العدد 760 - الإثنين 04 أكتوبر 2004م الموافق 19 شعبان 1425هـ

سليم الافنيش... بدوي في فرانكفورت

عندما يدخل سليم الأفنيش إلى قاعة تغص غالبا بجمهور لم يتعرف عليه ولم يعشه بعد، لسرد حكاية أو أكثر من حكاية، يستقبله هؤلاء بترحيب مهذب متحفظ، هو غالبا مزيج من الفضول والترقب. ثم يخيم الصمت والهدوء فجأة على القاعة وتبدأ مرحلة الانتظار. ولكن هذا الوضع لا يدوم عادة إلا لحظات، إذ سرعان ما يبدأ سليم بالحديث: تحية جمهوره الألماني، بألمانية يتقنها ويتحدثها بطلاقة، على رغم اللكنة الخفيفة التي تشوبها وتدل على أن صاحبها ليس من أصل ألماني. ثم البدء بسرد حكاية من الحكايات التي وردت في أحد الكتب التي أصدرها. هي كالعادة حكاية عن بدو فلسطين الذين ينتمي إليهم ومن الطبيعي أن طريقة سرده الحرة، التي لا يستند فيها إلى الكتاب، تجعله يروي القصة نفسها بطريقة أخرى كل مرة، وبحرارة مختلفة تعطيها طابعا جديدا. وسرعان ما يستحوذ الراوي على اهتمام الجمهور، ثم على قلبه. فهو ينقله وبسرعة عجيبة غير مألوفة، إلى عالم آخر. عالم سحري غامض بعيد قريب، كله إنسانية وحركة وعواطف وحنين، عالم يسميه الكثيرون في الغرب بحق أو دون حق: الشرق.

سليم يملك موهبة نادرة، موهبة سرد القصص والحكايات الجميلة المعبرة والمؤثرة التي يشبه بعضها الأساطير وأبدعتها مخيلته ببراعة تكاد لا تضاهى. ولعل الطريف في الأمر أن حياته نفسها تشبه أسطورة... حكاية من حكاياته. ولد سليم الأفنيش في صحراء النقب ابنا لشيخ عشيرة كبيرة، هي عشيرة الأفنيش، التي تنتمي إلى قبيلة التياهة، التي استوطنت في جنوب فلسطين منذ عقود طويلة. وقضى طفولته ومطلع صباه وهو يرعى جمال أبيه الشيخ محمد، الذي زار المدرسة يوما واحدا فقط في حياته. سر ذلك أن الطفل محمد وجد بعض ما شاهده في المدرسة شيقا طريفا مثيرا للضحك أحيانا. ولكن ضحكه هذا لم يلق طبعا إعجاب أستاذه، الذي زجره وأنبه وصفعه. فغادر هذا المدرسة وقد أقسم على عدم العودة إليها. ولعل تجربته هذه هي التي جعلته لا يجبر أولاده على الذهاب إلى المدرسة، فيما بعد، وكان منهم ابنه الأكبر الشيخ سليمان، الذي توفاه الله في هذه الأثناء، وسليم طبعا.

ولكن عندما اكتشف الشيخ سليمان أهمية العلم وضرورته، بعد أن بدأ العصر الحديث والبيروقراطية يغيران من حياة البدو، أسس بنفسه مدرسة في مضارب العشيرة في العام 1962. وكان من أوائل من زارها أخوه الأصغر سليم الذي كان في الرابعة عشرة آنذاك. فدرس أصول القراءة والكتابة على يد أستاذ قدير في دورة دراسية مكثفة استغرقت عشرة شهور، اكتشف سليم خلالها شغفه بالعلم والمعرفة وتعطشه إليهما.

فذهب إلى الناصرة وتابع الدراسة فيها إلى أن حصل على الشهادة الثانوية العام 1971 وكان عندها في الثالثة والعشرين من العمر. ولكن هذا كان الخطوة الأولى فقط وإن كانت الحاسمة في حياته. فقد سافر إثر ذلك إلى انجلترا لمتابعة الدراسة في كلية برينستون في لندن ويقول سليم عن ذلك: كان من المقرر آنذاك أن أدرس الحقوق وأصبح محاميا، لأن قبيلتنا كانت في ذلك الحين تخوض نزاعا قضائيا مع قبيلة أخرى. لكن سليم بدأ بدلاً من ذلك بدراسة علم الشعوب والاجتماع والنفس وبعد عام من إقامته في لندن قرر الانتقال إلى مدينة هايلدلبيرغ في ألمانيا وتابع تخصصه في جامعتها الشهيرة وهو يعيش منذ العام 1973 في هذه المدينة التي أصبحت موطنه الثاني مع الزمن.

وبعد تخرجه عمل بين العامين 1984 و1989 في قطاع تربية البالغين وتعليمهم قبل أن يتفرغ نهائيا للكتابة وانكب على إحياء الأمسيات وإلقاء المحاضرات والتعريف بالثقافة والتراث العربيين. وقد قطع في الواقع شوطا طويلا في هذا المجال منذ ذلك الحين. فقد صدر له منذ أن بدأ الكتابة في العام 1986 خمسة كتب كان أولها (زوجات جدي الثمانية) الذي استرعى في البداية، لشاعريته الكبيرة، وجدية طريقة السرد فيه وخلوه من كل تصنع في الوقت نفسه، اهتمام المهتمين بهذا النوع من الأدب. وهذا الكتاب يتضمن ثماني قصص يحاول الأديب فيها شرح وضع المرأة ومنزلتها في المجتمع البدوي.

أما كتاب (تاجر البخور) الذي يحتوي على خمس حكايات، فيعتبره المؤلف مدخلا لتعريف القارئ على التراث البدوي في المنطقة المذكورة. والكتاب يروي قصة حب سالم وثريا، وهما من عشيرتين مختلفتين، يجمع بينهما موسم الحصاد، ثم يجبرهما انتهاؤه على الافتراق إلى الموسم القادم. ولكن الجفاف الذي كان سالم يخشى قدومه، يحل فعلا، فيهلك الزرع والضرع، ويطيل من فراق الحبيبين. وبعد سنتين من الانتظار يشعر سالم بأن شوقه إلى حبيبة قلبه بدأ يفوق شوق الأرض إلى المطر. فيقرر التنكر كتاجر بخور، ويبدأ بالتجوال بحثا عن ثريا.

ولكن الكتاب يتطرق أيضا إلى الطبيعة واحترام البدوي المتأصل لها كمورد لرزقه وحياته. فإذا اكتشف مثلا أن وجوده في منطقة ما يضر بالبيئة، يرحل عنها إلى أن تستعيد قواها ونضارتها. ولعل أهم كتب سليم الأفنيش وأبعدها أثرا إلى الآن هو كتاب (الجمل المتمرد). وهو أكثر أعماله تطرقا للسياسة كما يقول سليم الذي هو ضمن أدباء المهجر الألماني الذين سينضمون إلى أدباء من الوطن العربي للمشاركة في فعاليات معرض فرانكفورت الدولي للكتاب. ويتحدث كتاب (الجمل المتمرد) عن القضية الفلسطينية وتطور أوضاع البدو وحياتهم في صحراء النقب منذ شق قناة السويس وما تبع ذلك من حوادث أهمها الاستعمار البريطاني في فلسطين ثم تأسيس «إسرائيل» على أرضها ظلما. الكتاب مليء بالنقد والسخرية اللاذعة وبالمفارقات التي يصعب على العقل تصورها يظهر عبثية الحدود وعدم جدواها ولا إنسانيتها لا بل وآثارها المفجعة.

وهو يذكر بأحاديثه كمثال على ذلك انهيار الأنظمة والحدود في دول أوروبا الشرقية وبأن على الجميع اليوم تحمل تبعات هذه الحدود التي فرضت بالقوة. ولكن لنعد إلى (الجمل المتمرد). إنه يروي قصة مأسوية في واقعها تجبر على الابتسام غالبا وعلى الضحك أحيانا وكأن لسان حاله يقول: شر البلية ما يضحك. يتحدث الكتاب عن تأسيس مدرسة خصيصا للحمير والجمال والعنز لتعليم هذه الحيوانات احترام الحدود التي نشأت فجأة وعدم خرق القانون بتجاوزها. وفي حين يظهر الحمير قدرتهم المفاجئة بصورة لم يتوقعها أحد يعجز جمل أبيض جميل في عنفوان الشباب، عن مقاومة إغراء حقل مليء بثمار الأرضي شوكي اليانعة يقع في الطرف الإسرائيلي.

فيتجاوز الحدود ويقبض عليه الإسرائيليون ويحيلونه إلى المحاكمة. وتبلغ السخرية ذروتها عندما يكتشف في المحاكمة أن كلمات مثل الحدود والسجن ليست معروفة في لغة الجمال. يقدم سليم الأفنيش الحل الممكن للمشكلة في قصته الساخرة ذات المغزى العميق جدا، من خلال الصداقة التي تنشأ بين الشاب عبدالله، الذي يقبض عليه لتجاوزه الحدود سرا، وبين حارسه الإسرائيلي في السجن سامي. إنه يصف فيها عواقب الحدود الوخيمة بالنسبة إلى الطرفين العربي والإسرائيلي.

ولكن خصوصاً بالنسبة إلى البدو، الذين تصبح حضارتهم مهددة بالانقراض، بسبب إجبارهم على الاستقرار في مكان ما، وعدم تمكنهم من التحرك بالحرية التي ألفوها منذ آلاف السنين. باختصار، هذا الكتاب دعوة لتجاوز النزاعات العقائدية والقضاء على الحدود الحقيقية منها والمزروعة في الرؤوس ويدعو إلى التبادل الثقافي الذي لا يعرف حدود. وهناك كتاب (أميرة) يحكي قصة فتاة بدوية رائعة الجمال اسمها أميرة، يحاول أربعون شابا خطب ودها والزواج منها عند بلوغها سن الزواج ولكنها تقرر بعد طول تفكير الزواج من ذلك الشاب الذي يقص عليها أجمل حكاية ويبعث الدفء في قلبها بقصصه الفياضة ويزيد من ليالي السمر في حياتها.

بعد طول زمن الغرب هل يشعر سليم أنه عربي أم ألماني؟ قال ردا على ذلك: اشعر أنني وسيط بين الحضارتين، أي بين الشرق والغرب وأضاف منبها: ولكن من خلال أصلي وانتمائي إلى التراث البدوي الفلسطيني لأن قلبي ما زال في مكانه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً