تمثل سنوات انتفاضة الاقصى، تمازجاً بين زمنين عاشتهما القضية الفلسطينية، إذ كانت حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الاميركية وتداعياتها على الوضع الفلسطيني بمثابة المفصل بين زمنين للانتفاضة، كان الاول منهما العام الاول من عمر الانتفاضة التي انطلقت اواخر العام 2000، أي قبل عام من الحوادث، فيما يمتد الزمن الثاني ثلاث سنوات منذ حوادث سبتمبر وحتى الوقت الجاري.
كان العام الاول (2000 - 2001) من عمر انتفاضة الاقصى، محاولة جديدة في حركة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال مؤيداً بموقف عربي ودولي داعم لنضال الفلسطينيين وسعيهم من اجل الحرية والاستقلال في مواجهة الاحتلال، الامر الذي اعطى الانتفاضة قوة داخلية وخارجية، وضعت «اسرائيل» وسياساتها على المحك، بل يمكن القول، ان انتفاضة الاقصى في عامها الاول، هزت الواقع السياسي في «اسرائيل» واطاحت رئيس حكومتها، وكانت اقرب الى انتفاضة فلسطين في العام 1987، والتي انتجت فيما انتجت مساع دولية لمعالجة القضية الفلسطينية، تمخضت في بعض نتائجها عن اتفاق اوسلو العام 1993 بين «اسرائيل» ومنظمة التحرير الفلسطينية بغض النظر عن محتوى هذا الاتفاق.
غير ان السنوات التالية (2001 - 2004) من عمر الانتفاضة، اتخذت ملامح اخرى، وهو امر لم يكن نتيجة تراجع نضال الفلسطينيين وتضحياتهم في مواجهة الاحتلال، بل كان بسبب المتغييرات الدولية والاقليمية والتي فرضت نفسها على الموضوع الفلسطيني بعد الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من اطلاق الحرب الاميركية على الارهاب، والتي تحولت الى حرب عالمية نتيجة انخراط بعض دول فيها، سواء لتوافق تلك الحرب مع مصالحها على نحو ماهو حال «اسرائيل»، او نتيجة ضغوطات وحملات ابتزاز اميركية، كما حال معظم الدول العربية والاسلامية.
وبطبيعة الحال، فإن هذا التطور، لم يدفع القضية الفلسطينية - والانتفاضة أحد تفاصيلها - الى المراتب الادنى من الاهتمام الدولي والاقليمي فقط، بل دفع دولاً عربية واسلامية الى التنصل من مسئولياتها الفلسطينية تحت حجة الخوف من ان توصف بـ «دعم الارهاب» ذلك ان الولايات المتحدة و«إسرائيل»، ربطت بين الارهاب ونضال الفلسطينيين وخصوصاً نشاطات الجماعات الفلسطينية، وخلصت الى اعتبار الاخيرة «منظمات ارهابية»، وقد ترك هذا التحول ظلاله على مواقف دول كبرى وفاعلة في الحياة الدولية مثل روسيا ودول الاتحاد الاوروبي، فتراجع اهتمامها بالقضية الفلسطينية، وتدنى اهتمامها بما تقوم به «اسرائيل» من عمليات قتل وتدمير للفلسطينيين وممكتلكاتهم، على رغم ان هذه العمليات من اشد ماتعرض اليه الفلسطينيون من دمار في تاريخ صراعهم مع الصهيونية.
واستغلت «إسرائيل» الى اقصى الحدود المتغيرات الدولية والاقليمية في توسيع حربها على الفلسطينيين، وسط دعم أميركي غير محدود لاسرائيل وسياستها والذي عبر عنه وصف الرئيس الاميركي جورج بوش لرئيس وزراء «اسرائيل» ارييل شارون (سفاح غزة 1956، وعراب مجازر صبرا وشاتيلا 1982، والآمر بارتكاب مجازر الضفة وغزة في الاعوام الثلاثة الاخيرة) بانه «رجل سلام»، وهو موقف ترافق مع تحول اميركي واضح ضد القيادة الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات الذي كان لسنوات طويلة شخصية معتمدة في البيت الابيض ممثلاً للفلسطينيين، ثم امتد الامر الى تجاوز السعي العملي الى حلول ومعالجات للموضوع الفلسطيني، وصولاً الى تغييب الموضوع الفلسطيني من الاجندة السياسية الاميركية، كما ظهرت من خلال حملات انتخابات الرئاسة الاميركية.
واذا كانت تلك التطورات، دفعت «إسرائيل» الى اتباع سياسة تدميرية تتجاوز موضوع وقف الانتفاضة الى الحاق اقصى الاضرار بالفلسطينيين وتدمير قدراتهم المادية والبشرية، فقد تركت سياسة «اسرائيل» تحولاً آخر في الواقع الفلسطيني اساسه تدهور مكانة القيادات الفلسطينية، ليس فقط بسبب تنامي ظاهرة الفساد داخل السلطة الفلسطينية وفي اوساط الكثير من القيادات، انما ايضاً في واقع التخبط السياسي والتنظيمي الذي شاع في الواقع الفلسطيني ولدى معظم التنظيمات، ما خلق صعوبات في حصول اتفاقات وتوافقات فلسطينية بشأن ما يمكن القيام به في معالجة الوضع الراهن، ومواجهة التحديات المفروضة على الفلسطينيين في المرحلة المقبلة.
وادخلت هذه التطورات انتفاضة الاقصى في ارباكات سياسية وتنظيمية، ادت الى ضبابية المسار والاهداف، وخلق صعوبات في تقييم ما حصل، وما يمكن ان تتطور اليه الحال في استمرار تضحيات الفلسطينيين في مواجهة «اسرائيل» وفي اطار الرد على اعتداءاتها المستمرة والمتصاعدة، ما يولد اليات متصاعدة في العنف الدموي الاسرائيلي على الفلسطينيين وسط سكوت العالم وتواطؤ القوى والدول الفاعلة فيه.
والواقع ان البنية الشعبية الفلسطينية، على رغم كل ما احاط بها من عنف وتدمير اسرائيليين وترديات في الواقع السياسي والتنظيمي الفلسطيني، حافظت على مستوى مرتفع في التعاطي مع القضية الوطنية سواء من خلال تقوية قدراتها في مواجهة الاحتلال وفي مقاومته سعياً الى الحرية والاستقلال، او من خلال سعيها الى اصلاح الوضع الفلسطيني، بما يعنيه ليس لجهة تحسين احوال الفلسطينيين فقط، انما باعتباره لازماً لتعزيز صمودهم في مواجهة الاحتلال، وكلاهما كان بين عوامل تدفع القيادات الفلسطينية للبحث عن مخارج ما صار اليه الحال. واذا من عمل يمكن القيام به لمعالجة الموضوع الفلسطيني والانتفاضة خصوصاً، فانه يتركز في امرين يكثر الحديث عنهما، اولهما تحقيق اصلاح فلسطيني على ان يكون اصلاحاً جدياً وجذرياً، والثاني هو توسيع دائرة الحوار الفلسطيني في القضايا الاساسية بحيث يشمل الحوار السلطة والمعارضة، كما يشمل الفلسطينيين في الداخل والمقيمين في الشتات، ولاسيما الذين يعيشون في تجمعات كبيرة، كما في بلدان الطوق، وهي مهمات تعزز حضور الفلسطينيين في مواجهة التحديات، وتساهم في الاقتراب من هدفهم في الحرية والاستقلال
العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ