ارتبط «علم الادارة الحديث» بالنهضة الاقتصادية الاميركية في مطلع القرن، وعلى رغم ان كثيرا من أساليب الادارة ومفاهيمها بدأت قبل ذلك في اوروبا، فإن المنهج الحديث المتكامل اكاديميا وخبرة، بدأ في جامعة هارفرد الاميركية. هذا العلم الحديث الذي بدأ تقريبا في العام 1910 وصل الى طريق مسدود مع العام 1970. هذه الفترة الاولى التي آمنت بالقدرة العلمية الفائقة على ادارة الامور عن طريق التخطيط والهيكلية الصارمة والقيادة التنفيذية الفاعلة والقادرة على توجيه الطاقات. مع العام 1970 اهتز هذا الايمان المطلق بـ «التنظيم»، ولذلك نشأت مدرسة «انسانية - سلوكية» ما بين 1970 و1990 صححت بعض اخطاء الفترة الماضية. ما بعد 1990 نشأت مدرسة اخرى دعت الى اعادة التنظيم او ما اطلق عليها بـ «اعادة هندسة» المؤسسات.
محور المدارس هو «التنظيم» و «اعادة التنظيم» للحياة العملية لانسان العصر الحديث في عالم يتطلب الانتاجية والابداع والسرعة بمستوى يعادل ما أنتجته الانسانية خلال مئات وآلاف السنين السابقة بمرات ومرات عدة.
واذا عدنا الى تفصيل المدارس الادارية المذكورة أعلاه، فسنجد كتابا ومبدعين اكتشفوا المشكلات في كل مدرسة قبل أفولها وبشروا بافولها ودعوا الى مدرسة جديدة. بعض أولئك الكتاب استخدم الطرح العلمي - الاكاديمي، والآخر استخدم الاسلوب الساخر والتهكمي. ومن أفضل الكتابات في الاسلوب الساخر كتاب ألفه «بيتر لورانس» مع صديقه «رايموند هل» بعنوان «نظرية بيتر» الصادر في العام 1968، وكتاب «روبرت تاونزئند» بعنوان «طز في التنظيم» الصادر في العام 1970، وكتاب «سكوت آدامز» بعنوان «نظرية ديلبيرت» الصادر في 1996.
بيتر لورانس ولد في مطلع القرن الماضي في كندا وحصل على دكتوراة في وسائل التعليم، وأصبح استاذا في الجامعات الأميركية قبل ان يصل الى نظريته «الساخرة» والتي يقول فيها: «كل انسان يخضع لهيكلية تنظيمية فانه يسعى لان ينتقل الى مستوى تنظيمي ارفع مما هو عليه الى ان يصل الى مستوى يعجز عن اداء دوره فيه ويصبح لا جدوى لوجوده». بمعنى آخر فإن التنظيم الحديث يدفع الانسان لان يسعى الى ان يترقى درجة بعد درجة، وان هذا السعي الحثيث لا يتوقف الا اذا وصل الانسان الى درجة لا يستحقها، فيبقى في تلك الدرجة من دون فائدة ويصبح عالة على غيره، والجميع ينتظر اما خروجه او إخراجه او تقاعده او موته.
«نظرية بيتر» جزء منها هزلي ولكنها جادة ايضا، ولذلك فقد أُلفت الكثير من البرامج التلفزيونية والاذاعية والفنية حولها واستخدمت كمنطلق للسخرية من اساليب الادارة التي تعتمد على الرتب الهيكلية.
كتاب آخر على المنوال نفسه واكثر سخرية ألفه «روبرت تاونزئند» بعنوان «طز في التنظيم» مملوء بالسخرية من مسميات الادارة ومهماتها ويعطي افكارا (بأسلوب ساخر) بشأن كيفية «التظاهر أمام رئيسك بأنك تعمل»وينصح بعدم توظيف اي شخص تخرج من أحسن جامعة في علم الادارة (جامعة هارفرد) لان كل واحد منهم «لا يحترم احدا وغير متواضع وليس لديهم ولاء للمؤسسة، او حسن تقدير، او إخلاص ...الخ» ويقترح أوصافا أخرى مناقضة لكل ما تدعيه جامعة هارفرد.
إلا ان أفضل الساخرين الذين تحولوا الى اثرياء (ثروة مليونية) بسبب سخريتهم من الادارة هو الكاتب «سكوت آدامز» الذي اخترع شخصية كاريكاتيرية اطلق عليها اسم «ديلبيرت»، وقال ان لديه نظرية تنص على «ان كل شخص غير فاعل يتم ازاحته الى منصب وهمي لكي لا تتضرر المؤسسة». هذه النظرية لا تبدو مضحكة، ولكن خلفها فلسفة عميقة جدا، وآدامز يرسم كاريكاتير وينشر هذا الكاريكاتير في آلاف الصحف والمجلات في اميركا ومختلف انحاء العالم ويحصل على مردودات هائلة.
«ديلبيرت» هو الموظف في المؤسسة الحديثة الذي يعمل بجد واجتهاد ولكن رئيسه ليس فاعلا ولا يفهم أي شيء، وهذا المسئول لديه استشاريون يوجهونه إلى تقليل النفقات عبر اقالة الموظفين. «ديلبيرت» يسخر بأسلوب جارح جدا من المدرسة الادارية السائدة في عالم الادارة حاليا باسم «إعادة هندسة المؤسسات». وقد اخترع الصورة الكارتونية لـ «ديلبيرت» اثناء حضوره اجتماعات العمل المملة والروتينية التي يحاول من خلالها المديرون غير الاكفاء ادارة المؤسسة، ولكنهم عاجزون عن كل شيء ويلجأون الى استشاريين لا يفهمون اي شيء سوى الانتقام من الموظفين والعمال واقالتهم لتخفيض النفقات الناتجة عن سوء ادارة وقلة فهم المديرون قبل ان تكون بسبب العوامل الاخرى. كاريكاتير وتعليقات «ديلبيرت» اصبحت ملهما لملايين الموظفين في المؤسسات الحديثة الذين سئموا من ممارسات اداراتهم التنفيذية، و «ديلبيرت» يتصدى بمفرده لمفكري مدرسة «إعادة هندسة» التنظيم في المؤسسات الحديثة
العدد 617 - الجمعة 14 مايو 2004م الموافق 24 ربيع الاول 1425هـ