لقد بنت الهند إمبراطورية من وراء صناعة الإسناد للآخر، فحسب أرقام سوفتوير تكنولوجي بارك الهندية، هناك ما يربو على 284 مؤسسة تنشط في حقول صناعة التقنيات المختلفة خلال العامين الماضيين فقط، ما يجعل عددها الإجمالي يصل إلى 1322 مؤسسة.
وبحسب تقارير صادرة عن مؤسسة فروست وسولفان فإن سوق البحث والتطوير في مجالات تقنية المعلومات الهندية ستقفز من 1,3 مليار دولار أميركي خلال العام 2003 إلى 9 مليارات دولار أميركي بحلول العام 2010. وبحسب التقرير ذاته سترتفع قيمة البحث والتطوير في نطاق استشارات صناعة الاتصالات في الهند من 0,7 مليار في العام 2003 إلى ما يزيد على 4 مليارات دولار في العام 2010.
وهذا حول الهند إلى أهم ورش العالم في أسواق الإسناد للآخر. وبحسب تقرير مؤسسة إفرست الأميركية، فإن الشركات من كل أنحاء العالم تضخ إلى سوق الإسناد للآخر الهندية ما قيمته 5 مليارات مليون دولار سنويا.
هذه الصورة البراقة لصناعة الإسناد للآخر الهندية تخفي تحتها بعض العيوب التي يعترف بها رئيس شركة ويبرو (ثالث أكبر شركة هندية مصدرة للتكنولوجيا) عظيم برمجي إذ يقول: «جميعنا يدرك أننا نواجه مشكلة في غاية الأهمية، تلك هي واقع الهياكل التحتية التي لم تشهد أي نمو خلال السنوات الخمس الماضية» ويضيف عظيم قائلا إن شركته التي يملك 48 في المئة من أسهمها «تبحث عن مدن هندية أخرى مثل حيدر أباد وبونا لسد ثغرة البنى التحتية هذه».
هذا التحذير لا يلغي مكانة بنغلور التي لاتزال تحصد ثلث دخل الهند من صادرات خدمات ومنتجات وبرمجيات تقنية المعلومات التي بلغت 4 مليارات دولار خلال العام الماضي.
كذلك لا تخفى على إدارات الشركات الأميركية - التي تلجأ إلى الهند لخفض النفقات مع المحافظة على الجودة - بعض الثغرات التي تعاني منها السوق الهندية. فهاهو بيتر ناغ من لهمان بروذرز الأميركية يشير إلى الكلفة المترتبة على بعد المسافة الجغرافية بين الولايات المتحدة والهند، إضافة إلى الفرق في التوقيت، وفوق هذا كله هناك بعض الجوانب الحضارية التي من بينها، كما يقول أحد مديري الشركات الأميركية «عدم قدرة الفني الهندي على الرفض، وحرصه الشديد على إبداء الموافقة حتى في الحالات التي يدرك فيها بنفسه أن النفي هو الجواب الصحيح».
التنين الصيني يلج أسواق الإسناد للآخر
هذا الواقع الهندي المحفوف ببعض السلبيات تحوط به بعض المخاطر أيضا، ومن بين أهم تلك المخاطر المنافس الأصفر القادم من بكين والتي يتوقع لها البعض حضورا متزايدا في هذه الأسواق. ويستند مثل هؤلاء المبشرين بقدوم الصين على التحولات التي تجري فيها على الصعد كافة ومن اهمها:
1- تحرير القوانين والسياسات الحكومية: فمن أجل ضمان الصين قبولها لعضوية منظمة التجارة العالمية، سارع قادتها في تحرير اقتصادها من الأنظمة الشيوعية التي كانت معمولاً بها.
2- الاستثمار في التعليم الفني والتقني: فقد انتشرت في الصين الكثير من الجامعات والمعاهد التقنية إلى جانب التعليم الأكاديمي التقليدي، فقد انتشرت في ربوع الصين الكثير من تلك المعاهد المتخصصة ذات المناهج المكثفة.
3- عرض قوة عمل ضخمة بأجور زهيدة: إذ لا تتجاوز مرتبات اليد العاملة الماهرة 20 في المئة من مثيلاتها في الدول الصناعية، وتتنافس بشدة مع تلك التي تتقاضاها منافستها في بلد مثل الهند. وبحسب مصادر شركة «اي. ب. إم»، بينما تصل كلفة ساعة مبرمج أميركي خبرته ثلاث سنوات إلى 56 دولاراً أميركياً فإن نظيره الصيني لن تبلغ كلفة ساعة عمله 12 دولاراً أميركياً.
4- النمو الاقتصادي الذي يعم الصين: تشير المصادر الرسمية الصينية إلى أن الاقتصاد الصيني عرف نموا يصل إلى 9,9 في المئة خلال الربع الأول من العام 2003. لكن بعض المدن عرفت وتيرة نمو أعلى من ذلك، فمدينة شنغهاي وصل نموها إلى 12 في المئة خلال شهر أبريل/ نيسان الماضي. هذا النمو ينعش السوق المحلية ويغري الاستثمارات العالمية ما يفتح الأبواب على مصراعيها أمام سياسة الإسناد للآخر من قبل الدول والشركات العالمية.
ويبدو أن الشركات الاستشارية ومعاهد دراسات الجدوى من أمثال غارتنر قد تنبهت إلى الدور الصيني في سوق الإسناد للآخر، فرأينا هذه الأخيرة تقول: «إن سوق الصين الواعدة لن تكون جاهزة تماما قبل العام 2007». وتضيف غارتنر قائلة: «إن في الصين حاليا ما يقارب من 200,000 يد ماهرة متخصصة في مختلف حقول تقنيات المعلومات، تساهم في تصدير البرمجيات، يضاف إليها 50,000 يد ماهرة جديدة تدخل سوق العمل سنويا».
هذا الواقع الصيني المتنامي لا ينبغي أن يخفي بعض العقبات والسلبيات التي تعاني منها العروض الصينية في أسواق الإسناد للآخر الدولية. فهناك حاجز اللغة، مقارنة مع الأميركي أو حتى مع النظير الهندي. وهناك الحاجز الحضاري نظرا إلى العلاقات المتردية بين الصين والغرب لما يزيد على نصف القرن، بسبب العداء بين الرأسمالية والشيوعية.
على أن كل ذلك بوسع الصين أن تتجاوزه إذا أدركنا التوجهات التي تحكم سياسات الصين التي ترغب أن تلج الأسواق العالمية بما فيها سوق الإسناد للآخر بقوة وكفاءة تتيح لها أخذ نصيب من الكعكة يتناسب وحجمها السكاني وثقلها الجيوبولوتيكي. وقد بدت تلوح في الأفق الكثير من علامات نجاح هذا التوجه.
الإسرائيلي القبيح
ويبدو أن شيلوك اليهودي لن يرضى أن يكون خارج الإطار، ولذلك نرى «إسرائيل» تدخل إلى حلبة المنافسة، إذ تصنف «إسرائيل» ضمن الدول التي بحوزتها قوة عاملة في غاية المهارة في برمجة الكمبيوتر. وتصدر «إسرائيل» ما يربو على بليون دولار سنويا من حزم البرمجيات.
كذلك باتت «إسرائيل» من الدول التي تطور البرمجيات وتحصل على ما يربو على بليون دولار أخرى سنويا من تراخيص تلك البرمجيات.
من الطبيعي أن ينعكس عدم الاستقرار السياسي داخل «إسرائيل» سلبا على طموحاتها في اجتذاب الشركات العالمية لإسناد بعض الأعمال لها. لكنها على رغم ذلك تحاول أن تحافظ على مواقعها في تلك السوق، تارة من خلال المنافسة الاقتصادية، وفي أحيان كثيرة من خلال الضغوط السياسية والابتزاز الاقتصادي والمالي باستخدام اللوبي الصهيوني العالمي بكل ما يملك من ثقل مالي وسياسي.
المستهلك العربي
ويبدو أن الصناعة العربية مصرة على البقاء ليس في مقاعد المتفرجين فحسب، بل التمسك بمقاعد المستهلكين. لذلك كله، نرى بعض الصناعات العربية تذهب إلى الهند وباكستان، وأحيانا «إسرائيل» لإسناد بعض الوظائف والخدمات لشركات محلية في تلك البلدان، ثم تبدأ في الاستغاثة لحل مشكلة البطالة المتفشية في صفوف الأيدي الماهرة من أبنائها، التي لا تجد ملاذاً لها سوى الهجرة.
أمام العرب اليوم وخصوصاً دولاً مثل المغرب ومصر والأردن فرصة ذهبية قد لا تتوافر بعد فترة قصيرة لولوج هذه السوق، وعلى العرب اغتنام تلك الفرص لكي لا تمر عليهم مر السحاب
العدد 746 - الإثنين 20 سبتمبر 2004م الموافق 05 شعبان 1425هـ