العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ

كمائن الحلول الإسرائيلية ومخاطرها!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

على البعد، يبدو مخطط شارون للانسحاب بعيد المدى من غزة، عملا نافعا وخطوة ايجابية، على القرب يبدو الأمر مختلفا... ذلك أن الأمر نسبي بقدر ما ان الهدف ملتبس.

فلا يمكن لعاقل أو لوطني غيور، ان يرفض انسحاب العدو المحتل، من أرض فلسطينية أقام فيها واحتل واستعمر ودمر، لكن لا يمكن بالمنطق نفسه لعاقل وطني ان يقبل بظواهر الأمور، من دون التعمق في بواطنها، وخصوصا مع عدو مثل «إسرائيل»، ومع سفاح مثل شارون تميز على الدوام بالمخاتلة والمراوغة والخداع.

ونحسب أن أهم الدوافع التي حركت خطة شارون لفك الارتباط مع الشعب الفلسطيني من جانب واحد، هو خبرة التجربة المريرة للجيش الاسرائيلي على مدى نحو أربع سنوات، وخصوصا أن فيها قتالا شرسا ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية التي قادت الانتفاضة منذ العام 2000 حتى الآن، ودفع فيها الاسرائيليون ثمنا باهظا، وصل إلى ألف قتيل - وفق الأرقام الرسمية الاسرائيلية - مقابل ثلاثة آلاف شهيد فلسطيني في الضفة الغربية وغزة.

لكن غزة ذلك الشريط الأرضي الضيق المطل على البحر المتوسط المجاور لمصر، أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان، كان هو «المقتلة» التي أدمت الجسد الاسرائيلي الأمر الذي فرض على القادة الاسرائيليين سياسيين وعسكريين ضرورة الخروج السريع من هذه المقتلة.

وبصرف النظر عن المناورات والمماحكات السياسية والحزبية داخل الحكومة الاسرائيلية بشأن شروط الانسحاب وتفكيك المستوطنات «المستعمرات» اليهودية في غزة - 21 مستعمرة تضم 7500 مستعمر - يبقى أن الخيار الاستراتيجي لشارون هو التعجيل بالهروب من هذه المنقطة قبل ان تتزايد الخسائر تماما كما فعلت «إسرائيل» من قبل حين انسحبت من جنوب لبنان... في الحالين يظل الانتصار عنوانا للمقاومة الوطنية الباسلة ورمزا انسانيا لها.

الجديد في المخطط الشاروني للانسحاب من غزة هو دخول مصر أولا، ثم الأردن تاليا، على الخط، ولا نتصور ان هذا الدخول يعمل على ملء فراغ سينتج في غزة، او القيام بمهمات حفظ الأمن لـ «إسرائيل» أو تكبيل قوى المقاومة الفلسطينية، ذلك ان الناحية المبدئية تقول بضرورة قيام مصر والأردن وخصوصا بحكم علاقاتهما القريبة مع غزة والضفة وبحكم الجوار الجغرافي والتلاحم السكاني، بدور رئيسي في الوصول الى الهدف الاستراتيجي وهو قيام دولة فلسطينية متصلة على الأرض التي احتلها العدو الاسرائيلي بعد عدوان 1967، وفقا للمرجعيات الدولية.

لكن ذلك كله يثير كثيرا من المخاوف وكثيرا من المحاذير وعلى رغم ان المبادرة المصرية المنشورة تقوم على أساس المساعدة أو تأهيل وتدريب قوات الأمن الفلسطينية في غزة - والشيء نفسه بالنسبة الى الأردن - فإن الخوف يكمن في استدراج مصر خصوصا لحقول الرمال المتحركة، اذا ما جاءت لحظة يمكن ان تصطدم قوات أو خبراء مصريون بفصائل المقاومة الفلسطينية لأي سبب.

وبقدر ما يمكن ان تكون هذه اللحظة مريرة وقاسية يجب ألا تقع فيها مصر أو غيرها من الدول العربية بقدر ما يمكن ان تكون لحظة السعادة البالغة لكل اسرائيلي، نفطن إلى ان هدف شارون الاساسي من هذه الخطة الجديدة هو استدراج مصر الى غزة والأردن الى الضفة، لتعريب القتال أو الصدام المحتمل... مرة أخرى نحذر من ذلك ونأمل ان تعي الاطراف العربية كافة ضرورة التفرقة بين دفع «إسرائيل» إلى الانسحاب من أي أرض محتلة وتدعيم السلطة الفلسطينية في إضفاء سيطرتها الشرعية على هذه الأرض، وبين الوقوع في شراك الخداع وحبائل الكمائن الاسرائيلية.

هذه واحدة

أما الثانية، فتبدو أكثر غرابة وأعمق شذوذا...

ونعني ان مخطط شارون للانسحاب الاحادي الجانب من غزة، هو أمل طويل، وطبقا لشروط اسرائيلية مشددة يمثل الجزء الاول من المناورة الكبرى، بل قل هو الكمين الاول في طريق الالغام.

أما الكمين الثاني الذي لايزال جنينا فهو مخطط اقامة الدولة الفلسطينية الكرتونية في غزة فقط، طالما ان هناك الحاحا دوليا واصرارا عربيا ونضالا فلسطينيا من أجل هدف الوصول لدولة فلسطينية، وقد تتنازل «إسرائيل» مستقبلا عن بعض المناطق المهمشة في الضفة الغربية، لتلحق بدولة غزة عن بعد، من دون تواصل جغرافي وتكامل سكاني.

ويلفت النظر هنا الترحيب الأميركي الشديد بالكمين الاسرائيلي الاول الا وهو مخطط شارون للانسحاب المشروط من غزة ثم يلفت النظر ثانيا ان كثيرا من مراكز الدراسات ودوائر صنع القرار الأميركي بدأت منذ فترة دراسة الكمين الثاني ومدى قابليته للتطبيق في المستقبل تطبيقا «لرؤية الرئيس بوش» في اقامة دولة فلسطينية الى جوار «إسرائيل» حتى لو كانت في غزة فقط وفق الرؤية الاسرائيلية الشارونية.

ولعل ذلك يذكرنا بما جرى قبل عشر سنوات، حين رعى البيت الأبيض الأميركي اتفاقي أوسلو بين «إسرائيل» والفلسطينيين عامي 73 و1975 حين خرج شعار «غزة - أريحا أولا» وساعتها قلنا وكتبنا ان الخوف من ان تكون غزة - أريحا أولا وأخيرا وها هو الوقت قد جاء لنرى الموقف قد تيبس أوكاد عند غزة فقط أولا وأخيرا.

المهم ان ترويجا سياسيا وأكاديميا واسعا يجرى الآن في الآفاق الأميركية والأوروبية بل بعض العربية لمشروع الدولة الفلسطينية في غزة أولا وأخيرا ليس فقط بهدف جس نبض الاطراف المعنية وخصوصا العربية بل ايضا دراسة مدى تطبيق المشروع على ارض الواقع وضمان امكانات نجاحه واستمراره... استمرار دولة كرتونية فلسطينية مزدحمة بالسكان فوق شريط ارض ضيق للغاية، دمرت «إسرائيل بوحشية رهيبة كل بنيانة الاساسية وحولته الى «محرقة» عصرية جعلت أحد الوزراء الاسرائيليين يصرخ بان ما فعلته دبابات وجرافات «إسرائيل» في غزة ورفح يذكره بما روته له جدته عما فعلته قوات النازي من محارق هائلة «هولوكوست» في اليهود في أوروبا.

الآن... ما الكمين الاسرائيلي الجديد؟

على مدى السنوات الثلاث الماضية التقي فكر الاكاديمي المخطط العسكري استاذ الجامعة العبرية بالقدس «يوشع بن آريه» مع » مستشار الأمن العسكري في إسرائيل» اللواء احتياط «جيورا يلاند بشأن ان الحل التاريخي لتنارع الطرفين الاسرائيلي الفلسطيني على مساحة صغيرة من الأرض هي فلسطين يكمن في اقناع الفلسطينيين - اجبارهم - والعرب والعالم بقبول دولة مستقلة في غزة، مع التنازل عن معظم الضفة الغربية المزدحمة الآن بالمســـتوطنات اليهوديـــة وأكثر من مئتي مستوطنة والتي لن تجد في «اسرائيل» من يقبل التنــازل عنــها!

يقوم مشروع - كمين - يوشع وايلاند على المحاور الرئيسية الآتية:

1 - تقدم مصر شريطا أرضيا موازيا لحدود غزة، ليضم اليها بهدف توسيع دولة غزة بحيث تضم نحو 600 كيلومتر مربع من الارض المصرية حتى العريش (عاصمة سيناء الشمالية) وبذلك تقوم دولة لها مساحة جغرافية تسمح باستيعاب اللاجئين الفلسطينيين الى جوار الغراويين وتقام فيها بنية اساسية عصرية وخصوصا الميناء الضخم في العريش وخط سكة حديد ومناطق صناعية وتجارة حرة.... الخ.

2 - تقوم «إسرائيل» بتعويض مصر بمساحة 200 كيلومتر مربع في النقب قبالة منطقة «الكونيتك» المصرية في سيناء وهي منطقة صحراوية خالية من الاستيطان الاسرائيلي، ما يسمح لمصر بممرات ارضية تربطها بالاردن والسعودية وتساعد على الرواج التجاري والاقتصادي.

3 - مقابل ذلك كله يتنازل الفلسطينيون - وكل العرب - عن معظم الضفة الغربية، وخصوصا المزدحمة بالستعمرات الاسرائيلية لكي تنضم هذه الى دولة «إسرائيل» فتحقق الأمن لجميع الاسرائيليين.

4 - تتعهد «إسرائيل» والجماعات اليهودية في العالم بحث الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية والصناعية في العالم على دعم وتمويل هذا المشروع وعلى ضخ نحو 20 مليار دولار فورا لبناء هياكل الدولة الفلسطينية في غزة الموسعة لتحل مشكلة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.

5 - لم تعد مبادئ تبادل الأراضي بين الدول فكرة مزعجة فقد سبق طرحها بين مصر و«إسرائيل» خلال مفاوضات كامب ديفيد، وان رفضتها مصر تماما وسبق طرحها بين الفلسطينيين والاسرائيليين منذ اتفاقات اوسلو، بل سبق تطبيقها بين السعودية والأردن، حين تم تبادل الأراضي بينهما في الستينات لتوسيع الظهير الارضي حول ميناء العقبة!

هذه هي خلاصة ما جمعناه عن تفاصيل المشروع «الكمين» الاسرائيلي الأخطر الذي يجرى الآن ترويجه سياسيا واكاديميا وخصوصا في أميركا وقد نفاجأ به يطرح علنا واعلاميا غدا لتسويقه والضغط من أجل تنفيذه.

حتى الآن على الأقل... أثق بأنهم لن يجدوا فلسطينيا يتنازل عن حقه التاريخي في أرضه ووطنه الذي كفلته القرارات والمرجعيات الدولية أولا، ولن يجدوا ثانيا مصريا واحدا يقبل بالتنازل عن شبر من حدود مصر الدولية المستقرة منذ آلالف السنين، لكنها في النهاية هي الأحلام والمشروعات والكمائن القديمة تتجدد، من حلم «إسرائيل» الكبرى من النيل الى الفرات الى مشروع طرد كل الفلسطينيين الى الأردن شرقا والى سيناء غربا وتصدير ازمتهم الى العرب.

لذلك نظل نحذر من الكمائن الاسرائيلية المتتالية التي تبدو أحيانا براقة على السطح خداعة قاتلة في الأعماق وما انسحاب شارون المشروط من غزة الا واحدا منها وما مشروع دولة غزة الموسعة في سيناء الا ثانيها اما ثالثها وعاشرها فما زالا وراء ظلال الأكمة!

خير الكلام

يقول ابوالعلاء المعري:

إذا قلت المحال رفعت صوتي

وان قلت اليقين أطلت همسي

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً