العدد 684 - الثلثاء 20 يوليو 2004م الموافق 02 جمادى الآخرة 1425هـ

دلالات ونتائج المبادئ التي قررتها المحكمة الدستورية (3 من 3)

قراءة في أولى الدعاوى الدستورية

عزت عبدالنبي comments [at] alwasatnews.com

تناولنا في مقالينا السابقين المبادئ التي قررتها المحكمة الدستورية في مجال رفضها للدفوع المقدمة من دائرة الشئون القانونية بشأن عدم اختصاص المحكمة ولائيا بنظر الدعوى، وعدم قبولها لاتصال المحكمة بها بغير الطريق القانوني، وعدم توافر المصلحة الشخصية المباشرة للطاعن، ونتناول فيما يأتي جوهر النزاع في الدعوى المتعلقة بمدى مخالفة الفقرة السادسة من المادة السادسة من قانون المحاماة لأحكام الدستور.

تمثل جوهر النزاع في الدعوى الدستورية فيما إذا كانت سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي المنصوص عليه في المادة (20/و) من الدستور سلطة مطلقة أم هي سلطة مقيدة بقيود لا يجوز للمشرع أن يتخطاها بما ينال من محتوى ومقاصد حق التقاضي، وعلى نحو يحول بين المشرع وبين إهدار هذا الحق أو تهوينه أو النيل منه سواء بالنقض أو الانتقاص حتى لا يؤدي إطلاق سلطة المشرع في هذا التنظيم إلى مصادرة حق التقاضي وتقييده.

وتمثل دفاع الطاعن في النقاط الرئيسية الآتية:

1- إن الرقابة على الشرعية الدستورية يجب أن تكون متوازنة بحيث لا تتراخى على نحو يعطل أهدافها، ولا تتجاهل الاتجاهات العامة التي نحاها وقصدها المشرع لتحقيق العدالة، ولا تتوانى عن إبطال النصوص الغريبة التي تهدر الحقوق الدستورية أو تنقص منها بإهدار ضماناتها، وبمقارنة نقص الفقرة السادسة من المادة السادسة من قانون المحاماة بالاتجاه العام للمشرع البحريني نجد أن ما قرره هذا النص من نهائية الحكم الذي يصدر بعد درجة واحدة من التقاضي في التظلم من رفض القيد بجدول المحامين هو النص الوحيد الذي يقرر التقاضي على درجة واحدة في القوانين السارية بمملكة البحرين التي قررت مبدأ التقاضي على درجتين أيا كانت قيمة الدعوى أو قدر العقوبة المحكوم بها الأمر الذي يجعل النص المطعون بعدم دستوريته غريبا عن الاتجاه العام للمشرع البحريني.

2- إن السلطة التي يملكها الشرع في مجال تنظيم الحقوق مقيدة بأن تكون منصفة ومبررة، وفي الحدود التي تقتضيها مصلحة عامة لها ثقلها تبرر التقاضي على درجة واحدة، وأن تحكم هذا التحديد أسس موضوعية، وألا يؤدي استعمال هذه السلطة إلى تقييد حق التقاضي أو التأثير في محتواه، وأن يوفر المشرع الضمانات الكافية لتحقيق العدالة في استخدامه لهذه السلطة، وبتطبيق هذه المبادئ على نص الفقرة السادسة من المادة السادسة من قانون المحاماة نجد أنها افتقدت المصلحة العامة التي يمكن بها تبرير قصرها التقاضي على درجة واحدة ذلك أن المنازعة الناتجة عن رفض القيد بجدول المحامين ليست لها ظروف خاصة تتطلب السرعة في حسمها وليست من المنازعات قليلة الشأن أو غير ذلك من الاعتبارات.

3- إن الأصل في النصوص القانونية أنها تعتبر مجرد وسائل يتدخل بها المشرع لتحقيق أغراض بذاتها يتوخى ضمانها فإذا انفصم اتصال هذه النصوص بأهدافها أو كانت الأغراض التي تتوخاها غير مشروعة شابها عيب مخالفة الدستور، وبتطبيق هذا المبدأ على النص المطعون بعدم دستوريته نجد أنه افتقد هدفه المشروع كوسيلة تدخل بها المشرع لتنظيم حق التقاضي في الخصومة الناتجة عن رفض القيد بجدول المحامين وأصبح من المتعذر ربطه بأغراض مشروعة ومحددة يتصل عقلا بها ومن ثم افتقد دستوريته.

4- إن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم إعوجاجها، بل هي أوثق اتصالا بالحقوق التي تتناولها في مجال إثباتها أو نفيها ليكون مصيرها عائدا أصلا إلى انغلاق هذه الطرق أو انفتاحها، وبتطبيق هذا المبدأ على النص المطعون بعدم دستوريته نجد أنه أغلق الطريق أمام التثبت والتأكد من الحق المدعى به، بل أصبح أداة لتحقيق الظلم لمخالفته مبادئ القانون الطبيعي التي يستمد منها قانون المحاماة قوته الملزمة.

دفاع دائرة الشئون القانونية

تمثل دفاع دائرة الشئون القانونية في هذا الشأن فيما يأتي:

1- إن مدى حق التقاضي يقرره القانون ولا ينال من هذا الحق أو يناقض الدستور قصر التقاضي على درجة واحدة بل يدخل ذلك في إطار السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق طالما أن هذا القصر قائما على أسس موضوعية تمليها طبيعة المنازعة وخصائص الحقوق المثارة وكانت الدرجة الواحدة محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي من حيث تشكيلها وضماناتها والقواعد المعمول بها أمامها وكان المشرع عهد إليها بالفصل في عناصر النزاع جميعها الواقعية منها والقانونية.

2- إن الطعن بعدم دستورية الفقرة السادسة من المادة السادسة من قانون المحاماة لجعلها التظلم من قرار وزير العدل برفض القيد بجدول المحامين على درجة واحدة من التقاضي هي محكمة الاستئناف العليا المدنية لا يستقيم إلا إذا كان الحق في التقاضي على درجتين هو من الحقوق التي يكفلها الدستور ذاته، أما إذا كان ترتيب درجات التقاضي هو مما ينشئه القانون أو يلغيه فلا يكون ثمة نعي بعدم الدستورية.

3- إن تقرير اختصاص محكمة الاستئناف بنظر التظلمات من قرار وزير العدل برفض القيد في جدول المحامين هو تقدير من المشرع مبناه أسس موضوعية يظاهرها أن هذه الخصومة، تكون بناء على قرار صادر عن وزير العدل بعد عرض الأمر على لجنة مشكلة من رئيس المحكمة الكبرى المدنية وعضوية أحد قضاتها وأحد المحامين وبالتالي فإن الطعن في القرار لازما أن يكون لدى قضاة أعلى من قضاة المحكمة الابتدائية، إذ لا يستقيم الأمر أن يتولى قضاة المحكمة الابتدائية نظر التظلم في قرار صادر بناء على توصية لجنة يرأسها رئيس المحكمة الكبرى.

الرد على دفاع الدائرة

وقد رد الطاعن على دفاع دائرة الشئون القانونية، مبينا ما يأتي:

1- إن المسلم به في منهج القانون المقر أن لكل دولة إطارا عاما يحدد تفسير وتطبيق منطلقات القانون والنصوص التشريعية المطبقة، ولعل أخص ما يوضح هذا الإطار العام، الخصوصية الثقافية والتراثية بالنسبة إلى موضوع النصوص، والأطر العملية والتنظيمية والإحصائية التي تسود في مجتمع معين بحيث يتعين توخي الحذر عند محاولة النقل الآلي لتطبيقات النصوص الوطنية محل البحث. ومن أمثلة ذلك أن المشرع في بعض الدول التي يقل فيها عدد القضاة منسوبا إلى عدد السكان وتزيد كمية الأنزعة التي تعرض على المحاكم، يميل المشرع آنا بعد آن إلى تعديل النصاب النهائي للمحاكم الأقل درجة برفعه حتى يقلل عدد الأنزعة التي تستأنف أمام محاكم الدرجة الثانية، وهكذا يكون التعديل التشريعي قاصدا للنزول عند مقتضيات الظروف الاجتماعية المتغيرة، لذلك فلا يصح أن ينقل هذا التعديل أو يعمل بمقتضاه بطريقة آلية في مجتمع آخر لا توجد به هذه الدوافع العملية التي - تؤثر بلا شك - على الترضية الكاملة لأصحاب الدعاوى بقصرها على درجة واحدة من درجات التقاضي، وعليه فإن التفسير الذي يجب اللجوء إليه عند النظر في نصوص القانون في مملكة البحرين هو التفسير الذي يتبنى ظروف المجتمع البحريني وما يصبو إليه من تقدم عن طريق الشرعية الدستورية والقانونية.

2- إن ما ذهب إليه دفاع دائرة الشئون القانونية من أنه لا يستقيم الأمر أن يتولى قضاة المحكمة الكبرى نظر التظلم في قرار صادر بناء على توصية لجنة يرأسها رئيس المحكمة الكبرى به مغالطة منطقية، ذلك أن اللجنة التي يرأسها رئيس المحكمة الكبرى ليست لجنة قضائية، كما أنها ليست لجنة إدارية ذات اختصاص قضائي، ومن ثم فلا وجه للقول بتسليط قضاة أدنى على قضاء أعلى، بل يتعين القول إن مبدأ المساواة أمام القانون يوجب عدم التمييز بين قرار وزير العدل المشار إليه وغيره من القرارات.

3- إن القول إن للمشرع سلطة مطلقة في تنظيم حق التقاضي وفي قصره على درجة واحدة به مغالطة منطقية، ذلك لأن المشرع البحريني اختط لنفسه خطة مؤداها جعل التقاضي في المسائل الجنائية والمدنية على درجتين أيا كان نوع النزاع أو قيمته، ومن ثم فإنه من الافتئات على قاعدة المساواة أمام القانون أن يحجم المشرع عن تطبيق المبدأ ذاته في نزاع بعينه كأنه انتفاء لغاية هي أبعد ما تكون عن غايات التشريع المقررة.

رد الدائرة

وقد ردت دائرة الشئون القانونية على هذا الدفاع بالقول: إنه لا وجه للنعي على النص المطعون بعدم دستوريته بانطوائه على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء لأنه المقصود بالمساواة في هذا الشأن هو عدم التمييز بين أفراد الطبقة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن نص الفقرة السادسة من المادة السادسة قانون المحاماة أي تمييز من هذا القبيل بين الأفراد الذين تنطبق عليهم أحكامه.

حكم المحكمة الدستورية

وقد قررت المحكمة الدستورية في هذا الشأن ما يأتي:

وإذ إن المدعي ينعى على النص الطعين مخالفته أحكام الدستور الواردة بنص الفقرة (و) من المادة (20)، والفقرة (أ) من المادة (105) منه، إذ تنص الأولى على أن «حق التقاضي مكفول وفقا للقانون»، وتنص الثانية على أن «يرتب القانون المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ويبين وظائفها واختصاصاتها». وتمثل وجه النعي المشار إليه في حرمانه من حق اللجوء إلى درجة أعلى من درجات التقاضي، ولاسيما أن التشريعات درجت على الأخذ بمبدأ التقاضي على درجتين، فضلا عن أن قانون المحاماة ذاته جعل التظلم من القرارات التأديبية الصادرة في حق المحامين على درجتين، ما حدا بالمدعي إلى القول إن ذلك يخل بالضمانة التي كان يتعين - من باب أولى - أن تسبغ عليه كطالب قيد بجدول المحامين المشتغلين.

وإذ إن من المقرر قانونا أن المحكمة، بما لها من هيمنة على الدعوى، هي التي تعطيها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح، وذلك على طلبات رافعها، وبعد استظهار حقيقة أبعادها ومراميها، من دون تقيد بمبانيها - متى كان ذلك وكان النص المطعون فيه ينص في عجزه على أن يكون حكم محكمة الاستئناف في التظلم نهائيا - فتكون حقيقة طلبات المدعي أن النص المطعون فيه يحرمه من التقاضي على درجتين، وذلك بحرمانه من نظر تظلمه - ابتداء - أمام المحكمة الكبرى المدنية (أو أي هيئة قضائية تمثل التقاضي على أول درجة) قبل أن تنظره فيما بعد محكمة الاستئناف العليا المدنية، وما يترتب على ذلك من إخلال بحقه في التقاضي من ناحية، والتمييز التحكمي المخالف لمبدأ المساواة بينه وبين غيره من المتقاضين الذين يتمتعون بحق التقاضي على درجتين من ناحية أخرى.

وإذ إن الأصل في سلطة المشرع في تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي - هو إطلاقها، ما لم يكن الدستور فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة، باعتبار أن جوهر هذه السلطة هو المفاضلة بين البدائل التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، موازنا بينها، مرجحا ما يراه أنسبها لمصالح الجماعة، وأدناها إلى كفالة أثقل هذه المصالح وزنا، وليس ثمة تناقص بين الحق في التقاضي كحق دستوري أصيل وبين تنظيمه تشريعيا بشرط ألا يتخذ المشرع هذا التنظيم وسيلة إلى حظر هذا الحق أو إهداره، ونتيجة لذلك فإن المشرع - في مجال ضمانه حق اللجوء إلى القضاء - لا يتقيد بأشكال محددة تمثل أنماطا جامدة لا تقبل التغيير أو التبديل، بل يجوز أن يختار من الصور والإجراءات - لنفاذ هذا الحق - ما يكون في تقديره الموضوعي أكثر اتفاقا مع طبيعة المنازعة التي يعهد بالفصل فيها إلى محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي من دونما إخلال بضماناتها الرئيسية التي تكفل إيصال الحقوق إلى أصحابها وفق قواعد محددة تكون منصفة في ذاتها وغير متحيفة بالتالي.

وإذ إن مبدأ المساواة قد جعله الدستور أساسا من أسس المجتمع التي تكفلها الدولة، إذ تنص المادة (4) منه على أن «العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة». كما حرص الدستور كذلك على إعمال هذا المبدأ العام في شأن مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات العامة، فنص في المادة (18) منه على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة».

إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون المنصوص عليه في المادتين (4) و(18) من الدستور، والذي تردده الدساتير المعاصرة، بحسبانه ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها وأساسا للعدل والسلام الاجتماعي، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، باعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة التي لا تمييز فيها بين المراكز القانونية المتماثلة

إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"

العدد 684 - الثلثاء 20 يوليو 2004م الموافق 02 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً