العدد 595 - الخميس 22 أبريل 2004م الموافق 02 ربيع الاول 1425هـ

خصوصية الفلسفة الإسلامية (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل الفقه قوة دفع للعقيدة. فالفقه كان من أدوات توليد المعرفة الجزئية (العملية اليومية) وتجديدها على مرّ السنوات. وإذا كان هناك من مجال للحديث عن فلسفة إسلامية مستقلة فان الفقه يشكل حقلها الأساسي لأنه تبوأ منذ بداياته موقع الربط بين العام والخاص وبين النظري والواقعي (العملي). فقه المعاملات كان على مر العصور الاسلامية هو الإطار الذي يوحد بين العقيدة (فقه الأصول) في مقاصدها العامة وبين حياة المسلم في سلوكه اليومي منذ ولادته إلى حين تأتي الساعة التي لن يتأخر موعدها.

الفقه إذا هو فلسفة إسلامية خالصة على عكس اتجاهات الفلسفة الإسلامية في مختلف مدارسها. فالفلسفة خارج سياق الفقه كانت مختلطة وغير مستقلة. وشكّلت على أنواعها مناهج معرفية مبعثرة لا توحدها الجوامع إلا في حالات نادرة كان يلتقي عليها الفلاسفة حين يصلون إلى الكلام عن الشريعة. وإذا أراد الباحث أن يدرس الفلسفة الإسلامية الخالصة والخاصة (المستقلة) فانه لن يجدها في كتابات الرازي (الفيلسوف) والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجه وابن رشد (الحفيد). فهؤلاء لا يعطون فكرة واضحة عن الفلسفة الإسلامية لأنهم أكثروا من النقل والترجمة وخلطوا أفكارهم بأفكار غيرهم.

طبعا لكل فيلسوف من هذه السلسلة طعمه الخاص ومذاقه وأساليبه المختلفة. فكل واحد انتهج سياسة مختلفة أعطت منهجه سمات غير متطابقة مع غيره. فابن رشد مثلا اشتغل في حقل الفقه وألّف كتابا متميزا في توحيد المدارس المذهبية إلا أنه خلط علومه الفقهية لاحقا بسلسلة من الكتابات المترجمة أو المنقولة عن اليونان (أرسطو وأفلاطون تحديدا). ابن طفيل أيضا يختلف عن غيره وخصوصا كتابه الخاص والمميز «حي بن يقظان». كتاب ابن طفيل المذكور يعتبر تحفة فنية أدبية وفلسفية في منهجه وأسلوبه وتحايله على اخراج أفكاره بطرق راقية الأمر الذي جعل من كتابه مدرسة خاصة في التفكير تركت أثرها على الكثير من المفكرين وخصوصا في أوروبا وقلده البعض وصاغ على منوال كتابه.

كل هذه الكتابات الفلسفية من مدينة الفارابي «الفاضلة» إلى مدينة ابن باجه «الإلهية» تميزت بروحية إسلامية ومحاولات فاشلة (وأحيانا ناجحة) للتوفيق بين الشريعة والحكمة... ولكن هذه الروحية احتاجت دائما إلى سند تاريخي (وشرعي) وكان ينقصها الاستقلال المعرفي الذي يعطيها خصوصية لا شبهة حولها.

هذه الشبهات فتحت الباب أمام المستشرقين للهجوم أو للتهجم على العقل العربي (المسلم) واتهامه بالعجز والقصور وميله نحو السرقة وعدم الابتكار وقلة الابداع.

الإبداع فعلا لن نجده في سلسلة حلقات الفلاسفة كذلك الابتكار، فالإبداع الحقيقي (العقلي الكامل) موجود في سلسلة حلقات الفقهاء من الأئمة إلى المجتهدين. ففي الفقه يوجد الابتكار الذي ولّد مدارس كبرى كان لها أثرها الدائم في «إحياء علوم الدين» وهو عنوان كتاب للإمام الغزالي.

الفقه إذا هو فلسفة إسلامية خالصة وأيضا تمتع بخصائص أعطت المعرفة عند المسلمين قوة توليد تدفع بالعقل نحو التفكير الدائم في الكون والإنسان. هذا الفقه كتب عنه الكثير وتناوله غالبية المفكرين بصفته مجرد دستور يعاد من خلاله إنتاج القوانين لتتناسب مع ظروف العصر (كل عصر) وروحه. ولكن قلة تناولت الفقه كمنهج معرفة وكفلسفة مستقلة. الفقه فعلا هو دستور الدولة الإسلامية ولكنه أيضا وبالقوة نفسها هو الفلسفة الإسلامية (الخالصة والخاصة)، وهذا ما انتبه إليه ابن خلدون في مقدمته.

صاحب المقدمة التقط هذه المفارقة (العقل الخاص) واشتغل عليها وأرّخها مصنفا الفقه إلى مجموعة أبواب وحقول وصفات. فالفقه بحسب تصنيف ابن خلدون هو نقلي وعقلي وخلافي، وهو أيضا وجودي (واقعي) وتطوري (تاريخي) ووظائفي (دستوري). وفي المجموع هو «صورة الدولة» ولابد منه لقيام الدولة ونهوضها. فالدولة عند ابن خلدون هي «صورة العمران» وصورة الدولة هي الفقة.

قبل ابن خلدون بقليل نجح الامام الشاطبي (الغرناطي/ المالكي) في القرن الثامن للهجرة (توفي سنة 790 هجرية) في اعادة تركيب المنهج الفقهي في اطار مقاصدي (أهداف الشريعة). فالشاطبي أكبر من ابن خلدون بقرابة 20 سنة وكان إمام عصره في وقت لم يكن صاحب المقدمة معروفا.

نجح الشاطبي في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة» في ترتيب أصول الفقه والدمج بين مدرسة الحديث للإمام مالك ومدرسة الرأي والتوفيق بين المناهج الفقهية لتأسيس مدرسة «مقاصدية» في الأصول والفروع.

فالشاطبي برأيه أن الشريعة ليس هدفها ادخال الناس تحت «سلطة» الدين بل تحقيق مقاصد الشرع أو ما نسميه اليوم «سلطة المعرفة». فالسؤال الذي فتح الآفاق المعرفية (الفقهية) أمام عقل الشاطبي كان «ما هو القصد من الشريعة؟». وقام بحسب ظروف مكانه وزمانه بتحديد المقاصد في أوجه خمسة، هي: الدين، النفس، العقل، النسل والمال. وبناء على هذه المقاصد في زمانه أعاد تشكيل مناهج الفقه لتحقيق الأهداف الخمسة.

أهمية الشاطبي أنه أعاد فتح طريق الاجتهاد وأسس منهجية جديدة في التفكير أعطت حرية للمجتهدين من بعده في تحديد أولويات مختلفة للمقاصد أو إضافة أولويات جديدة أو حذف أولويات أو إعادة ترتيب أولويات المقاصد بحسب ظروف المكان والزمان. إذ ليس بالضرورة أن تكون المقاصد التي حددها الشاطبي في أيامه هي المقاصد نفسها في أيامنا.

ما فعله صاحب كتاب «الموافقات» أنه أسّس منهجية جديدة وفتح الأبواب أمام تطوير أدوات الفقه المعرفية. فالمهم هو القصد وبالتالي على المجتهد ابتكار الوسيلة (أدوات المنهج) من تحليل وتركيب لربط العام (الشريعة) بالواقع الراهن (المصالح المرسلة).

كان التشريع الإسلامي أصيب بالجمود منذ القرن الخامس للهجرة واقتصر دور المشرّعين والفقهاء على التلخيص والشرح أو وضع قوالب مختلفة وهذا ما أسهم في اضعاف البنية الدستورية للدولة (صورة العمران) وشجع على نمو ظواهر غريبة في المجتمعات الإسلامية تميل إلى السحر والشعوذة وتعتمد على الخرافات لتأويل الشريعة.

هذا الوضع الشاذ والمتخلف أسس مشكلة جديدة في بلاد المغرب والأندلس في أيام الشاطبي وأسهم في شرذمة الأمة وضرب قواعد التوحيد في أكثر من جانب.

هذه المخاوف دفعت الإمام الشاطبي إلى أخذ المبادرة والتحرك على جبهتين: الأولى دعا إلى عقد مؤتمر فكري عام لمناقشة ظاهرة التصوّف وانتشار الحركات الصوفية ومدى تأثيرها على العقيدة والتوحيد. والثانية الاشتغال في حقل الفقه ومحاولة تأسيس منهجية جديدة تكسر الجمود في التشريع وتطلق مبادرة تحث على اعادة البحث في الفروع وتطوير علم الأصول وتحويله إلى علم باحث عن مقاصده.

الجانب الأول من التحرك (مؤتمر فكري عام) اشتمل على عشرات الدراسات والبحوث تقدم بها شيوخ وفقهاء وأئمة عصر الشاطبي. وتعتبر على تفرقها وتعددها أهم مصدر يوثق آراء المجتهدين في مسألة محددة: التصوف والحركات الصوفية.

إلا أن المؤتمر الناجح في مستواه الفكري لم ينجح في الحد من نمو الشبكات الصوفية، كذلك انتهى إلى خلاف كبير بين الشاطبي وابن خلدون وتحول إلى مناكفات شخصية وصلت إلى حد أن ابن خلدون أسقط ذكر الشاطبي واسمه من مقدمته. أساس المناكفة أن الإمام الشاطبي لم يوجه دعوة إلى ابن خلدون (الشاب آنذاك) للمشاركة في المؤتمر الأمر الذي أسّس فجوة ين الطرفين تحولت إلى عداوة شخصية. فالإمام الشاطبي يبدو أنه اعتبر ابن خلدون حديث السن وغير ناضج في علومه للمشاركة في مثل هذا المؤتمر الذي ضم كبار علماء العصر آنذاك. إلا أن المقاطعة لم تضعف عزيمة ابن خلدون الشاب فأقدم على تأليف كتاب عن الصوفية وحركات التصوف يعتبر أروع ما كتب عن تاريخ تلك الحركات وتعدد مناهجها ومدارسها. فابن خلدون الشاب فاق في كتابه المعروف باسم «شفاء السائل» مجموع كتابات علماء عصره عن موضوع التصوّف وحقول الحركات الصوفيّة.

أما الجانب الثاني من التحرك فقد كان انكباب الشاطبي على كسر حلقة الجمود في التشريع وتحديدا الفقه المالكي، فاشتغل على الموضوع إلى أن توفق في تطوير المنهج المقاصدي مستحدثا عناصر مركبة لتحديد موقف الشرع من المسائل المطروحة.

كتاب «الموافقات» يعتبر نقطة تحول في الفقه الإسلامي في القرن الثامن الهجري. وهو في مجاله من الكتب التأسيسية على رغم تجاهل ابن خلدون له في دراسته عن تطور مناهج الفقه في مقدمته.

بعد الشاطبي ستضاف إلى الأصول الفقهية والمعروفة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس... أصل جديد وهو المقاصد (قصد الشارع) وهي الأهداف التي من أجلها يجب على المسلم أن يكون مسلما.

فقه المقاصد أخرج التشريع من الجمود والتكرار ووضعه على سكة جديدة للتفكير والاجتهاد. فالمقاصد في جوهرها واحدة ولكنها تتغير في المكان ومع الزمان وبالتالي تطرح على المجتهد (المشرع) تحديات مختلفة تدفعه نحو العمل للإجابة عن أسئلة عصره. وللسبب هذا ربما حافظ الفقه على حيويته وتشكلت منه أدوات توليد دائمة للمعرفة على المستويين: الأصول والفروع.

ونجاح الفقه في هذا الحقل يؤكد قدراته الفلسفية في اثارة الأسئلة والأجوبة بينما كتابات الفلاسفة المسلمين تحولت من زمن طويل إلى بحوث أكاديمية للاطلاع والتسلية. فالفكر عندما يفقد وظيفته يتراجع دوره وهذا ما حصل للفلسفة ولم يحصل للفقه

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 595 - الخميس 22 أبريل 2004م الموافق 02 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً