي بها عبر عن صلابة الثوار وبسالتهم حين المواجهة، وبحجاج قوي عبر عن وضوح الرؤية وثبات الموقف، وهو هنا شخصية وظيفية حيث ينثر كلماته الثورية هنا وهناك ليصعد من الحدث ويصل به للذروة وليربط بين الحسين والمسيح في أكثر من إشارة مقالية في حديثه للراهب ومحاولة تبصير الراهب بحقيقة السبايا القادمين إليه.

المعمار المسرحي أبنية كأصحابها

وقد قدم العرض في ظلال معمار مسرحي باهر وواسع حيث انقسمت المنصة إلى قسمين في اليمين من مخبر للفران سمعان وقد مثل هذا الدور بتلقائية وعفوية «نضال عبدالله» والذي ينكشف أنه أحد الثوار في نهاية العرض وخلفه النخل الذي يختفي فيما بينه الثوار، وثمة إشارة أخرى تجلي أن النخل ليس حاميا للثوار فقط بل هو معادل موضوعي للراهب «علي عبدالحسين» حيث في حديثه مع مريده وأحد حواريه بطرس يشير إليه أنه تربى وهذه النخلة سويا وأن صلابته من صلابتها، وفي الجهة الأخرى صومعة الراهب حيث يتجلى مدخل الدير وأعلاه الصليب وفي جوانبه تضاء الشموع، وفي وسط المسرح محراب يظهر منه المسيح والحسين في نهاية المشاهد ويصبح الخلفية الأساسية للمشهد الأخير حيث يطلق الراهب مقولته أمنت بالحسين وهو يتمسك بالرأس والجنود يحاولون استعادته منه.

تحولات الراهب

وينتهي المشهد عند هذه الذروة المفتوحة التي بها تتحول شخصية الراهب بعد طول أناة وهدوء وصبر حرص عليه «علي عبدالحسين» البطل الأساسي في المسرحية وهو يؤدي دور الراهب من غير أن يبدي انحيازا أو معارضة مباشرة إلا بالقدر الطبيعي من الانحياز للفقراء والمساكين، وبعد تمعن وانكشاف تام للحقيقة في مستويين مستوى ثوري مقاوم منتمي لمعاني الخير ومساعدة الضعفاء والثورة ومستوى غيبي قداسي حيث التحام شخصية الحسين بشخصية المسيح في ذهنه وبعد حواره مع الرأس يتمسك الراهب بالرأس ويكشف معاني كثيرة وتنتهي المسرحية

العدد 2344 - الأربعاء 04 فبراير 2009م الموافق 08 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً