العدد 488 - الثلثاء 06 يناير 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1424هـ

فصل سلطة الحكم عن التجارة والأعمال

عبدالهادي مرهون comments [at] alwasatnews.com

منذ زمن ونحن في البحرين سلطة تشريعية وقوى مجتمع مدني نكرر القول إننا ننشد بلوغ دولة المؤسسات التي تستقر فيها القوانين والمصالح وتدوم فيها مؤسسات الحكم والإدارة، ولا تتغير كثيرا بتغير الشخوص ومصالحهم وأمزجتهم باعتبارهم منفذين لخطط وبرامج سبق أن أقرت من قبل هياكل الدولة المختلفة الممثلة في السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن يبدو أن بونا شاسعا مازال يفصلنا عن بلوغ هذه الغاية. ولن يقربنا منها إلا الشروع في إزالة الموانع أمام سبل تحقيق التقدم والإصلاح بما يؤدي إلى زيادة قوة ومتانة نمو اقتصاد ومجتمع المملكة.

إن الخطوات الجريئة التي أقدم عليها جلالة الملك لدى طرحه مشروع الإصلاح والتحديث، وضعت أُسسا متينة يمكن البناء عليها، لنتشارك جميعا قادة وحكومة ومواطنين، لتخطي كل العقبات التي تحول دون تسارع وتيرة التغيير والتقدم إلى الأمام. ورغبتنا تتضاعف في الإصلاح وتنمية الاقتصاد بعد أن أخذت تظهر على المشهد اليومي في حياتنا تذمرات وتأففات، تبدو محقة أحيانا لأننا نريد للبحرين ما هو أفضل ولشعبنا ما هو أكمل وهو أمر ينظر إليه جلالة الملك بموضوعية دائما، لما لمسناه في بعض ما أتاحه لنا عملنا وتواصلنا مع جلالته، كنواب ومشرعين.

واعتمادا على ذلك تبدو الفرصة مهيأة الآن أكثر من ذي قبل، بعد هذا الشوط الذي قطعته المملكة في الإصلاح السياسي والتحديث الإداري أن نلج منطقة الفصل بين المملكة الدستورية والإدارة القديمة، التي ليس باستطاعة المجتمع أن يفصل فيها بين ممارسة السلطة التنفيذية كسلطة سياسية وإدارية عليا في القيادة، وبين ممارسة التجارة والمال والأعمال باعتبارها رافدا أساسيا في تسيير الحياة الاقتصادية اليومية، وتوفيرا مستمرا لحاجات الإنسان وسبل العيش اليومية، في البيع والشراء، البناء والسكن، والتنقل والسفر والصحة والتعليم والصناعة والتجارة.

إن الحكم باعتباره قيادة السلطة السياسية العليا معني بالدرجة الأساسية بممارسة قواعد الحكم الصالح، التي تعارفت عليها المجتمعات المتحضرة وأقرتها حديثا المنظمات الدولية المتخصصة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، والتي لا تعدو أن تكون ممارسة سياسية سامية تفصل بالعدل والمساواة بين الحقوق وتعمل على توفيرها - الحقوق - للشعب الواحد، على أسس من العدالة ومن دون تمييز بين الجميع، وتقود عملية التنمية والتحضر بما توفره من استتباب مقوم الأمن والدفاع عن حياض الوطن، وتقيم علاقات متكافئة مع الغير وتحفظ مصالح الوطن والمواطن بما يجعله سيدا على مقدراته. تلك مهمة الحاكم وهي مهمة سامية لا ينبغي أبدا أن يتشارك فيها مع الغير، ولا يمارسها إلى جانب مهمات أخرى، وعلى الخصوص منها التجارة والبيع والشراء والاستثمار. لماذا؟

لأن كل ذلك يدخل في باب تحقيق المصالح النفعية والشخصية، وهي دائما تقل في السمو والرفعة عن ممارسة الحكم والتصدي لمهماته الجسام وتكون على الضد والنقيض له لما يكتنفها ويتبعها - ممارسة التجارة والمال والأعمال- من هوى النفس، وحب مراكمة الثروة والشره في جمعها، أحياناُ من غير مراعاة أسس العدالة ودائما بالحرص على المصالح الشخصية، ما يجعل المهمتين - ممارسة الحكم السامية، والتجارة والمال كمنافع - متضادتين على الدوام، يكتنفهما سوء الظن وتعارض المصالح، فيفقد بذلك الحكم سلطة سياسية سامية في قيمتها العليا، كعوامل توفر العدالة وتقيم النزاهة وتوطد الأمن والثقة في النفوس والقلوب أولا قبل الشارع.

وليست بعيدة عن الأذهان والدرس العظة التي تضمنتها تلك الرواية في تراثنا العربي الإسلامي عندما نصح الصحابي الزاهد أبو ذر الغفاري الخليفة الأول أبا بكر الصديق (رض) حين رآه يخرج يوميا في الأسواق للعمل والكسب للصرف على قوت عائلته وعياله، بالتوقف عن مزاولة التجارة بعد أن انتخب خليفة للمسلمين، يتكفل بيت المال بالصرف عليه، باعتبار أن الجمع بين الاثنين - السلطة والأعمال - يعطي للخليفة ميزة تنافسية تفضله على غيره من التجار.

لقد خطا جيراننا في السير على هذا المنوال خطوات كبيرة، وخصوصا المملكتين الدستوريتين الشقيقتين في الأردن والمغرب، عندما شرَّعتا قوانين تمنع ممارسة أفراد العوائل الحاكمة فيهما السلطة التنفيذية وتبوء مناصب فيها كوزراء أو مديرين، باعتبارهم سيخضعون لرقابة ومحاسبة السلطة التشريعية، ما يفقدهم القيمة العليا كسلطة سياسية حاكمة تمارس الحكم وتقيم العدل. ولإتاحة أكبر مجال لطبقة التكنوقراط والاختصاصيين للإسهام بفعالية في تسريع وتيرة البناء والنمو، باعتبارهم مشرفين في السلطة التنفيذية يعملون تحت رقابة ومساءلة البرلمان والسلطة التشريعية التي تمثل الإرادة الشعبية، وبذلك لا يكونون بمنأى عن المحاسبة المستمرة، وعلى الخصوص ونحن نرى اليوم من حولنا في البحرين استشراء لحالات الفشل الإداري والفساد المالي في الحفاظ على المال العام كما حصل في التأمينات الاجتماعية، المصارف والبنوك، بعض الوزارات والإدارات ... إلخ. بل ممارسات تجعلنا مرتاحي الضمير إذا قلنا إن عمليات منظمة تجري لإفقار الخزينة العامة ومراكمة الديون على الوطن وأجيال المستقبل.

إن من المهمات الكبرى اليوم أمام مملكة البحرين، إيجاد حدٍ فاصل كبير بين السلطة التنفيذية كسلطة سياسية تمارس مهمات إدارية وتنفيذية لتسيير الأجهزة والمؤسسات العامة وبين التجارة والمال والأعمال. حتى لا يتم الخلط - عمدا أو سهوا - بين مهمات الحكومة والممارسات الإدارية والتنفيذية التي يغلب عليها الصواب والخطأ، فاستحقت المراقبة من قبل السلطة التشريعية والمساءلة والمكاشفة بحسب المادة 48 ب من الدستور التي تنص على «لا يجوز للوزير أثناء توليه الوزارة أن يتولى أية وظيفة عامة أخرى أو أن يزاول ولو بطريقة غير مباشرة مهنة حرة أو عملا صناعيا أو تجاريا أو ماليا...». وكذلك المادة 65 من الدستور التي تنص على «يجوز بناء على طلب من 5 أعضاء من مجلس النواب على الأقل أن يوجهوا إلى أي من الوزراء الأمور الداخلية في اختصاصاتهم» وهذا الاستجواب يمكن أن يؤدي إلى طرح الثقة بالوزير.

ويستوجب الأمر أن نذهب بعيدا في هذا المجال حتى يصبح طموحنا مشروعا، وهو نقد السلطة التنفيذية من قبل السلطة التشريعية - مجلس النواب - وليس ذلك فقط، بل من قبل كل القوى الفاعلة في المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والباحثين والمتابعين للشأن العام، من خلال نقد السلبيات واقتراح برامج التغيير، وأكثر من ذلك من خلال التوصية واقتراح التغيير والاستعداد للمشاركة فيها بفعالية.

وفي الحقيقة إننا نرى في قيادة المملكة استعداداُ وافرا للدفع بقوى التغيير والتقدم. فرموز الحكم ينتقدون السلبيات ويرسمون خطوط المعالجة أحيانا أخرى، وذلك يعني أن إمكان تطور المملكة قائم والإرادة متوافرة. وكل ما يلزم هو الوقت والخطط العملية، و يجب عدم القنوط واليأس في هذا الصدد وقطع الآمال من ذلك، فالنوايا طيبة، والمهم هو الدفع باتجاه تسريع الوتيرة وأن يغدو التغيير بالصورة التي ننشدها، يتوافق بين رغبتنا المثالية، وإمكانات الواقع الصعب والمتراكم.

إن ثمة مثالية وفردوسية في صورة ذلك المشهد، لكنه حدث في الممالك الدستورية الطموحة، والدول الحضارية التي تحترم رغبات شعوبها وتطلعاتهم - وهم ليسوا بأفضل منا، ونحن لسنا أقل منهم - وهو مثل كل مؤسسات الدنيا يتحقق ضمن مساره التاريخي ووقته. وفي البحرين هذا زمانه، فيجب ألا يتأخر أكثر من يومه وساعته

العدد 488 - الثلثاء 06 يناير 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً