العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ

في الصحافة المدنية... الخبر صراع وسلطتنا تهبنا حق التجسس

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

«الخبر أشبه بالصراع، وما يسميه الصحافيون بالخبر إن لم ينته بالقارئ أن يفكر ويختار مع من سيقف في هذا الصراع، فهو كل شيء إلا ان يكون خبرا» إذا أدت الصحافة دورها بشكل مختلف، يؤدي الناس عملهم بشكل مختلف، والإبداع الذي تصنعه الصحافة، هو الحافز للإبداع المجتمعي، هكذا تعمل الصحافة المدنية. إن النماذج التقليدية للصحافة هي صحافة «التزلف»، القائمة على سيطرة المراكز العليا، التي طبعا هي المالك لخير الناس ومصلحتهم. إلا انها مصالح إعلانات لا اكثر ولا أقل.

الصحافة الباردة التي لا تمتلك سخونة الكشف والإثارة البريئة، الصحافة التي تفعل ما تؤمر، الصحافة التي تنتظر ما تتمخض عنه آراء السلطات الأخرى «سلطة الدولة»، «سلطة المجتمع» قد تكون أي نوع من انواع الصحافة إلا أنها ليست صحافة مدنية، وليست بالتأكيد سلطة رابعة أو خامسة. مفهوم السلطة الذي تتذرع به جميع فروع ومقومات السلطات الأخرى، يعيش حالاً من الخجل في السلطة الرابعة، لنا كإعلاميين وصحافيين حق التسلل والبحث والاستقصاء أو حتى ما اتفق على إنكاره، لنا حق التجسس.

«الصحافي الاستقصائي»، الصحافي المختبئ خلف شجرة، أو الذي ينتحل شخصية مختلقة، الذي يحاول معرفة السلوكيات الشخصية والأخلاقية لبعض المتنفذين، يصفه البعض بأن ما يقوم به هو انزياح من التغطية الإخبارية «مهمته الرئيسية» الى التدخل في خصوصيات الآخرين. إن الصحافة المدنية لا تقتصر على تزويد الناس بالاخبار، بل تحاول أن تقدم غرائب الأمور التي تحدث كل يوم، هي تحاول خلق التفاعل المجتمعي مع الحوادث، لذلك لها ان تلعب دور «حارس التوجيه» كما يصفها المدير التنفيذي لمركز «بيو» للصحافة المواطنية جان شايفر «المدنية».

الاستقصاء محاولة لتثبيت الحكم الديمقراطي، إنها الإجراء الذي يعطي الصحافة مفهوم السلطة الرابعة تحديدا. إنها آلية المراقبة لأداء المؤسسات والتوازنات الديمقراطية، كما تزيد الصحافة الاستقصائية من تثبيت الديمقراطية عبر اطلاع المواطنين ومعرفتهم بالمعلومات والتي هي عصب ومصدر حيوي لاتخاذ القرار الشعبي. تبقى اخلاقيات الاستقصاء ومدى تعارضها مع مفاهيم «الحرية الشخصية» محل اختلاف اخلاقي لا تشريعي، بمعنى أن الاستقصاء والكشف عن الغيبيات هو في الأساس من جوهر الصحافة المدنية، وتبقى حدوده محط اختلاف وتباين.

الصحافة المدنية تحاول الغور في أعماق المجتمع، إنها تساعده على التغلب على أحاسيس النقص والعجز التي تعتريه، تهدف الى تثقيف المجتمع بشأن المسائل والحوادث الجارية ليتمكن كل فرد من اتخاذ قراراته لمصلحته المدنية. في الصحافة المدنية نحن لا نسعى الى إخبار المواطن بالحدث، بل نريد من المواطن ان يفكر بالحدث وان يشترك فيه. إلا ان هذه الدعوة الى التفكير لا تتضمن التلقين للمشاهد او القارئ، بمعنى ألا تفرض عليه، كيف ومتى ولماذا يفكر؟

الصحافة المدنية تتسم بالعالمية، إنها تعطي الخبر والمقال والتحقيق صيغة الصراع، والصراع هو لغة السياسة والعالمية، لذلك إنها تنقل الخبر بمفهوم الانتصار والخسارة، تشكل الخبر بما هو تنازع بين سلطتين مهما كبر أو صغر حجمه. وصناعة الصراع تحتاج إلى الاستقصاء والبحث من وراء الجدران وما بين الأوراق المخبأة في بعض الأدراج.

الصحافة المدنية «الاستقصائية» تحاول الفصل بين سلطاتها، لذلك هي راغبة فعلا غب ألا تكون لتغطياتها الإخبارية أية علاقة بأقسامها الإعلانية والتسويقية، إذ ان الصحافة الكلاسيكية في الدول النامية تحركها الشركات الاقتصادية وتتحكم بتقاريرها الإخبارية، فإذا ما كانت مؤسسة اقتصادية ما تبتز حقوق الناس، وامسك احد الصحافيين بفضيحة ما تفضح ممارساتها الإجرامية بحق المجتمع، فإن مسئول الإعلانات سيحذر غرفة الأخبار من النشر، لانهم باختصار لن يتحصلوا على رواتبهم نهاية الشهر، إذ ان هذه المؤسسة هي المعلن الرئيسي لدى الصحيفة!

الصحافة المدنية لا تعلق الأمور برئيس التحرير، والتشريعات الإعلامية الحديثة في الدول ذات المجتمعات المدنية لا تحمي الصحافيين فقط، بل تمتد حمايتها لأصحاب المؤسسة الإعلامية ورؤساء التحرير. حرية الصحافيين ورؤساء التحرير هي ذاتها الحرية التي يمنحها رئيس التحرير لمعلن ما في مساحة اشتراها، ولو كان المضمون الإعلاني فارغا من وجهة نظر رئيس التحرير، فالحرية ليست بالضرورة راحة ومتعة للجميع.

إن الهدف من الصحافة المدنية والاستقصائية هو تكوين صورة إيجابية، سواء من المجتمع تجاه الصحافة، او من الصحافيين تجاه المجتمع، نريد ان تكون الصحافة هي مؤسسة تكوين لحلقات عمل مجتمعية مدنية في الممارسة الديمقراطية، نريدها ان تكون العنصر الفعال في رسم الإيجابيات لأفراد المجتمع لا اليأس والانعزال.

نريد من الصحافيين جهدا حقيقيا واخبارا معمقة تتفاعل إيجابيا مع المجتمع، نريد لهم ان يحطموا بعض المعتقدات القديمة التي ترجع بالمجتمع للوراء. نريد من الصحافيين أن يبدعوا بأنواع عدة من الأطروحات والكشوفات في مكاتبهم الإخبارية، صفحات جديدة، وظائف جديدة، أفكار جديدة، معايير جديدة. نريد من رؤساء التحرير مخاطرات وتداخلات جديدة.

الصحافة المدنية تمتلك الحلول لجميع مشكلات وسائل الإعلام العربية الكلاسيكية، كما ان الصحافة المدنية الاستقصائية هي إحدى مظاهر الخروج من صحافة ناقلة للخبر وراغبة في رسم المواقف المحددة المؤدلجة، الى صحافة الرأي العام الناتج عن تماحك ونقاش وتخالف ديمقراطي، وبالتأكيد عبر بعثرة بعض الأوراق المخبأة، وصعود بعض الشجيرات التي لا تؤدي الى الوقوع في التهلكة

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً