العدد 692 - الأربعاء 28 يوليو 2004م الموافق 10 جمادى الآخرة 1425هـ

«المعايير المزدوجة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الكلام عن «ازدواجية المعايير» في السياسة الأميركية الدولية بات من الأمور المستهلكة. فإدارة جورج بوش قررت منذ ثلاث سنوات إغلاق هذا الملف والتصرف وفق أسلوب مزاجي (انتقائي) وعدم الاكتراث بالأعراف والمواثيق الدولية.

الكلام عن هذا الموضوع بات مسألة قديمة لا تلقى الانتباه في وقت يبدو فيه البيت الأبيض منشغلا بملاحقة خلايا الإرهاب أو ما يسميه «الشبكة الدولية للحرب الإرهابية». أما مفهوم «الازدواجية» فتحول إلى ايديولوجية مملة لا تحرك الساكن ولا توقف المتحرك. فالإدارة الأميركية قررت السير في نهج لا يكترث كثيرا حتى لاعتراضات الاتحاد الأوروبي ولا قرارات مجلس الأمن ولا حتى تلك المواثيق التي وقعتها واشنطن واعتبرتها قواعد عمل لسلوك الدول.

الولايات المتحدة الآن في صدد تأسيس معايير مختلفة عن تلك المفاهيم السائدة التي أسهمت سابقا في وضعها واقترحتها مرارا على «الدول الصديقة» لتأخذ بها حتى لا تحرج أمام الناخب الأميركي وتضطر إلى تبرير سلوكها في كل فترة. فواشنطن الآن أقلعت عن تلك السياسة التقليدية ودخلت في طور دبلوماسي جديد يعتمد فعلا على «ازدواجية المعايير».

ازدواجية المعايير الآن هي السياسة الأميركية، وهي تشكل العنوان الجديد لدبلوماسية بوش الخارجية. فلم تعد الازدواجية عيبا في السلوك الأميركي وإنما باتت تشكل قاعدة انطلاق لعلاقات واشنطن الدولية.

الولايات المتحدة الآن تعيش في ظل فترة تتحكم فيها المعايير المزدوجة. فهي مثلا تأسف لإعلان حربها على العراق ولا تتردد في الإعلان عن نيتها في الاستمرار في تلك الحرب حتى لو ارتكبت يوميا عشرات المجازر بحق المدنيين بذريعة ملاحقة «شبكات الحرب». فالأسف كما يبدو لا صلة له بنتائج القرار بل بأسبابه. فهي تعتذر عن ضعف الأسباب ولكنها لا تكترث بنتائج تلك الحرب التي سببت وتسبب مقتل عشرات العراقيين يوميا من وسطه إلى شماله وجنوبه.

واشنطن تأسف لخوض الحرب على العراق ولا تتردد في الإعلان أيضا عن نيتها في تأسيس ظروف مشابهة تشجع على خوض حرب أخرى ضد إيران مثلا. واشنطن تأسف عن الحرب ولكنها ترفض الربط بينها وبين النتائج التقويضية التي انتهت إليها وما أفرزته تلك النتائج التدميرية من تفكيك لمنظومة العلاقات الإقليمية وما أثارته من فوضى وعدم استقرار في دول الجوار التي كانت آمنة إلى حد كبير قبل اجتياح الولايات المتحدة بلاد الرافدين.

إعلان الأسف هو بشأن الأسباب والذرائع والأكاذيب التي تحججت بها لإعلان الحرب وليس عن نتائج ذاك العدوان الذي زعزع استقرار المنطقة وفتح الأبواب أمام العنف المجنون الذي لا يميز ولا يفرق. فالعنف الذي بدأ بطرق أبواب دول المنطقة أصيب بعمى الألوان ولم يعد يأبه بالأضرار والخراب والدمار. والمقرف في الموضوع أن إدارة بوش تعتبر نفسها غير مسئولة عن كل تلك التداعيات التي أسفرت عنها الحرب العدوانية. فالإدارة لا تربط بين الأسباب والنتائج وتميز بين حق وآخر، وتتصرف أحيانا كرجل شارع أو لص مسلح يسطو على هذا ويعترض طريق ذاك من دون خوف من العدالة. فالعدالة عند إدارته مجرد كلام وهي التي تقرر بنودها وتحدد فقراتها. وحين قررت العدالة في محكمة لاهاي الدولية ان «جدار شارون الأمني» ليس شرعيا ويجب هدمه لأنه أقيم أساسا على أراضي الفلسطينيين المحتلة، خالفت إدارة بوش العالم كله ورفضت الاستجابة للإجماع الدولي.

العدالة عند طاقمه هي المزاج. والمزاج يتحرك وفق معايير انتقائية تعتمد فعلا ازدواجية مفرطة في عنجهيتها وأسلوبها الفظ في مخالفة الدبلوماسية وما يتفرع عنها من اعراف وتقاليد بذلت المؤسسات الدولية عشرات السنين لتصنيفها قانونيا وتحويلها إلى مواثيق تحدد أصول العلاقات بين الدول.

«ازواجية المعايير» هي الآن سياسة رسمية للولايات المتحدة في عهد بوش. وهي كما تبدو واضحة وليست بحاجة إلى براهين لاثبات التهمة. فالازدواجية موجودة في كل المناطق والتمييز واضح بين دولة ودولة. فهذه يسمح لها أن تفعل ما تريده لأنها متوافقة مع رؤية بوش. وتلك ممنوع عليها التصرف بحرية لأنها غير متوافقة مع رؤياه. فالمعايير التي تتبناها واشنطن الآن ليست دولية بل «بوشية» وما تراه هو الصحيح وغيرها على خطأ، حتى لو كان هذا «الغير» دولة مثل فرنسا وأحيانا ألمانيا وإسبانيا وروسيا والصين... وأحيانا أخرى بريطانيا وهي حليف الولايات المتحدة الاستراتيجي.

بريطانيا مثلا اختلفت أكثر من مرة مع واشنطن على موضوعات حساسة مثل «جدار شارون العنصري» أو إدارة الصراع في «الشرق الأوسط» أو التعاطي مع «الاتحاد الأوروبي». وفرنسا أيضا اختلفت معها في أكثر من مكان آخره الخلاف على تصحيح الوضع في دارفور السودان... ومع ذلك بوش هو بوش.

«المعايير المزدوجة» جوهر سياسة إدارة بوش وهي تتمظهر على مقلبين: محلي وهو الدفع باتجاه عسكرة الاقتصاد، وخارجي وهو الاندفاع باتجاه الحروب. وبين المحلي والخارجي تقف «المعايير المزدوجة» لتشير إلى سياسة واحدة: جنون العظمة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 692 - الأربعاء 28 يوليو 2004م الموافق 10 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً