العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ

سيبقى اللّه يرعاهم من السماء

دمعة وفاء على قبر الفقيد

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عرفته جارا من الجيران الطيبين من أبناء هذا الوطن العزيز، زميلا من زملاء الدراسة الابتدائية، كان مريضا من صغره، يقعده المرض عن المدرسة في بعض الأيام، ويؤخره عن تقديم الامتحان في بعض السنين. لم نكن نعرف اسم هذا المرض حتى بدأ بالانتشار على نطاق واسع بعد أكثر من عقد من الزمان، فعرفنا أنه فقر الدم المنجلي (السكلر).

وتقطعت بنا السبل بعد التخرج، وفرضت علينا الغربة الطويلة عن المجتمع، ولما التقينا بعد خروجه من السجن العام 2000 أدهشتني لحيته التي ابيضّت قبل أوانها، فهو لم يتجاوز حينها الأربعين. عندما يصافحك لا يترك يدك حتى تترك أنت يده. يخجلك بتواضعه وطيبته وحسن خلقه، وهو ما أجمع عليه كل من وقف أمام المنصة لتأبينه في مأتم أنصار الحسين (ع) بالبلاد القديم، من الممثل البلدي إلى زميله في النقابة، إلى صاحبه في السجن، إلى عالم الدين. وحين جاء دور النشيد الحزين أجهش الرادود بالبكاء وظلّ برهة يبكي ويبكي حتى أبكى الحضور.

صاحبه في السجن ابتدأ التأبين بالحديث عن صبره وصموده ومعاناته وراء القضبان، وذكر أنه كان دائم البسمة على رغم الألم والمرض والمعاناة. ولما كانوا يسألونه: «من لأولادك وأنت هنا؟»، كان يجيب: «إن وضعهم الآن أفضل مما كانوا وأنا معهم، لأن الله يرعاهم». وذكر أمثلة على معاناته في الزانزانات الانفرادية و«البرج»، وكان خيالي يحلّق متسائلا: «هذا الجسد الهزيل والجسم العليل كيف عاش تلك السنوات العجاف؟ وبأيّ جرم؟ وأي قاضٍ نزيهٍ حكم عليه بالسجن الطويل؟ ألأنه شارك في حملة جمع التوقيعات على العريضة الشعبية في بداية التسعينات؟ هل لكونه أحد الناشطين السياسيين البسطاء الساعين إلى إصلاح حال الوطن؟ لم يكن السيّد صاحب منصبٍ أو جاهٍ عريض، بل كان نموذجا من الوسط الاجتماعي والاقتصادي الذي تمثله غالبية الناس في هذا البلد الطيب، الذين يطمحون إلى الإصلاح وإخراج الوطن من أزماته ليعيش وطنا حرا يفخر بالانتماء إليه من وُلدوا في أكنافه.

لفت نظري ما وصفه به الشيخ علي سلمان من انه «لم يعرف الكره والشر». ودعا إلى «تجنّب الكُرهِ والفُحش في الموقف السياسي» تأسيا بسيرته. وأشار إلى ما كان يتمتع به من وضوح البصيرة والهدف في الحياة، مبادرا إلى عمل الخير، متحملا الشدائد بهدوء أعصاب، كل ذلك في حياته القصيرة التي قضى أكثر من نصفها عاملا في هذا الطريق الشائك، طريق إصلاح الوطن ومعالجة أدوائه. لم يكن طالب منصبٍ أو شهرة، وما كان يسعى إليهما، بل كان يؤدي عمله في منطقة الظل، قانعا بأن يقوم بدورٍ بسيطٍ يصبّ في نهر الإصلاح المرتجى.

لم يكن صاحب قلمٍ مسمومٍ يتفلسف فيه كل يوم ليخرج على الناس بافتتاحياتٍ ومقالاتٍ تذكّرك بطعم القيء وتصيبك بالغثيان. لم يكن صاحب عمودٍ مريضٍ مليء بالهواجس والظنون وتضخّم الذات وتوزيع الاتهامات على الآخرين، معتبرا أن ما يطالبون به ويسعون إليه هراء، وهراؤه خلاصة العلم الحديث!

كان هذا الجسد العليل منسجما مع نفسه في حركته وحبّه للخير والعطاء من أجل الفقراء والمساكين، لم يكن يملك نظريات مطنطنة. كان من بسطاء الناس، يقدّم بسيرته البسيطة نموذجا لابن البلد الذي لم يفقد الأمل في الإصلاح بعد تجربة عمرها 25 سنة، بين العمل الثوري أيام الثمانينات إلى العمل المطلبي في التسعينات، لم يعرف التواني إلى قلبه سبيلا. بدأ بعريضة وانتهى بعريضة، إذ كان يترأس توقيعها في منطقته قبل بضعة أيام من وفاته الاسبوع الماضي، لاعتقاده أنها «وسيلة سلمية حضارية راقية» أراد أن يوصل صوت المواطن البسيط الذي لا يسمعه أحد.

ذهب السيديوسف وخلّف وراءه ستة أولاد، أربع بنات كبراهن في المرحلة التوجيهية، وولدين، أصغرهما عمره 23 يوما. لو سألناه اليوم من فوق الأرض: «من لأولادك وأنت هنا تحت التراب؟»، لأجابنا يقينا: «يرعاهم الله الذي في السماء...»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً