العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ

الأحوال الشخصية: وجهة نظر ضد التقنين

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

من حيث المبدأ، فإن تقنين الأحوال الشخصية ليس في الصالح العام من وجهة نظر العلماء، في حال توافرت بعض الشرائط التي سنعرض لها، وذلك لأن القاضي لا يستطيع مراعاة بعض الظروف التي تختلف من حالٍ إلى أخرى من خلال اطلاّعه على القضية وملابساتها، إذ إن التقنين يعني إما أبيض أو أسود، ولا يوجد منطقة فراغ يتحرك فيها القاضي لمراعاة تلك الجوانب والأبعاد.

ولكن هناك الكثير من النقاط التي تجعل من تقنين الأحوال الشخيصة مسألة يمكن تعقلها:

أولاً: إن الالتزام بقانون واحد يقلل من إمكان التلاعب وتحكم الأمزجة وخصوصاً في ظل انعدام وجود آلية مراقبة القضاة كما هو الحال في محاكمنا.

ثانياً: نتيجة ما يتسم به الكثير من المحامين من ضعف في مسألة الإلمام بأحكام الأسرة وأوجه الخلاف بين الفقهاء والمذاهب، فإنّ التقنين يسهّل مهمة المحامين عند الترافع، إذ يصعب على مثل هؤلاء المحامين الإلمام بالكثير من الأحكام الشرعية المختلفة فيما يتعلّق بالأسرة، وربما هذا سر آخر لتحمس الكثير منهم في الدفاع عن دعوات التقنين.

ثالثاً: القاضي في الشرع الإسلامي يجب أن يكون مجتهداً يحكم بما يوصله له اجتهاده، لذلك فهو يحّكم اجتهاده لينتقل من حكم إلى آخر في قضيتين متشابهتين وذلك مراعاةً لبعض الظروف. وبما أنّ الوضع الحالي لا يسمح بتوفير قضاة مجتهدين، وفي الوقت نفسه صعوبة توفير الآلية التى تراقب عمل القضاة لتضمن استمرار النزاهة في أحكامهم، لذلك فإنّ تقنين الأحوال الشخصية في ظل الوضع الحالي لا يخلو من مبررات.

تقنين الأحوال الشخصية عن طريق البرلمان

العلماء، من حيث المبدأ، يعترضون على تقنين الأحوال الشخصية لعدد من الاعتبارات، وهي في النتيجة أسباب تتعلق بحرية الحركة للقاضي ليقرر ويحكم واضعاً في اعتباره جوانب إنسانية معينة، وكذلك تنوع المرجعيات والتقليد وعدم غلق باب الاجتهاد. ولكن نتيجة لعدم توّفر قضاة مجتهدين، قبل العلماء صوغ الأحوال الشخصية في بنود تأخذ شكل المواد القانونية. ولكن المسألة المهمة عندهم رفض التقنين عن طريق مجلس النّواب.

ورفض العلماء لتدخل البرلمان في مسائل الأحوال الشخصية مبني على عدد من الأسس المنطقية المهمة، ومنها:

أولاً: البرلمان ليس هو المكان المناسب لتقنين أحكام الأحوال الشخصية، لان ذلك منوط بأهل الاختصاص من العلماء.

ثانياً: إقرار البرلمان لما يقدمه ويقرّه العلماء ليس مأخوذاً في الاعتبار، فإن ذلك يؤسس لمنعطف خطير، وهو أن يتم التلاعب في بنود هذه الأحكام مستقبلاً، فيحذف البرلمان بعض البنود ويقر أخرى، وكأن البرلمان قد أُعطيَ الحق في أن يجيز أحكام الشريعة ويمنعها.

ثالثاً: لا توجد ضمانات دستورية لعدم التلاعب مستقبلاً في قانون الأحوال الشخصية وبنوده، إذ إن «الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» وليست المصدر الوحيد أو الرئيسي للتشريع.

فقد جاء في الباب الأول من الدستور ما يأتي: مادة(2):

«دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية». ولطالما تشبث البعض بهذه المادة من الدستور باعتبارها ضمانة عدم تغيير الأحكام مستقبلاً بما يخالف الشريعة، وكأنهم لا يرون بقية القوانين المدنية كم هي مخالفة لأحكام الشريعة.

لقد تعمّد البعض غمز علماء الدين بزعمه أنهم سكتوا عن كل القوانين التي تحكم حياتنا، وعندما وصل الأمر لمسألة الأحوال الشخصية، ثارة ثائرتهم ونهضت حميتهم الدينية، وكأن هذا البعض يطعن في صدقية العلماء، وفي خلده أنّ المسألة معاداة لحقوق المرأة وغلق السبل أمام نيلها حقوقها بلا مسّوغ. هؤلاء الكتّاب ربما جهلوا أو تجاهلوا الفرق بين أحكام المعاملات وأحكام الأسرة.

أحكام المعاملات لا تتعدى في جلّها المسائل المادية المتبادلة بين المتعاقدين وغيرها من الامور ذات الصلة، أما أحكام الأسرة فهي من الأحكام التي ينبغي فيها الاحتياط، حتى قيل ما احتاط الشرع في شيء كمثل احتياطه في الفروج والأعراض. فمسائل الأحوال الشخصية من المسائل الاحتياطية التي لا ينبغي العبث أو التساهل فيها بأي حال، فهي تكاد تقارب أحكام العبادات من صلاة وصيام وحج.

وكما أنه لا يمكن القبول بأن يصّوت البرلمان على عدد ركعات الصلاة، كذلك لا يمكن قبول التصويت على الأحكام الاحتياطية في الشريعة كأحكام الأسرة.

البرلمان والتقنين... إشكالات أخرى

مما يزيد المسألة سوءاً، ويؤكد رأي الرافضين لتدخل السلطة التشريعية في أحكام الأسرة أمور عدة، ومنها:

أولاً: الرفض من حيث المبدأ لتدخل أية سلطة في خصوصيات أية طائفة من الطوائف الموجودة في هذا الوطن، والتي أقر الدستور والقانون شرعية وجودها، ومن أخص الخصوصيات مسألة الأسرة والزواج والطلاق والمواريث... الخ.

إن العالم يتحرك نحو حفظ حقوق الاقليات من هيمنة الأكثرية، فلا يمكن أن يصوت البرلمان على وجوب أن يعتنق الآخرون عقيدة معينة أو يلتزمون بأحكامٍ تمس خصوصياتهم، هذا فضلاً عن توافق غالبية الشعب مع رأي العلماء.

ثانياً: مع أن الإسلام يرفض أن يتدخل الشعب في تغيير أحكام الله الثابتة، فالحكم لله أولاً وأخيراً، إلا أن ما يزيد المعترضين رفضاً لتدخل البرلمان في مسألة تقنين الأحوال الشرعية، هي الإشكالات الدستورية، إذ تهيمن السلطة التنفيذية على كل السلطات كما هو معروف، وكذلك ضعف الأدوات التشريعية مع الاعتراف بوجود هامش من حيث المراقبة والمحاسبة، إلا أن هذين السببين يجعلان مستقبل السلطة التشريعية تحت رحمة السلطة التنفيذية، فلا توجد ضمانة لإمكان تحكم غالبية التوّجه الشعبي في القرارات التي يمكن أن تطبق عليها.

واقع بعض البلاد العربية

إن واقع بعض الدول العربية يظهر بجلاء أن المحافظة على أحكام الأحوال الشخصية لن يستمر وفق الشريعة مادامت المسألة تخضع لقرارات مجلس النواب، ولو بعد حين من الدهر، وهنا نستعرض بعض الأمثلة على ذلك.

في تونس ذات الحكم العلماني فرضت قانون أحوال شخصية يساوي بين الذكر والأنثى في الإرث ويمنع تعدد الزوجات، ويعاقب القانون عليها، بينما لا يعاقب على اتخاذ خليلات ما دام الأمر يتم بالتراضي!

وفي مصر تم حديثاً فرض قانون الخلع، وتنص المادة رقم 20 على أنه «إذا افتدت الزوجة نفسها، وخلعت زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية الشرعية، وردت عليه الصداق الذي دفعه لها، حكمت المحكمة بتطليقها منه طلقة بائنة، ويكون الحكم الصادر بالتطليق غير قابل للطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن».

وفي هذه المادة عدد من المخالفات للشريعة، ومنها عدم اعتبار التراضي بين الزوجين، فالخلع هنا يتم بإرادة أحد طرفي العقد - إذ إن الزواج يعتبر عقداً كبقية العقود من ناحية مبدئية - ويتوجب أن يتم فسخه برضا الطرفين.

ثم أي فوضى قد تحدث بقطع جميع الطرق التي يستأنف الحكم بها، وكم من النسوة يتسرعن في طلب الطلاق لأي سبب وعندما يحدث الطلاق يبدأ ألم الندم يسري في قلوبهن. ثم أين الفترة التي تتطلبها محاولات الصلح كما نصت على ذلك الشريعة السمحاء وغيرها من الأمور.

لقد صفقت النسوة العلمانيات في مصر لهذا القرار، لأنهن باختصار شديد يردن في نهاية المطاف فصل الدين عن الدولة وتجميد الإسلام على أرفف المكتبات ومتاحف التاريخ.

أما المغرب فقد جعل الوسيلة الوحيدة للطلاق عن طريق القاضي فقط، ورفع سن الزواج إلى 18 سنة، وغيرها من البنود المخالفة للشريعة.

إن التطليق يتم عن طريق الزوج في الحال الطبيعية، وقد تسن بعض البلدان قانوناً يلزم الزوج بتوكيل القاضي لهذا الشأن، أما أن يتم الطلاق عنوة وبلا مسوّغ سوى أن المرأة أرادت الطلاق، فإن زواجها من رجلٍ ثان لن يعتبر سوى زنا في هذه الحال، لأن هذا الطلاق باطل.

ثم إن من يحق له التصرف هو الحاكم الشرعي، أي القاضي المجتهد وليس القضاة الذين يفقدون الكفاءة الشرعية المتمثلة في الاجتهاد، مع أن ضعف كفاءة القضاة الشرعيين، هي الشمّاعة التي وضعت عليها المطالبات بالتقنين.

والغريب أن المطالبين بالتقنين يرتضون لمثل قاضٍ مدني أن يتحكم في مصير المرأة بصورة مطلقة، وكأنه معصوم عن احتمال استغلاله لظروفها وفرض الشروط عليها واستغلالها حتى يقوم بتطليقها. بل إن هذا ينطبق حتى على الرجل من حيث احتمال الاستغلال، فربما يكون هذا الرجل هو الضحية، وليست زوجته.

الغزو الثقافي عن طريق القانون

هل بدأت مرحلة أخرى من الغزو الثقافي، ولكن هذه المّرة تأتي من فوق؟

المقصود بذلك أن يتم الضغط على الحكومات العربية والإسلامية حتى توقع بعض الاتفاقات الدولية وتسن بعض القوانين والتشريعات التي تمهد مستقبلاً للتغيير الاجتماعي والثقافي.

والقبول المطلق بالعهود الدولية لحقوق الإنسان، يعني مثلاً القبول بوجود المنحرفين والشاذين جنسياً من الناحية الشرعية والقانونية، فهل يمكن قبول ذلك؟!

إننا نجد في مجتمعنا هذا ذوات التوجه العلماني يسعون بكل قوة وتنتظم صفوفهم في سبيل تبني بعض المعاهدات الدولية المتعلقة بما يسمى حقوق المرأة، وكثير من بنود هذه المعاهدات مليئة بما يخالف الشريعة ويمهد لإسقاط المجتمع في وحل الفحشاء عندما تقر الدولة وتشرّع حق المرأة - مثلاً - في الإجهاض من دون سبب شرعي، وحرية بناء علاقات مع الأفراد وحماية هذه «الحقوق» وغيرها بواسطة القانون.

كنت استمع لبرنامج بشأن الطفولة والمعاهدات الدولية في إذاعة لندن، جاء فيه أن من ضمن بعض تلك المعاهدات حق الطفل في الحرية الدينية والفكرية والوجدانية وحقه في تشكيل الجمعيات. هل تتناسب هذه المعاهدات التي يطلق عليها دولية مع معتقداتنا وقيمنا، ومثال على ذلك: يقول الحديث الشريف بخصوص الطفل «فإذا أتمّ سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمت عُلّم الوضوء وضرب عليه، وعُلّم الصلاة وضرب عليها».

فلو أن أطفالنا عرفوا أن هناك قانوناً يمنع إلزامهم، فهل هناك من عقل لدى هذا الطفل ليدرك أن أبويه يسعيان لصالحه؟

يقال إن الشاذ لا يخرم القاعدة، فكيف يتسنى قبول هذه الاتفاقات بسبب وجود قلة نسبية من الآباء من يهمل أبناءه ويعذّبهم.

لقد فرح الرئيس بوش بإقرار المغرب مدونة أحكام الأسرة في المغرب، وبعث بتهانيه القلبية. وقد تعلّمنا شيئاً مهماً في التعامل مع الغرب، وهو ان الغرب يمكن أن يسكت عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلداننا ويتغاضى عنها إذا قام الحكّام بتلبية مطالبهم في المسائل التي تتعلق بالمرأة والطفولة والعلاقات مع «إسرائيل»، فلماذا؟

وقفة مع دعاة تقنين المجلس

لن نعطي لأنفسنا حق الحكم على نيّات الآخرين من دعاة تقنين الأحوال الشخصية، ولكن لنستنطق مواقفهم وتصريحاتهم التي لا تخلو - مع شديد الأسف - من كيد وعدم مبالاة بالشريعة الإسلامية. فقد صرحت رئيسة لجنة العريضة النسائية - كما جاء في أحد أعداد «الوسط» - أن لديها تسجيلاً بصوت أحد القضاة الشرعيين يعرض على سيدة تسهيل تطليقها من زوجها بشرط الموافقة على الزواج المنقطع منه بعد الطلاق... هذه الحادثة لا تحتاج إلى تعليق.

لقد جعل هؤلاء المطالبون بالتقنين من الوضع الحالي في المحاكم الشرعية من تسيّب وضعف بعض القضاة، المحور الرئيسي للمطالبة بتقنين الأحوال الشخصية.

إنّ الريعة الإسلامية والعلماء الأفاضل ليسوا مسئولين عن تجاوزات بعض القضاة في المحاكم الشرعية وضعف كفاءتهم العلمية وقلة نزاهتهم، فمن يقوم بتعيين مثل هؤلاء هو المسئول عن ذلك، فكيف تقوم جهات معينة في السلطة بهذه التعيينات ثم يحّمل العلماء والشريعة الإسلامية نتائج أعمالهم وضعف أدائهم؟

وهل ننسى الشعار الذي رفعته أولئك النسوة عندما دخلت مسيرة طالبات الحوزة العلمية لفناء المحكمة رافعين شعار نعم للأحكام الشرعية؟ لقد رفعت المطالبات بالتقنين والمعتصمات بفناء المحكمة شعار (لا للأحكام الشرعية)! هذا الشعار الذي يجب أن يسقط آخر ورقة توت تستر حقيقة هذه المطالبات. وتتعدى الأهداف مجرد التقنين، إلى السعي نحو توحيد قانون الأحوال الشخصية، ففي مقابلة (لا اذكر تاريخها) مع رئيسة لجنة العريضة مع إذاعة لندن، قالت إنّ من أهداف حركتهن المطالبة بتقنين وتوحيد الأحوال الشخصية. انظر ليس فقط تقنين، بل توحيد تلك الأحكام، ولماذا؟ تقول بما مضمونه إن توحيد الأحكام يوّحد الأخت الشيعية مع السنية ويقرب بين الطائفتين. فهل هذا منطق؟! أو ليست القوانين المدنية الأخرى واحدة، فهل قامت بدور لتقريب القلوب؟! هل التقريب لا يكون إلاّ بإجبار فئة لاتباع أحكام فئة أخرى، وتبني ورقة مسقط مثلاً؟

إن القانون يقوم بدوره على استتباب الأمن وحفظ النظام فقط والضرب على يد شواذ المجتمع، وأما الدور الأكبر فهو منوط بالتربية في البيت والمدرسة والشارع.

ثم إن التقنين في حد ذاته لا يعني أبداً رجوع الحق لنصابه وحصول كل ذي حق على حقه، وإلاّ فالظلامات التي تحدث في المحاكم المدنية في كثير من الأحيان لا تقل عن أخواتها في المحاكم الشرعية، أو ليست القوانين المدنية مكتوبة؟

والغريب أن من بين الشخصيات الداعمة لمسألة التقنين، وعن طريق المجلس الوطني، شخصيات ليبرالية، وهذه الشخصيات رفضت الدخول في الانتخابات النيابية، بدعوى عدم اعترافها بالتغييرات الدستورية وتطعن في شرعية البرلمان وشرعية قراراته. كل ما سبق يدل على أن المسألة ليست مسألة تقنين وكفى، ولكن وراء الأكمة ما وراءها

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً