العدد 2700 - الثلثاء 26 يناير 2010م الموافق 11 صفر 1431هـ

الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك والأوهام في القضية الفلسطينية

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

عاشت القضية الفلسطينية في العقل الجمعي العربي باعتبارها قضية قومية ولكن هذه الحالة لم تكن كذلك لدى بعض الفصائل الفلسطينية في عدد من مراحل تطور هذه الفصائل ولعل أكثر من عانى من هذه الحالة هو الشعب الفلسطيني. أما بعض الفصائل فقد خلطت ما بين الاستراتيجية والتكتيك وبين الأوهام والانتماءات للخارج بأكثر من انتمائها وعملها لمصلحة قضيتها الوطنية.

وترتب على عملية الخلط هذه غلبة البعد التكتيكي وخاصة في السنوات الأخيرة، وإغفال شبه كامل للبعد الاستراتيجي وتخدير لدى قطاعات عديدة من أبناء الشعب الفلسطيني وتركهم يعيشون في بعض الأوهام ولعل من مظاهر ذلك:

1. عودة الصراع مجددا بين الفصائل الفلسطينية والانقسام بشدة بين سلطة غزة وسلطة رام الله، وعودة الجدال الإيديولوجي والمذهبي البيزنطي هل المخطئ هو عباس أم مشعل؟ هل فتح أم حماس ومن له الصداقية؟ وهذا الجدل مثل الدائرة الخبيثة أو المفرغة يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية وتحترق فلسطين، كما احترقت روما عندما عاشت في ذلك النوع من الجدل - بافتراض أن أساس الجدل حسن النية وصدق مع الذات، ولكن إذا أضفنا أن له مبرراته ودوافعه الخفية ترتبط بمصالح قوى عربية وإسلامية بل وإسرائيلية فإن الطامة تكون شاملة وكارثية.

2. إهدار الدم الفلسطيني بأيدي فلسطينية بصورة لم يسبق لها مثيل في قتال ما يمكن أن يسمى الاخوة الأعداء اقتباسا من الرواية المشهورة للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكي (1883م - 1957م) Nikos Kazantzaki وبروز المسجونين والأسرى الفلسطينيين في سجون غزة ورام الله، ومن ثم إعطاء المبرر الكافي لإسرائيل للخروج من أزمتها وتصرفاتها الوحشية والإنسانية ضد الفلسطينيين.

3. تصور قيادات فلسطينية معنية بأن في مقدرتها تغيير الأنظمة أو بعض الأنظمة العربية ورفعها الشعار الإسلامي الذي لا يعترف أساسا بالفكرة الوطنية أو القومية انطلاقا من مفهوم الأمة الإسلامية وهذا ردة فكرية تتسم بقصر النظر وضعف الإدراك، ويمثل قراءة مبسترة وناقصة ومشوهة للتاريخ وللنصوص الدينية، كما يتسم بقصر نظر في معرفة طبيعة العالم المعاصر، ولقد أخفقت الحركات السياسية الدينية من الحشاشين وإخوان الصفا والخوارج وغيرهم من الفرق الإسلامية، بل تراجعت كثير من المذاهب الفقهية واختفت كثير من توجهاتها عبر العصور لأنها كانت تتواكب مع عصر وبيئة وظروف مختلفة.

4. نجاح بعض الفصائل التي تدعى رفعها شعار المقاومة دون عمل حقيقي في تطوير القضية الفلسطينية عكسيا لتصبح قضية إرهاب، ولاجئين ومعونات إنسانية بدلا من التقدم الذي حققته على يد ياسر عرفات في السنوات الأخيرة من حياته بتحولها إلى قضية سياسية تخص وطن وشعب.


بعض التصورات الخاطئة بحسن نية أو غيرها

لقد ترتب علي عملية الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك وبروز حالة من الأوهام والارتباط بأولويات غير فلسطينية من قبل بعض قيادات فلسطينية نتيجة للعجز شبه الكامل الذي أصابها فكريا وسياسيا وأدى بها إلى عدم معرفة وإدراك المتغيرات الدولية والإقليمية ومن ذلك:

– تصور أن دولة عربية أو إسلامية أخرى في الشرق الأوسط يمكن أن تساعد الفلسطينيين بالقدر الذي تساعدهم به مصر سواء كمعونات إنسانية أو كدفاع عن القضية في المحافل الدولية. ولهذا لو قارنا بين مساعدات دولة مهمة واستراتيجية مثل تركيا أو إيران أو غيرها بما في ذلك الدول العربية التي ترفع شعارات النضال والصمود والقومية العربية وبين المساعدات التي قدمتها وتقدمها مصر وسلوكها في المجتمع الدولي تجد الفارق الحقيقي في أرقام المساعدات والوهم الذي أوقعت فيه قيادات فلسطينية شعبها الذي يعاني من قراراتها ومواقفها الخاطئة.

– تصور أن فلسطين سوف يتم تحريرها بالسلاح، أو أن إسرائيل انهزمت فعليا في حربها ضد غزة. هذا لا يعني أن إسرائيل لم تواجه صعوبات وضربات قاسية وموجعة، ولكن شتان بين الهزيمة التكتيكية والهزيمة الاستراتيجية.

– تصور أن السلطة الفلسطينية في رام الله عميلة لإسرائيل، إن مثل هذه الشعارات والأطروحات هي أكبر أسباب كوارث العرب والفلسطينيين بالنظر للآخر بأنه عدو وعميل ونحو ذلك من الصفات القاسية التي تهدف لاغتيال شخصية الفرد أو الدولة.

– تصور أن الانتخابات الحرة النزيهة التي أعطت شرعية وأغلبية لحركة حماس أهم من الانتخابات النزيهة التي جاءت بمحمود عباس على رأس السلطة وتمسك حماس برفض الانتخابات مجددا.

– تصور أن أية قوة عربية أو إسلامية أو دولية ستحارب من أجل فلسطين لتحريرها أو أن الرئيس الفنزويلي شافيز هو المخلص أو أن جورج جلوي النائب البريطاني هو مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فلسطين وشعبها، أو أن حفنة معونات من النائب البريطاني جلوي وهو شخصية خلافية في بلاده والعالم بأسره أو من حملة يمكن أن يقودها الرئيس الفنزويلي شافيز أو غيره من الشخصيات على الساحة الدولية ستنقذ فلسطين، إن الهدف الحقيقي هو إعادة تحويل القضية من سياسية إلى معونات إنسانية.

– تصور أن مصر هي العدو لفلسطين ولقطاع غزة وأهله، في حين أن مصر هي الحليف الإستراتيجي، ولا يقلل من هذا التصور الفعلي صدور تصريحات بنفي ذلك من بعض قيادات حماس بعبارات ملتوية تقول الشيء ونقيضه لأن السلوكيات هي المعمول والمعول عليها، وأتقن البعض لعبة التسويف والعبارات الإنشائية المطاطة.

– تصور أن مصر ستغير سياستها الجوهرية بالدفاع عن قضية فلسطين أو بتأمين حدودها الدولية مع غزة وغيرها تحت ضغط حركة حماس أو غيرها من الفضائيات والأبواق التي تصرخ فيها ليلا ونهارا، فهذا مثل صياح الديكة الكاذب، لن يؤذن ولا يبشر بقرب وصول الفجر، ولن يؤثر كثيرا وسيضر أكثر من أن ينفع القضية الفلسطينية.

– تصور أن ثمة خلافا جوهريا بين النظام السياسي المصري وبين الشعب المصري في مواجهة أي قوة خارجية. حقا هناك خلاف في وجهات النظر وفي الأساليب وفي التكتيكات الخاصة بالتطور السياسي مثل أية دولة، ولكن في مواجهة قوة خارجية صديقة أو شقيقة أو غير ذلك، فأي شعب يصبح قوة واحدة مع نظامه حدث هذا في حرب مصر في كل العصور وفي مصر مع السادات ومبادرته وفي مصر عبد الناصر في مواجهة عدوان 1956م و1967م، وغيرها كما حدث مع العديد من الدول. هذه أوهام وأحلام يقظة وليست تحليل سياسي علمي يتصور أن شعبا يتحول ضد حكومته مع قوي خارجية، ومع هذا فيمكن أن يكون هناك كاتب صحفي أو كاتب ديني يعبر عن فكر ضد نظامه وله وجهة نظر مخالفة ولكن تأثيره على مجتمعه محدود أما تأثير الفضائيات فمثل فقاعات الهواء.

– تصور أي فلسطيني أو عربي أن عامل الزمن في صالح القضية الفلسطينية ومن ثم تركيزه على إطالة أمد الصراع، وهذا تصور خاطئ فالقضية الفلسطينية أصبحت معروفة بأنها قضية الفرص الضائعة، ووضع بعض الدول العربية المحتلة أجزاء من أراضيها قديما أو حديثا مختلف عن حالة فلسطين التي هي محتلة بصورة كاملة رغم وجود حكومتين في رام الله وغزة لا تملكان من أمرهما شيئا، ولا يستطيع أي من قادتها التحرك والانتقال إلا بإذن وموافقة صريحة أو ضمنية من الدولة المحتلة التي تمثل الاستبداد والغطرسة العالمية.

– تصور أي فلسطيني أو عربي أن القنبلة السكانية الفلسطينية سوف تنفجر في وجه إسرائيل وتهددها. وهذا صحيح شكلا وغير صحيح موضوعيا لأن هناك أساليب عدة لمواجهة ذلك وإسرائيل دائما تخطط على المدى البعيد، في حين إننا كعرب وفلسطينيين نطرح الشعار دون أن تعمل خططا لتنفيذه ودون أن نضع أجندة له، بل أحيانا نعمل عكس ذلك اعتقادا أن طرح الشعار والهتاف له يكفي.

– تصور أي فلسطيني أن المعونات الإنسانية والمعاناة الإنسانية هي جوهر القضية الفلسطينية، في حين ان ذلك عرض من أعراضها.

– تصور أي فلسطيني أن العالم ليس أمامه سوى المأساة الفلسطينية سياسيا فهناك قضايا عديدة ضاعت في العالم لأسباب متنوعة، مثل قضية الأرمن، قضية الأكراد، قضية كشمير، قضية المسلمين في الأندلس، قضية المسلمين الأتراك في قبرص بل قضية اليهود أنفسهم ظلت آلاف السنين، وقد تعود مثل هذه القضايا أو بعضها بعد عشرات وربما مئات السنين وقد لا تعود مطلقا.

– تصور أي فلسطيني أن المأساة الفلسطينية أو غزة هي من الناحية الإنسانية والمعيشية هي القضية الوحيدة الإنسانية في العالم. فهذا خطأ خطير لأن العالم مليء بالكوارث والأزمات الطبيعية والإنسانية، ولعل من أحدثها كارثة تسونامي، وكارثة هايتي وضحاياه الكثيرون.

– تصور أي فلسطيني أو عربي أن أزمة فلسطين هي الأزمة السياسية الوحيدة المهمة على جدول أعمال القوى العظمى مثل الولايات المتحدة.

هذه بعض التصورات والأوهام التي نشير إليها وأنا أعرف أن البعض ربما يصدم من مثل هذه التصورات أو نحوها، ولكن نقطة البداية في الخروج من الأزمة هي الاعتراف بالحقائق مهما كانت مرة وصعبة وصادمة.

والخلاصة نعتمد فيها على التاريخ العربي وبيت الشعر الرائع لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي عندما كان يردد في ظلمة الليل وهو ثمل:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليــــوم كريهــــة وســـداد ثغــر

والبيت الآخر الذي نود الإشارة إليه فيما يتعلق بإستراتيجية التعامل العربي والفلسطيني مع الدور المصري تجاه قضية فلسطين ورد الفعل المصري تجاه ذلك هو مقولة الشاعر العربي أبي فراس الحمداني:

بلادي وأن جـــارت عليّ عزيزة وأهلي وأن ضــنوا علـــــي كــــرام

فمصر لن تتخلى عن القضية الفلسطينية ولن تتخلى عن أمتها العربية مهما حدث ومع هذا فسوف تستمر في منهجها ولن تقبل أن يفرض عليها أحد أو قوة أو حزب أو جماعة إرادتها وتصوراتها غير السليمة، وغير ذات الصداقية من حيث أبعادها السياسية والإستراتيجية.

والخلاصة أن التصورات لدى بعض قيادات فلسطينية وعربية في تعاملها مع السياسة المصرية ومع قضيتها الوطنية، بل وفي تعاملها مع بعضها البعض ينطبق عليها تماما هذان البيتان من الشعر والذي مؤداهما «أن تضيع الثوابت لصالح الهوامش، وأن تضيع الاستراتيجية لصالح التكتيك، وتضيع المصلحة الوطنية لصالح المصالح الذاتية، وتضيع المصالح القومية لصالح المواقف الحزبية ويضيع الجميع لسيطرة الأوهام على عقولهم».

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2700 - الثلثاء 26 يناير 2010م الموافق 11 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:41 ص

      استراتيجية من الذي ضاع؟؟

      من الواضح ان مصر قد بنى على استراتيجيات واضحة و هذا واضح في الداخل أكثر من الخارج ؟ فالعشوائيات هي استراتيجية جديدة من أم الدنيا... و الذي أضاع مصر ليس العرب أو الفلسطينين و اللبيب بالإشارة يفهم

اقرأ ايضاً