العدد 686 - الخميس 22 يوليو 2004م الموافق 04 جمادى الآخرة 1425هـ

إنها تشبه «الأرض اللي عند البراحة»

عود إلى قرارات المنع

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

ربما كان الوضع نفسه، والمأزق نفسه سيتكرران في فهم الفارق في تفاصيل قرار النيابة العامة بعدم نشر أية أخبار أو تعليقات عن «الموقوفين الستة»، وبين القرار رقم (12) لسنة 2004، الصادر عن وزير الإعلام نبيل يعقوب الحمر بناء على قرار النيابة العامة، وهو القرار الذي جرى تعميمه على الصحف يوم الثلثاء الماضي، وما بينهما وهو التعميم الذي أصدره القائم بأعمال وكيل وزارة الإعلام عبدالله عبدالرحمن يتيم.

اللبس هنا بسيط جدا في موضوع الستة (يا له من رقم، لدينا ستة معتقلين في البحرين، وستة معتقلين في غوانتنامو، من أصل 600 معتقل هناك!)، ولكن مع بساطة الفارق فإنه قد يسبب من المشكلات الشيء الكثير، وربما هو أقرب ما لذلك الذي تعرضت له «الوسط» قبل عام ونيف، حينما نشرت إفراج النيابة العامة عن عدد من المتهمين فيما أسمي آنذاك بـ «الخلية الإرهابية»، الأمر الذي لاتزال تدفع الصحيفة ثمنه من الوقوف أمام المحاكم المختلفة الدرجات.

فقرار النيابة العامة ينص على «منع نشر أي أخبار أو تعليقات أو معلومات عن التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في القضية...»، بينما قرار وزير الإعلام، وكذلك ما أصدره القائم بأعمال وكيل الوزارة، قد حذف عبارة «التحقيقات التي تجريها النيابة»، وأصبح المنع مطلقا بالنص «بمنع أية أخبار أو معلومات في وسائل النشر في مملكة البحرين تتعلق بالقضية المذكورة»، أي أنه حتى بعد انتهاء القضية وإصدار الحكم بالبراءة أو الإدانة، على كل أو بعض المتهمين، فلا يحق لوسائل الإعلام تناولها، بحسب منطوق القرار «الإعلامي» والتعميم.

قد يعد البعض هذا الأمر من قبيل المماحكة التي تشبه إلى حد كبير ما دار من حوار في رائعة عقيل سوار، «البراحة» حين يرفض «سنان بن نايم» الامتثال لأمر البلدية/الأمم المتحدة (ربما) في النزاع على قطعة أرض بينه وبين أشقياء وفدوا إلى المنطقة، ليقول لمندوبها: «إنك قلت الأرض اللي (عند) البراحة، ولم تقل الأرض اللي (يمّ) البراحة». إذ إن سقوط أو إسقاط كلمة أو جملة من النص الأصلي، في موضوع حساس كهذا، قد يفيد - كما في الحال المذكورة - بتضييق الأمر على الصحافة بعدم النشر إطلاقا، ومَثل «البراحة» يتصل بما لايزال الوضع راهنا عليه بشأن قرارات الأمم المتحدة في الشأن الفلسطيني، التي يُختلف على تفسيراتها بحسب الترجمات التي تعني في لغة شيئا، وفي لغة أخرى ربما لا تعنيه بالضبط، ولذلك فإننا سنختلف في المستقبل على أي من القرارين نستند، قرار النائب العام، أم وزير الإعلام أم على تصريح للوزير نفسه يشرح فيه أسباب هذا المنع، فيعود فيه إلى جزئية «التحقيقات»، ولكن التصريح لا يعدو تصريحا صحافيا وليس بقرار رسمي موقع ومختوم ومتسلسل، فالمرجح أن الحُجية ستظل قائمة للقرار «الإعلامي» وليس سواه.

في المقابل، فإن القارئ للقرارين (النيابة العامة ووزارة الإعلام) يلحظ عبارة من النائب العام، ترجو الوزير إبلاغ القرار «لجميع المسئولين عن وسائل النشر في المملكة»، والمسئولون عن وسائل النشر الوحيدة إلى الآن هم رؤساء التحرير، وتنص المادة الثالثة من المرسوم بقانون رقم (47) لسنة 2002 بشأن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، أن رئيس التحرير «المسئول والمشرف إشرافا فعليا على الصحيفة بمحتوياتها»، وهذا مفهوم إذ ليست لدينا إذاعات أو محطات تلفزة خاصة، أما المحطات الإذاعية والرسمية فهي تتلقى الأخبار الرسمية ولا تصنعها، وبالتالي فهي مأمونة الجانب.

في هذه الحال، فإن «المسئولين» عن وسائل النشر في المملكة هم رؤساء التحرير، الذين - لا شك - عمّموا القرار على محرريهم اتقاء لما يمكن أن يحدث فيما لو خالفوا الأمر، والسعيد من اتعظ بغيره، وها هي ذي «الوسط» عبرة لدرس التناقضات في صلة الوصل بين ما يصدر عن النيابة العامة ووزارة الإعلام من قرارات.

أما التعميم الصادر عن القائم بأعمال وكيل وزارة الإعلام، فينص على أن المنع يختص بـ «وسائل النشر في مملكة البحرين»... حسن، وماذا عن المراسلين الصحافيين لوسائل إعلام لا تصدر في مملكة البحرين كالصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية؟ وماذا عن مراسلي وكالات الأنباء العالمية أو الإقليمية، فهم ليسوا وسائل إعلام في المملكة، إنما هم ممثلون لهذه الوسائل، ومندوبون عنها، وبالتالي، فهم ليسوا «مسئولين» إذ إنهم يقعون في خانة «الصحافي» في تعريف القانون السالف الذكر، ويمكنهم - تبعا لعدم الوضوح هنا - أن ينشروا ما يرشح من المحامين أو المطلعين على القضية، ويكونوا في مأمن من قرار الحظر هذا، فيما تبقى الصحف المحلية مكبلة تتحسر على ما فاتها من موضوعات أملا في أن يزاح عن كاهلها المنع. وهنا نعود إلى تلك السنوات التي تتناول وسائل الإعلام الشأن البحريني - إيجابا وسلبا، معرفة وجهلا، صدقا وكذبا - بينما الصحف تظهر وكأنها غير معنية بما يجري في دارها.

لو قرأ تعميم القائم بأعمال وكيل الإعلام بشيء من سوء النية أو التربص، لعادت الذاكرة بنا إلى تلك «التسريبات» التي تنعم بها الصحف العربية الدولية عن الوضع البحريني، والرسائل المراد إيصالها من خلال هذه الصحف، وكيف تعيّش مراسلون على السبات الطويل الذي لا يصحون منه إلا على هاتف رسمي أو فاكس رسمي، يمرر إليهم ما لا يمرَّر إلى الصحف المحلية، وذلك تحت ذريعة أن هذه الوسائل غير مشمولة بالقرار كونها ليست «وسيلة نشر في المملكة»، أو ربما ينظر إليها على أنها «أرقى» من الصحف المحلية، وصوتها أكثر وصولا إلى العالم.

الأغرب من هذا وذاك، أن تأتي هذه القرارات والتعميمات، بعد أن ضخت جهات رسمية إلى بعض الصحف ما أرادت قوله، وسربت إليها، صورا ومحتويات لما قيل أنه وُجد في حوزة المتهمين، وذلك ليس لـ «شطارة» بعض الصحافيين، ولكن برغبة من جهات رسمية في نشر جانب مما لديها، لتجيير الرأي العام في هذه القضية، ولما انتهت من هذا كله، جاء قرار الحظر ليمنع أي خبر أو تعليق في هذا الشأن.

ومن قبيل المصادفة، أن يكون بهذا الشهر، قد مرت عشر سنوات على القضية التي شغلت بال الرأي العام الأميركي بقصة اتهام الرياضي السابق أيه جيه سمبسون بقتل زوجته وصديقها (يوليو/تموز 1994)، وبالمصادفة أن تعرض إحدى المحطات التلفزيونية فيلما عن هذه الواقعة قبل ليال قليلة، وفيها يتبين نشاط مجتمع ديمقراطي في التعامل مع هذه القضية من وسائل الإعلام كافة، منذ بداية المطاردة المثيرة التي بُثت على المحطات وحتى تبرئة المتهم من جريمة القتل... القاضي قال كلمته هناك ولم يُخشَ عليه من التأثر بما يقال وما تتداوله وسائل الإعلام، بل ونقلت المحاكمة على التلفزيون كونها باتت شأنا عاما، وأصبحت العدالة على المحك، ومن حق الناس الاطمئنان إلى أن لديهم نظاما قضائيا قادرا على الفصل المحايد في القضايا المختلفة، حتى لو كانت جريمة قتل يحدث مثلها العشرات يوميا في ذلك البلد.

إن قضايا تهم الرأي العام المحلي، كقضية جامعي توقيعات العريضة الدستورية، أو المتهمين الستة، أو مسئولين متهمين بالفساد، وغيرها من الأمور، لا يمكن حجبها وتركها للتكهنات والتخمينات، وإذا كان من حق الجهات المختصة الحفاظ على سرية التحقيقات كجزء من عملها، فلم يمنع التعليق على الأمر، وتناوله وتقليبه على أوجهه كافة؟

ستظل المخاوف تتزايد في شأن منع الصحافة من الإدلاء برأيها أو نقل الآراء المتعلقة بقضية ما، ويُخشى تمدد الممنوعات من قضية إلى أخرى، ليغدو أصل الصحافة المنع وليس الإباحة.

من وجهة نظر صحافية بحتة، نحترم القرارين والتعميم، ولكننا نسجل اعتراضنا الشديد عليها جميعا، وعلى ما شاكلها من إجراءات ترمي في النهاية إلى التضييق وكبح الحريات العامة

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 686 - الخميس 22 يوليو 2004م الموافق 04 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً