العدد 700 - الخميس 05 أغسطس 2004م الموافق 18 جمادى الآخرة 1425هـ

الحضارة الإسلامية: من التوازن إلى الانكسار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يعيش العالم العربي/ الإسلامي فترة من الانكسار في توازن الحضارات. هذا الانكسار لم ينشأ من فراغ أو بسبب تفوق الغرب على العرب في ميادين الأخلاق كما تذكر بعض كتب المستشرقين. الانكسار جاء من مجموعة عوامل انتهت بعد تراكم زمني مديد إلى اختلال في موازين القوى.

قبل الاكتشافات الجغرافية وتغيير خطوط التجارة الدولية كان العالم يتكون من مجموعة حضارات متوازنة في قوتها. ونجحت تلك الحضارات في التوافق على صيغ في التعامل حتى في ظل حالات الاصطراع العسكري. فالحضارات سواء تلك المنفصلة (المنعزلة) في دوائر جغرافية كالصين مثلاً أو تلك الممتدة جغرافياً وثقافياً كالإسلام مثلاً كانت في حدود نسبية متعايشة تقيم بين بعضها بعضاً اتصالات ومبادلات وعلاقات تستقر أحياناً وتضطرب في أحيان أخرى... ولكنها كانت في النهاية تغلّب وجه السلم على الحرب، ولا تذهب بعيداً في كسر جوهر ثقافة الحضارة المضادة. فالتوازن الحضاري انتج ما يشبه السلم العالمي الذي كان يُخترق بسياسات الكر والفر العسكرية إلى فترة محدودة ثم يعود التعايش ليحتل موقعه المركزي في العلاقات.

هذا القانون، قانون التوازن الحضاري، استمر إلى نهاية القرن الرابع عشر على رغم تلك الحروب أو الهجمات التي تعرض لها العالم العربي/ الإسلامي من أوروبا (الفرنجة) أو من الشرق (المغول). فتلك الحروب أسست روحية عسكرية جديدة وأنتجت حالات من العداء الديني - الحضاري ولكنها لم تتجاوز حدود التوازن وذلك لسبب منطقي وهو أن الحضارات كانت متعادلة حتى القرن الرابع عشر في كفة القوة. وكانت هناك صعوبة، أو شبه استحالة، تعطي أفضلية كبرى لحضارة من الحضارات أن تنجح في كسر موازين القوة والانتقال من عصر التوازن إلى عصر الغلبة. فالغُلب جاء متأخراً ولم يحصل إلا بعد القرن الخامس عشر.

حتى القرن الخامس عشر كانت قوة الحضارات متوازنة (كر وفر) ولم تنكسر وتتفوق أوروبا إلا بعد ذاك القرن الذي أسس جملة عناصر موضوعية فرضتها ظروف الحاجة والضرورة وأحياناً المصادفة... ليبدأ بعده الهجوم العسكري (الحضاري) وتُجتاح على اثره معظم الديار العربية/ الإسلامية.

حتى القرن الخامس عشر كان التوازن الحضاري هو سيد الموقف. ومن ذاك التوازن تأسست ثقافة الاعتراف المتبادل واحترام الخصوصيات وتقدير وأحياناً الاعجاب بالاختلاف. ومن يراجع كتب المؤرخين والفلاسفة والفقهاء والقضاة فسيلاحظ المسألة الثقافية هذه. فالكل أكد موقع الصين الحضاري، والكل مدح حضارة الهند وأشار بإعجاب إليها، كذلك مدح المسلمون وبتفاوت نسبي وأحياناً بحذر حضارات فارس واليونان والرومان وكل الحضارات التي سادت أو عاشت في الديار الإسلامية قبل الفتوحات. فالإسلام في عهوده الأولى أعطى وأخذ واستفاد كثيراً من التراث الحضاري الممتد جغرافيا والموغل زمنياً ونهل أيضاً من ذاك التراكم الكمي لإبداعات الإنسان من إدارة وتنظيم وصناعة وفكر وفن. ولم يتردد الإسلام في أخذ ما هو مفيد وإهمال ما هو ضار. كذلك أخذ المسلمون الكثير من العادات والتقاليد وأضافوا عليها وأحياناً أعادوا انتاجها لتتوافق مع تعاليم الدين. فالإسلام في تاريخه الطويل حافظ على غيره واعترف بالاختلاف وأقره شرعياً وضمن ضوابط.

لم تكن فكرة الإلغاء موجودة. والعالمية لم تتطرف أبداً إلى حد إلغاء الآخر وشطبه من المعادلة، كما ذهبت أوروبا في سياساتها الدولية بعد القرن الخامس عشر. فالحضارات حتى لو تفوقت كانت متواضعة لأنها تقوم على أفكار النقل والحوار والأخذ والعطاء. فالتفوق كان درجة في التقدم وليس سبباً للقضاء على الآخر وإخراجه من معادلة التاريخ. ابن خلدون مثلاً تعرض مراراً في مقدمته لوصف حضارة الروم (المسيحية البيزنطية) وسجل إعجابه الشديد بتلك المباني العظيمة والكنائس الضخمة في روما (المسيحية الكاثوليكية) وبيزنطيا (عاصمة الكنيسة الأرثوذكسية). فهذا الإعجاب يدل على حس التنافس لا على مشاعر البغض والكراهية، كذلك يشير إلى وجود حضارات مجاورة للحضارة العربية - الإسلامية، وهي حضارات متقدمة تضاهي حضارة المسلمين وأحياناً تنافس العرب في نهضتهم ورقيهم آنذاك. فابن خلدون في مقدمته تحدث عن عظمة العمران في مدن المتوسط (المسيحية) وأشاد برقي التنظيم والإدارة وغيرها من نواحٍ إيجابية موجودة عند خصوم المسلمين في وقت كانت الأندلس تتعرض لهجمات الفرنجة وقبل مئة سنة تقريباً من سقوط غرناطة (آخر معاقل المسلمين في إسبانيا) في العام 1492 وهي السنة التي اكتشف فيها كريستوف كولومبوس أميركا.

إذاً لم تكن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة الموجودة قبل القرن الخامس عشر بل كانت الحضارة الأكثر تقدماً على غيرها. وهذا ربما جلب لها الكثير من العداوات والكراهية وأسس لتكتلات عسكرية ومجموعة أحلاف سياسية اتفقت على تطويق الديار المسلمة وإضعافها. فالصراع حتى أيام ابن خلدون (وهو من راقب بدقة وفلسف صعود وهبوط العمران) كان يقوم على توازن القوة ولم ينكسر ذاك التوازن إلا بعد سلسلة تحولات قامت على عناصر موضوعية.

العناصر الموضوعية تأسست تقليدياً على حاجات الدولة في كل حضارة من الحضارات. فالدولة الإسلامية في مجموعها العام كانت تعيش دائماً هاجس البحث عن المياه. فالمياه وتلبية حاجات السكان لها شكلت واحدة من أسس قيام القطاع العام في إدارات الدولة وتشكلت في ضوء تلك الحاجة (الضرورة) سلسلة تنظيمات تركزت على ضرورة البحث عن المياه وإنشاء القنوات والترع والسدود وتجميعها وإعادة توزيعها بإشراف الدولة. هذا النوع من التنظيم (المائي) أسس حلقات من العلاقات تخضع للدولة بأسلوب أفقي ومرن. فالدولة ممتدة بحسب امتداد تلك السلسلة من الحلقات، وهذا منع قيام ذاك التنظيم الهرمي - المركزي (الاتحادي). فالدولة المسلمة هي دولة مركز وأطراف. والأطراف تتبع الدولة من خلال تنظيمات أفقية تتركز وظيفتها السياسية في تأمين الخراج للسلطة (الجباية) مقابل تمتع الأطراف بما يشبه الاستقلال الإقليمي (حكومات محلية). وأدى هذا الامتداد الجغرافي إلى إضعاف دور السلطة المركزية وشجع أنظمة الحكم المحلي على التمرد أو الانشقاق حين تتوافر الفرص السياسية.

هذا التنظيم العربي/ الإسلامي فرضته الحاجة وضغوط الضرورة وتركزها على مسألة البحث عن المياه وترتيب العلاقات وفق نظام من الحلقات التسلسلية الممتدة جغرافياً ضمن علاقات بسيطة ومرنة بين المركز والأطراف.

هذا التنظيم العربي - الإسلامي لم تعرفه دول/ ممالك أوروبا بسبب اختلاف الحاجات التي فرضت ضرورات مختلفة وحلقات متغايرة من العلاقات بين المركز والأطراف. فالتنظيم الأوروبي لجأ إلى المركزية (الاتحادية) وأخضع علاقاته لحاجات البحث عن الطاقة. فأوروبا لا تعاني من مشكلات القحط والتصحّر وشحة المياه بل كانت تكافح طوال تاريخها لتأمين الحاجة إلى الطاقة. لذلك نشأت معظم التجمعات السكانية بالقرب من الغابات (لسد حاجاتها من الخشب) أو بالقرب من مناجم الفحم الحجري (للتدفئة) أو بالقرب من مساقط المياه (لتأمين الطاقة واستخدامها في الحياة الزراعية المستقرة).

قلة المياه في الديار العربية أسهمت في عدم استقرارها التنظيمي - السياسي. بينما كثرتها في أوروبا ساعدت على الاستقرار والتراكم العمراني وأعطت فرصة للممالك للبحث عن مصادر الطاقة لأنها هي الحاجة الملحة (الضرورية) للحفاظ على الاستقرار السياسي والتوازن السكاني.

اختلاف التنظيمات العربية عن التنظيمات الأوروبية ليس سببه اختلاف الدين في الميادين الأخلاقية بل أساس ذاك الاختلاف يعود إلى اختلاف الحاجة (الضرورة). فالحضارة العربية/الإسلامية كانت تبحث عن المياه وتقيم السدود والقنوات والترع، والحضارة الأوروبية كانت تبحث عن الطاقة (وصولاً إلى النفط في عصرنا).

أدى الاختلاف في البحث (بسبب اختلاف الحاجات) إلى نشوء أشكال مختلفة من التنظيمات الإدارية. فاعتمدت الدولة العربية/الإسلامية النظام اللامركزي (التحالف المتساوي) الممتد جغرافياً (مركز وأطراف) وهو ما أدى إلى تشرذمها وتوزعها على مراكز قوى مختلفة. بينما لجأت الدول/ الممالك الأوروبية إلى النظام المركزي (الاتحاد الهرمي) المتمركز جغرافياً الذي يرفض التنوع (التعدد) ولا يعطي فرصة لانفصال الأطراف. وهذا التركز الهرمي - التنظيمي أسهم لاحقاً في قيام دولة قومية مركزية متجانسة قومياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً وجغرافياً. وساعدها التجانس على تطوير دولتها ومصالحها وصولاً إلى صيغة الاتحاد الأوروبي الذي يعاند الآن لاثبات وجوده كمنافس للولايات المتحدة.

الحاجات إذاً حددت نوعية إدارات الدولة وعلاقاتها التنظيمية وجاءت المصادفة (البحث عن خطوط بديلة للتجارة الدولية) التي بدأت بالاكتشافات الجغرافية لتزيد فرص الافتراق الحضاري وتسهل عملية التفاف أوروبا حول العالم الإسلامي. وهذا ما أدى إلى تراجع خطوط تجارة البحر المتوسط لمصلحة تجارة الأطلسي بعد وصول كولومبوس إلى أميركا في القرن الخامس عشر.

بعد القرن المذكور بدأ التفاوت الموضوعي يفترق بين حضارات العالم القديم. فنهضت فروقات كبيرة تأسست على الثروة (النقدية) التي أعقبتها ثورة إصلاحية دينية، ثم اكتشاف آلة البخار (الطاقة) وأخذت مكان آلآت الطاقة المائية، وأخيراً ظهرت بذور الثورة الصناعية التي أعيد استخدامها في تنمية الموارد الزراعية (الزراعة الرأسمالية) وبعدها حصل الانفجار السكاني (الثورة السكانية) التي انتقلت من أوروبا وأخذت تزحف وتستوطن المناطق المكتشفة (الغزو البشري) في أميركا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها.

كل هذه التطورات أدت إلى نوعين من الانعكاسات السلبية على الشعوب التي تأخرت في اللحاق بهذا التقدم النوعي السريع. فمن جهة حصل الاختراق السياسي - العسكري، ومن جهة أخرى شكل تدويل العلاقات وتفوقه في قدراته التدخلية إلى انكسار التوازن الحضاري ونشوء عصر الغلبة. فلم يعد العالم بعد هذه التحولات يعيش عصر الكر والفر بل عصر القوة (الغلبة) التي تفرض شروطها من المركز (أوروبا سابقاً، وأميركا حالياً) على الأطراف (شعوب العالم قاطبة).

الإسلام إذاً لم يخسر المعركة بسبب دين المسلمين. فالخسارة كانت لجميع شعوب الأرض وحضاراتها. والإسلام أيضاً لم ينته دوره. فهناك الكثير من القضايا قالها وبقي لديه الكثير ليقوله. فهذا هو التاريخ، وحكمة التاريخ انه لا يتوقف عند محطة أخيرة في تطوره

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 700 - الخميس 05 أغسطس 2004م الموافق 18 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً