لم يكشف أحد الصحافيين الروس سرا حينما التقيته ذات مساء ضمن فعاليات مهرجان دبي للتسوق، وهو يعمل لمجلة (إيخا بلانيتي) أو صدى الكوكب، بقوله إن أفكاره عن المسلمين خصوصا والعرب عموما تغيرت كثيرا عندما حضر لأول مرة في العام 2005، فعاليات المهرجان، وتعرف على (حقيقة المسلمين) عن كثب، بعيدا عن الكتب والتقارير التي تأتي من هنا وهناك، وخصوصا على صعيد التعامل الإنساني الراقي.
فعلى أكثر من صعيد، نجحت مدينة دبي في أن تكون في الصدارة على المستوى الاقتصادي والتقني والعمراني والتكنولوجي، وفي مسارات أخرى يأتي في أعلى قائمتها، النطاق الحضاري الإنساني... صورة حية لواقع أكثر حيوية في عالم يعيش اليوم «أزمة ضمير» أورثتها السياسة، بكل مساوئها، بين بني البشر، لتخلق ضمن ما تخلق، استمرارا للـ «هانتنجتون»، لوحة سوداوية في صراع حضارات... تمقتها الفطرة البشرية، وترفضها الأديان السماوية، ويقبلها الأباطرة في مافيا السياسة والصراع والعداء والجوع والفقر والجهل.
لم تستسلم هذه المدينة الزاهرة «دبي» للحملة الشعواء التي تعرضت لها تحت عنوان «أزمة ديون دبي»، وقد انطلق مهرجانها السنوي الشهير، مهرجان دبي للتسوق، في الثامن والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي ويستمر حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير/ شباط الجاري في دورته الخامسة عشرة، والتوقعات تشير إلى زيادة أكبر في عدد الزوار عن العام الماضي 2009 والذي كانت نسبته في ذلك العام قد بلغت 4.6 بالمئة وبلغ عدد الزوار 3 ملايين و350 ألف زائر.
ولعل رئيس مطارات دبي الرئيس التنفيذي لشركة طيران الإمارات رئيس اللجنة العليا المنظمة لمهرجان دبي للتسوق الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم قرأ نتائج الدورة الماضية في العام 2009 بوضوح حين أشار إلى أن نتائج الدورة الماضية كانت (إيجابية جدا) في ظل المناخ الاقتصادي العالمي المتقلب الذي أحاط الدورة الماضية من الحدث... فالنتائج تشير إلى مدى الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها المهرجان محليا وعالميا، كما تؤكد جاذبية دبي كوجهة عالمية للتسوق والسياحة رغم التحديات والمعوقات.
هناك، في دبي، تجربة تزخر بنجاحها الإنساني... هذا هو الجانب الذي سنتناوله من «مهرجان دبي للتسوق»، الذي لم يعد مهرجانا احتفاليا تسوقيا وحسب... بل هو/ هي مدينة يقبل جبينها العالم بكل شعوبه... ممن أصبحوا يعيشون في كنفها قرابة الشهر من العام أسرة واحدة... بعيدا عن مؤامرات النظام الدولي الجديد وتذويب خلق الله في صراع تتقدمه ترسانات السلاح والصفقات المليارديرية وشعارات العداء بين بني البشر، وفي هذه اللقاءات آراء تثري النقاش في شأن الموضوع:
كان من بين ما احتضنه المهرجان من أفكار خلال السنوات الماضية، تجربة (حوار الشعوب)، فمن اللافت أن توظف دائرة الشئون الإسلامية والعمل الخيري بدبي ضمن مشاركتها في مهرجان دبي للتسوق في دورة 2006- 2007، فعالية «الحوار القيم مع الشعوب» في مقر واحة الهدى الكائن بحديقة زعبيل، فهذا التوظيف الذكي هو في حقيقته رسالة لها أبعادها الحضارية الإنسانية لإجراء الحوارات ومناقشة القضايا ذات الصلة بجميع الشعوب على اختلاف أنواعهم وجنسياتهم وأعراقهم مثل: كيفية التعامل مع الآخر، وكيفية التواصل مع الآخر، وقضايا للأقليات المسلمة، وحوار الحضارات.
وإذا كانت تأثيرات الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001، فتحت صراعا قسريا على شعوب العالم، بكل أديانهم، فإن ثمة محظورا مخطورا أصبح يهدد العلاقات الفطرية بين الناس، ففعلت السياسة فعلها، غير أن «الإنسانية» كمحور التقاء وارتقاء، تريد من يستحضرها تطبيقا ومنهجا، وهنا، يمكن النظر إلى مهرجان دبي للتسوق كواحد من أهم النماذج... الناس هنا يعيشون في أمان... فلا كلام عن الإرهاب، ولا التشدد والعنصرية، ولا الموت والسلاح، وإنما اعتناق بين إنسان وإنسان... فبحسب رئيسة قسم المسلمات الجدد هدى الكعبي، فإن فعالية «الحوار القيم مع الشعوب» يستعرض الكثير من الأسئلة عن الإسلام وإلى أي شيء يدعو، وتقول: «نقوم بالإجابة بشكل سهل وبسيط لتوضيح سماحة الدين الإسلامي... إن الهدف من هذه الفعالية، التي عقدت بالتنسيق مع جمعية دار البر بدبي في تلك الدورة، هو نشر الثقافة الإسلامية بين أفراد المجتمع وتنمية الوعي الديني لديهم، والتعريف بالإسلام لغير المسلمين، ونشر الثقافة الإسلامية وفق مبادئ الوسطية والاعتدال».
المثقفون العرب والمسلمون، يشكلون بحضورهم المهرجان ركنا مهما، فالأستاذ الجامعي الكويتي عبدالعزيز الدلهان الذي ثمن فكرة الحوار القيم مع الشعوب يشير إلى أهمية تعريف غير المسلمين من السواح الذين يتوافدون على دبي في فترة انعقاد المهرجان بمفهوم الاعتدال الإسلامي، ففي الغرب، هناك حرص على إظهار أن الأصولية الإسلامية كما يدعون ويصورون ليست وليدة مناخ سياسي أو أسباب عملية محددة، ولكنها العلة في الإسلام نفسه، ولذلك يربطونها بالنصوص القرآنية التي تحث على الجهاد الدائم، ونظرية دار الإسلام ودار الحرب، ورفض الأديان الأخرى، والتأكيد على أن الاعتدال الإسلامي غير موجود وأنه مجرد مرحلة تؤدي للتطرف والعنف.
ويضيف مستشهدا بما طرحه بعض المفكرين المسلمين المعاصرين، إن هناك اعتقادا سائدا بأن الغرب محتاج إلى وجود عدو دائم للحضارة الغربية يبرر بقاء حلف شمال الأطلسي والتحالف الأوروبي الأميركي، ويدفع أوروبا نحو استكمال الوحدة السياسية والاقتصادية بعد انهيار العدو المتمثل في الشيوعية الدولية، وهناك تصميم على أن يكون الإسلام هو ذلك العدو، ولقد ذكر ذلك قائد حلف شمال الأطلسي صراحة في آخر اجتماع للحلف في روما، وكذلك في الاجتماع الأخير لأمين عام الحلف فيلي كلاوس دالتري الذي قال إن الإسلام هو العدو الأول لأوروبا والغرب ودعا إلى تحذير شعوب الغرب من الإسلام والمسلمين، فهل تصدق هذه المقولة في هذا المهرجان؟ أبدا، ما يحدث هو شرح لحقائق يقبلها العقل.
أما المواطنة البوسنية سارا بيغوفيتش، التي تحضر المهرجان للمرة الأولى، فهي تعتقد أن هناك فرصة يتيحها المهرجان، لا للتسوق والاستجمام فقط، بل للتعرف على المجتمع الإسلامي على حقيقته، وتشير إلى أن وجود جاليات إسلامية في أميركا وأوروبا بات يشكل قلقا من ناحية الإقبال على فهم الدين الإسلامي وتشكيل نظرة جديدة مجردة من العداء والتعصب، وتفنيد التهم التي تلصقها الجماعات المتطرفة في الغرب بكل من يدين بالدين الإسلامي.
وتستحضر مقولة مفتي البوسنة والهرسك مصطفى تسيريتش التي أشار فيها إلى أن العلاقة بين الطرفين تقوم على أساس من الإقصاء وانعدام الندية، وهذا دفع إلى ما يشبه العداء، فالغرب ينتقص دائما من المسلمين بصفات الإرهاب والتخلف والأصولية وغيرها من النعوت. وانبثق في الغرب ما أصبح يعرف بـ (الإسلاموفوبيا) بمعنى الخوف من الإسلام، وتمادى بعض الغربيين في استهداف هوية الأمة واحتلال أرضها والتدخل في شئونها.
وتجزم بأن الحوار القيم مع الشعوب محاولة فريدة ومؤثرة أيضا، فنحن لا ننكر وجود إشكال في العلاقة بين الإسلام والغرب، هناك غياب واضح للثقة بين الجانبين، هو سبب العقبات أمام كل محاولات الحوار الحضاري، ولاشك أن كثرة المبادرات للحوار مؤشر على سوء الفهم، وعلى وجود التوتر بين الطرفين.
هنالك صور نمطية اتخذها الغرب حيال الإسلام، من أنه استبدادي وخرافي ويشيع في أتباعه روح الكراهية إلى غير ذلك، لكن سارا تقول إنها الآن في بلد مسلم وتحضر فعاليات مختلفة من المهرجان، ولا تشعر أبدا بأية خرافات أو استبداد أو إشاعة لروح الكراهية.
ويكتفي زوج سارا، اجودين بيغوفيتش، بالإشارة إلى أنه يشعر حقيقة أن مهرجانا كمهرجان دبي يعطي صورة غير نمطية عما تطمح إليه الشعوب من سلام ومحبة، وخصوصا أنني لاحظت أن جنسيات من مختلف دول العالم تتلاقى في استراحة الفندق وعلى موائد الطعام وفي الفعاليات ويتعارفون ويتزاورون ويرتبون للخروج معا.
وللأستاذ الجامعي السعودي سعيد القلاف تحليل متعمق يقوم على الرسالة التي يتوجب على الدول الإسلامية، سواء بالنسبة إلى المؤسسات الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني تقديمها، فهو يقول إنه على رغم الصورة القاتمة، فإنه ينبغي القول بوجود مؤشرات إيجابية في التواصل بين الحضارتين، وهذا الواقع تخفف من حدته تلك الجهود المحمودة التي لا يذخر أصحابها وسعا في أن يبينوا لغيرهم أن في كل تلك الصور النمطية التي يتم تكريسها هنا أو هناك، مبالغات سلبية لا مسوغ لها ومواقف مشحونة يجب التخلص منها بهدف رؤية الجوانب المضيئة التي تبعث على التفهم والتواصل وراء أحقاد وسلبيات الماضي وكراهيات الحاضر وهواجس المستقبل... ينبغي لكل طرف أن يمارس شيئا من المرونة لتجاوز المواقف المتشددة والقناعات التي لا تسمح بالانفتاح على الغير والتواصل معه، وذلك من أجل الدخول في حوار حضاري حقيقي يجعل كل طرف مستعدا لأن يعرف ما عند الآخر بعيدا عن الأحكام المسبقة والصور النمطية المختلفة.
إن من واجبنا كأتباع حضارة إنسانية منفتحة على الغير، والحديث للقلاف، أن نعمل على فتح أبواب الأمل والرجاء للالتقاء على نقاط وجوانب مشتركة مع الحضارة الغربية نستطيع من خلالها إقامة علاقات إيجابية مع هذا الغرب في المستقبل. ولاشك أن مثل هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أقصي من ساحة الحوار المحاورون (أشخاصا كانوا أو مؤسسات) المنبهرون والمسارعون في هوى الغرب والجاهلون بالإسلام وكذلك الجاهلون بمفاهيم الغرب والجامدون الذين يطيرون وينفرون من الاتصال بالغير، وهذه الشروط تستتبع شروطا أخرى تتجلى في العلم بالإسلام والعلم بالفكر الغربي وصحة منهج التفكير ورقي أسلوب الحوار وبعده عن الإسفاف والمرونة في المناقشة والصلابة على الثوابت والبداهات وعدم التنازل عن المبادئ والمسلمات.
ولعل النتيجة المهمة، التي يمكن أن تستخلص من تجربة مهرجان دبي للتسوق من جوانبه الحضارية الداعمة لالتقاء الشعوب، هي العمل على مواجهة موجة ابتلاع الثقافات، ففي عصر العولمة وبروز أطراف تسعى لابتلاع كل ثقافة أو عقيدة، أو تجارة، فإنه بإمكان الطاقات العربية والإسلامية، كمفكرين ومثقفين وسياسيين، القيام بدور في الصراع الحضاري الدائر اليوم، إذ إنه من المنظور الحضاري، فإن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة هو المنطلق الأول الذي يجب أن يرتكز عليه الحوار، وهذا يفترض وجود قواسم مشتركة تكون إطارا عاما وأرضية صلبة للحوار وخصوصا أن الإسلام يعلمنا أسلوبا للعيش في هذا العالم في جو من التفاهم... هنا في مهرجان دبي للتسوق، تطبيق ميداني لهذه النظرة.
العدد 2717 - الجمعة 12 فبراير 2010م الموافق 28 صفر 1431هـ
التطرف شيء والإنحلال شيء والحضارة شيء آخر
يا أخي حبيت أقول أن هناك اختلاف كبير بين التطرف (وهذا موجود في المجتمع الإسلامي وكل المجتمعات) وبين الإنحلال (وهو موجود في كل المجتمعات) والحضارة (وهي ليست موجودة في كل المجتمعات).. دبي مدينة اثبتت وجودها ومن الخطأ وصفها بأنه مدينة فساد، فأهلها من الإماراتيين يجب أن نضع لهم اعتبار، وعلى الأقل هي مدينة عربية تحارب التطرف، وانا واشكركم على هذا الموضوع القيم الذي لم تتناوله حتى الصحف الإماراتية انطلاقاً من هذه الفكرةفالإسلام دين حضارة لكن الكثير من المسلمين ليسوا كذلك