العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

هيئة الاتحاد الوطني بين رؤيتي الباكر وبليغريف

دروس بحاجة إلى البحث

مازالت هيئة الاتحاد الوطني التي تأسست في منتصف الخمسينات من القرن الماضي بعيدة عن إنصاف التاريخ، فهي من ناحية تعتبر تنظيماً سياسياً دخيلاً عن النظام السياسي البحريني، كما تصوره أحياناً أدبيات السلطة تاريخياً، وفي نواح أخرى، تصور «الهيئة» على أنها تشكيل وطني جاء ليعبر عن مطالب الشعب الحقيقية في تلك الحقبة الزمنية، وليؤكد رفض المجتمع المحلي لأية فتن طائفية من شأنها المساس بوحدته الوطنية طبقاً لما كانت تقوم به سلطات الاستعمار البريطانية آنذاك.

ومع ذلك، فإنه الأدبيات التاريخية أو السياسية التي تناولت ظروف إنشاء وتأسيس «الهيئة»، والدور الذي أدته في النظام خلال الخمسينات، مازالت نادرة وغير متوافرة، وخصوصاً الوثائق والمراسلات الحكومية، وأبرز الأدبيات التي يمكن اعتبارها مصدراً أساسياً للتعرف على هذا التنظيم السياسي كتابين مهمين هما كتاب عبدالرحمن الباكر المعنون بـ «من البحرين إلى المنفى: سانت هيلانة»، وكتاب مذكرات السير تشارلز بليغريف، المعنون بـ «العمود الشخصي» الذي كتبه في نهاية حياته، وقد حظي الكتاب الأخير بترجمتين عربيتين من اللغة الإنجليزية على يد المترجم البحريني مهدي عبدالله، والترجمة الأخرى التي قامت بها الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وتعد الأحدث كونها صدرت في العام 2000. وعلى رغم هاتين الترجمتين لمذكرات بليغريف، فإن هناك حوادث ووقائع لم ترد في الترجمتين بسبب الظروف التي مرت بها البلاد سابقاً، وحالت دون تناولها بحرية، ولكن يمكن من خلالهما أن يجد الباحث أو القارئ العادي ضالته في معرفة الوقائع التي تزامنت وتأسيس الهيئة، ويحدد في ضوء ذلك وجهة نظره أو يبدي تحليلاته الخاصة.

إنا أنه من خلال قراءة معمقة لتاريخ هيئة الاتحاد الوطني عبر كتابات الباكر وبليغريف بترجمته الجديدة، والقيام بالمقارنة يمكننا الوقوف على عدة حقائق واستنتاجات توضح طبيعة تشكيل «الهيئة» والدور الذي قامت به وعلاقاتها مع مختلف القوى السياسية والسلطة.

 

ولكن في البداية قبل المقارنة، لابد من الإشارة إلى الظروف التي أدت إلى بلورة رؤى الباكر وبليغريف، وأعطت هذه الانطباعات. فالباكر حسبما ذكر الباحث مفيد الزيدي في ترجمته له كان من الشخصيات الوطنية الإصلاحية في البحرين، ناضل من أجل إجراء إصلاحات في المجتمع والدولة، وترسيخ العمل البرلماني، وتشكيل النقابات العمالية، ووضع حد للهيمنة البريطانية، وإنهاء الصراعات الطائفية، وتوحيد الحقوق الوطنية. وكان من العمال النشطين في صفوف الحركة العمالية وخصوصاً في صفوف عمال النفط. وقاد الإضرابات العمالية ضد الشركات الأجنبية في الخمسينات فألقي القبض عليه، وفي إلى جزيرة سانت هيلانة في العام 1956.

أما السير تشارلز بليغريف طبقاً لترجمة من آل خليفة فقد ولد في سويسرا في العام 1894 وتلقى تعليميه العالي في كلية بدفورد ولكنلن بجامعة أكسفورد. ثم التحقق بالجيش البريطاني في السودان وعمل بمصر وفلسطين، وكان الأوروبي الوحيد في واحة سيوة بالصحراء الليبية على مدى عامين. وطوال واحد وثلاثين عاماً، بدءاً من العام 1926 إذ عمل مستشاراً مالياً لحكومة البحرين، وكان من أهم الشخصيات السياسية المؤثرة في البلاد، إلى أن غادر البحرين في 18 أبريل/ نيسان 1957.


ظروف التأسيس

من المهم معرفة ظروف البحرين في الفترة القصيرة التي سبقت تأسيس «الهيئة»، إذ يشير الباكر إلى أن البلاد كانت تعاني من نار الطائفية التي أشعلها الاستعمار البريطاني في فتنة محرم 1953 والتي أدت إلى استمرار أجواء التوتر الطائفي في المجتمع بعد ذلك. معاتباً فئات عدة من الشباب لانسياقها وراء الطائفية وخصوصاً شباب المحرق، وانتشار الإقليمية (المناطقية) بين شعب البحرين. وقد أدى هذا كله إلى قيامه بسلسلة من المبادرات من أجل تخفيف حدة التوتر بين الطائفتين.

أما تشاركز باليغريف فقد صور ظروف البلاد آنذاك بحال عدم الاستقرار جراء مطالبات بعض النخب بالإصلاح، وبسبب توتر العلاقات بين الطائفتين، وبالتهديدات التي كان يواجهها وتهدد أمنه الشخصي. كما أشار أيضا إلى أن هناك تمايزاً في المواقف بين الطائفتين، ففي الوقت الذي دفعت الحوادث وخصوصاً حادث القلعة الشهير إلى إضراب 2000 شخص عن العمل، قام التجار وكبار رؤساء القبائل بتجديد ولائهم للحاكم.

الأسباب المباشرة للتأسيس

بالنظر إلى الأسباب الرئيسية المباشرة لتأسيس «الهيئة»، نجد أن الباكر أشار إلى أن «السياسات التعسفية» التي اتبعتها الحكومة بتوجيهات من بليغريف، كانت هي السبب الرئيسي في قيام «الهيئة» مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1954، بالإضافة إلى ما تزامن معها من مطالبات شعبية بالإصلاح السياسي والاقتصادي. بين الباكر أن من الأسباب التي زادت النقمة الشعبية على الإجراءات الاستعمارية، الإجراء التعسفي الذي اتخذه بليغريف ضده عندما سحب جواز سفره البحريني وجنسيته وخيره في مغادرة البلاد.

بالمقابل، لم يشر بليغريف إلى أسباب واضحة كانت وراء تأسيس «الهيئة»، ولكنه استغرب قيامها، ولاسيما أن بدايات التأسيس شهدت اجتماعات مشتركة بين أبناء الطائفتين في مكان واحد، وهي اجتماعات اعتبرها بليغريف «مثيرة للقلق» لأنها تضم المناوئين للحكومة. كما أنه صورها كامتداد لدعم وولاء خارجي، كما هو الحال بالنسبة إلى مصر والسعودية، مستنكراً اجتماع الباكر مع الإذاعي المصري أحمد سعيد في القاهرة.

الدور الفعلي للهيئة

اعتبر الباكر الهيئة تنظيما وطنيا يضم العناصر الوطنية من السنة والشيعة كافة، ممثلين لجميع القرى والمدن في البحرين. وقد حددت مطالبها في:

  • تأسيس مجلس تشريعي.
  • وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني.
  • السماح بتأليف نقابة للعمال.
  • تأسيس محكمة عليا للنقض والإيرام.

كما حرص الباكر على تأكيد أن تشكيل «الهيئة» لايستهدف تغيير نظام الحكم أو الإضرار بالعلاقات البحرينية البريطانية، وإنما هو لتحقيق مطالب الشعب وتحقيق العدل والإنصاف في المجتمع. ويمكن الإشارة أيضا إلى الأساليب التي اتبعتها «الهيئة» في عملها، إذ انتهجت أساليب الاجتماعات العامة، وتقديم العرائض، وإصدار البيانات، ومحاولة الاجتماع مع المسئولين الحكوميين، والإضراب العام، والاتصالات الخارجية.

في الوقت نفسه، رأي بليغريف أن تشكيل «الهيئة» كان يهدف إلى زعزعة استقرار النظام بدعم من حكومات أجنبية مثل الحكومة المصرية والسورية، التي اتهمها بتقديم الدعم والمساعدة لـ «الهيئة»، لتولي الحكم. ورأى أن قيام «الهيئة» كان يستهدف ضرب شرعية السلطة وتدمير المؤسسات الرسمية، وكذلك استهداف الوجود البريطاني في البحرين، وهو ما اعتبره تحدياً شخصياً له. وعلى رغم ذلك فقد أبدى بليغريف تعاطفه مع بعض المطالب الشعبية إلا أنه شكك في قيادة «الهيئة» واتباعها أسلوب الإثارة الشعبية واعتمادها على شن حملات إعلامية في الصحف العربية.

العلاقة مع الجماهير

حرصت الهيئة من وجهة نظر الباكر على التواصل مع قواعدها الشعبية، كما اهتمت بتفعيل دورها لإرغام السلطة على تحقيق مطالبها، مشيراً إلى تباين الآراء بين أعضاء اللجنة التنفيذية في الأسلوب الذي يجب التعامل به مع القواعد الشعبية لتحقيق المطالب والأهداف من التريث والانتظار إلى التظاهر والإضراب. كما أقامت «الهيئة سلسلة من الاجتماعات والفعاليات الشعبية لاستمرار تفاعل القواعد مع قيادة «الهيئة»، ولاسيما في أوقات المناسبات الدينية. واللافت أن «الهيئة» كان لها تواصل إعلامي مستمر مع القواعد عبر عشرات البيانات السياسية التي كانت تصدرها باستمرار وتعكس الدور الذي تقوم به.

أما بليغريف فلم يتناول علاقة «الهيئة» بالجماهير كثيراً، ولكنه تطرق إلى عدة حوادث عرضية كانت تصب في مصلحة موقفه المعارض لها، كما هو الحال في الشكوى التي قدمها أربعة أشخاص له ضد أحد أعضاء «الهيئة» الذي أعطى أحدهم شيكاً بمبلغ 4500 روربية من دون أن يكون له رصيد مصرفي.

العلاقة مع السلطة

أكد الباكر في طرحه لعلاقة «الهيئة» مع السلطة أنها كانت متأثرة بشكل كبير بعلاقات السلطة نفسها مع الإنجليز، ولذلك لم تلق «الهيئة» ترحيباً منذ بداية تأسيسها، وإنما قوبلت بالرفض وخصوصاً عندما أصرت الحكومة بياناً شككت فيه في شرعية أعضاء «الهيئة» ومدى تمثيلهم للشعب. وهو ما دفع قيادة «الهيئة» لاحقاً إلى الدعوة إلى الإضراب ما جعل المقيم السياسي البريطاني يتصل بقيادة الهيئة فوراً ويتفاوض معها. ولكن مع اعتراف السلطة بالهيئة لاحقاً في مارس/ آذار 1956شهدت العلاقة بين الطرفين حالا من الشد والجذب بسبب تدخلات بليغريف والانجليز حسبما يرى الباكر.

ويبدو من أسلوب طرح بليغريف، أن علاقة «الهيئة» مع السلطة لم تكن واضحة، وعلى رغم الدور الذي أداه من أجل قمع الهيئة وتحجيم دورها والرفض الحكومي لها، فإن حال عدم الاستقرار استمرت داخل المجتمع بسبب سياسات «الهيئة» وأساليب قياداتها، ولاسيما بعد اعتراف المقيم السياسي البريطاني بها، وحصولها على الشرعية. وهذا كله يكشف عدم وضوح الرؤية بالنسبة إلى الحاكم وبليغريف نفسه ودار المقيمية في البحرين. ويمكن تفسير ذلك بالمخاوف التي كانت تعتري بليغريف وقلقه من فقدان منصبه، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك.

نهاية هيئة الاتحاد

لا يشير الباكر إلى أسباب واضحة لنهاية هيئة الاتحاد الوطني، ولكن يلاحظ من خلال سياق حديثه أن المؤامرات كانت السبب الرئيس بالإضافة إلى عدة عوامل أخرى مثل الفجوة الكبير التي ظهرت بين القيادة والقواعد الشعبية بسبب طول انتظار القواعد لإنجازات «الهيئة»، وحال التذمر الشعبية، والخلافات بين قيادات «الهيئة» ونفورهم من العمل السياسي. وفي الوقت نفسه، فإن من الأسباب التي ذكرها، مشروعه الجديد بإعادة تشكيل «الهيئة» لتكون امتداداً للتنظيمات ا لقومية التقدمية المنتشرة في الوطن العربي.

من المفارقات أن بليغريف يتفق مع الباكر في الأسباب التي أدت إلى نهاية «الهيئة» ولكنه أشار إلى عودة النزاعات الطائفية داخل تنظيمها. ومع فقدان الثقة والعلاقة بين القيادة والقواعد فقد دفع ذلك المواطنين إلى أتباع أساليب التخريب والتدمير والحرق للمنشآت الخاصة والعامة كرفض للواقع الذي كانوا يعيشونه. ولكنه فصل خطة إنهاء «الهيئة» التي وضعتها حكومة لندن خلال أبريل/ نيسان 1956وباشرت تنفيذها بعد حوادث نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه ليغادر بعدها بليغريف البحرين ويتم اعتقال أبرز قيادات الهيئة ونفيهم إلى الخارج.

تلك كانت مقارنات موجزة عن أبرز الفروقات بين رؤيتي الباكر وبليغريف تجاه أهم القضايا في موضوع هيئة الاتحاد الوطني وهي من الصعوبة بمكان تحليلها ونقدها بإيجاز. ولكن يتضح من العرض السابق أن هناك فعلا حقائق غير واضحة وبحاجة إلى البحث والدراسة، كما أن هناك حوادث كثيرة تتشابه مع المتغيرات السياسية المحلية التي يشهدها النظام السياسي البحريني حالياً وهو ما يزيد من أهمية دراستها بهدف استخلاص الدروس والعبر.

من خلال المقارنة السابق يتضح أن الظروف والحوادث التي واكبت تأسيس هيئة الاتحاد الوطني لم تختلف عن الظروف التي يعيشها المجتمع البحريني اليوم على رغم التطور الكبير الذي طرأ عليه، وخصوصاً في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فمازالت مسألة الطائفية موجودة وكذلك المناطقية التي أطلق عليها الباكر اصطلاحاً (الإقليمية). ومعنى ذلك كله أن العوامل المؤثرة في التوزان الطائفي في المجتمع والتي ساهمت في تأسيس «الهيئة» مازالت باقية إلى اليوم.

ومع ذلك تبقى «الهيئة» تنظيماً وطنياً جمع مختلف فئات الشعب وطوائفه للعمل من أجل نيل مطالب إصلاحية محددة في مواجهة قوى الاستعمار البريطاني آنذاك. وإن كان بليغريف عارض قيامها وتحفظ على دورها المتنامي آنذاك من خلال الدور الذي لعبه كوسيط بين السلطة وحكومة الاستعمار البريطاني، إلا أنه أبدى تعاطفاً محدوداً للغاية مع «الهيئة» ومطالبها خلال تدوينه مذكراته لاحقاً.

وفي النهاية، فإن تاريخ هيئة الاتحاد الوطني شبه المعلوم قد آن أوان سبر أغواره ومعرفة الغامض منه. وهو اليوم بعد مرور نصف قرن كامل بحاجة إلى إنصاف تاريخي وطني من الدولة التي اعترفت بـ «الهيئة» في الماضي وتعاملت معها كأول تنظيم سياسي بحريني معترف به طبقاً للوثائق المتداولة. ويظل تاريخ «الهيئة» ملكا للوطن وليس ملكاً لمن أسسها، فهو جزء أصيل من التاريخ السياسي للبحرين يجب حفظه للأجيال المقبلة

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً