العدد 836 - الأحد 19 ديسمبر 2004م الموافق 07 ذي القعدة 1425هـ

مجلس التعاون: من الهاجس الأمني إلى الهوية المشتركة

ضمن إطار العلاقات الدولية يعد مجلس التعاون الخليجي منظمة إقليمية تسعى لتحقيق التعاون بين الدول الأعضاء فيها، ولكن ما يميز هذه المنظمة أنها تتميز بدرجة عالية من التأثر والحساسية بالأوضاع الإقليمية التي تشهدها منطقة الخليج العربي، ومن أبرز العوامل المؤثرة في صوغ قراراتها وسياساتها المختلفة ما تشهده المنطقة من تغيّر مستمر في حال الاستقرار السياسي. ولذلك يمكن النظر إلى مجلس التعاون بأنه مشروع بدأ كمنظومة أمنية - دفاعية، ثم تطور بعد ذلك ليكون مشروعاً سياسياً - اقتصادياً، ثم أصبح مشروعا محدد التوجه بتحقيق التكامل الاقتصادي الإقليمي، وآخر هذه المشروعات هو البحث عن هوّية مشتركة وفق مفهوم المواطنة الخليجية.

وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن النظر إلى العوامل التي دفعت نحو تأسيس مجلس التعاون الخليجي منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي عندما انسحب الاستعمار البريطاني من المنطقة خلال العام ، إذ أدى هذا الانسحاب إلى إحداث فراغ سياسي وأمني في المنطقة كان النفوذ البريطاني يشغلهما لما يزيد على قرن كامل ونيف. ووجدت بلدان الخليج (السعودية والبحرين والكويت والإمارات وقطر وعمان) نفسها أمام تحديات خطيرة بسبب التنافس بين قوتين إقليميتين هما العراق وإيران الشاه وسط صراع دولي قوي للسيطرة على المنطقة كان نتاجاً للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.

تلك الظروف الأمنية دعت بلدان المنطقة إلى البحث عن بدائل لتحقيق الأمن الذاتي وهو ما جعلها تتجه نحو تطوير قدراتها العسكرية الدفاعية وما ساعدها في ذلك العوائد المالية الضخمة التي أصبحت لديها جراء الطفرة النفطية بداية السبعينات. إلا أنه يبدو أن مثل هذا التوجه لم يكن كافيا لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية. الأمر الذي دفع ولي عهد الكويت ورئيس الوزراء آنذاك الشيخ جابر الأحمد الصباح إلى زيارة أبوظبي في السادس عشر من مايو/ آيار ، وبعد محادثات مطولة مع رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة صدر بيان مشترك دعا إلى تشكيل لجنة وزارية مشتركة يرأسها وزيرا خارجية البلدين وتجتمع مرتين كل سنة على الأقل.

وبعد عام كامل دعا ولي عهد الكويت حينها إلى «إنشاء وحدة خليجية بهدف تحقيق التعاون في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والإعلامية، وإيجاد نوع من الوحدة القائمة على أسس سليمة ومتينة لمصلحة شعوب هذه المنطقة واستقرارها». بعدها بدأت الدبلوماسية الكويتية تلعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر والتشاور بين دول المنطقة من أجل الوصول إلى شكل من أشكال الوحدة الخليجية بين هذه البلدان، وجاء ذلك عقب سلسلة الزيارات التي قام بها الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح خلال ديسمبر/ كانون الأول لكل من السعودية والبحرين وقطر والإمارات وعمان.


عقد أول قمة

ومع انعقاد مؤتمر القمة العربي الحادي عشر في العاصمة الأردنية (عمّان) في نوفمبر/ تشرين الثاني أطلع أمير الكويت قادة دول الخليج على مرئيات بلاده لاستراتيجية خليجية مشتركة للتعاون في مختلف المجالات. بعدها وخلال مؤتمر القمة الإسلامي في مدينة الطائف في يناير/ كانون الثاني عقدت أول قمة خليجية على هامش هذا المؤتمر لتظهر إلى الوجود فكرة إنشاء مجلس التعاون. وقد كانت هناك ثلاثة مشروعات لإقامة المجلس رصدها بالتحليل الباحث الإماراتي نايف علي عبيد في دراسة مهمة قدمها إلى جامعة بلغراد، وهذه المشروعات قدمت من الكويت والسعودية وسلطنة عمان.

وقد اعتبر المشروع الكويتي الأساس لإقامة مجلس التعاون الخليجي، إذ تجنب تناول الجوانب العسكرية والأمنية التي ركز عليها المشروع السعودي الذي سيأتي ذكره لاحقا، وطالب بتحقيق أكبر درجة من التعاون المشترك في المجالات الاقتصادية والنفطية والصناعية والثقافية بما يؤدي في النهاية إلى إقامة اتحاد إقليمي بين دول الخليج.

أما المشروع السعودي فقد قام على إنشاء منظمة خليجية، ودعا لتوحيد مصادر السلاح لدول الخليج، كما طالب بإقامة تعاون أوسع بين قوات الأمن الداخلي في الدول المعنية بدلاً من إنشاء حلف عسكري، وقد استبعد المشروع أية تحالفات عسكرية مع الدول الأجنبية. وطالب أيضا بإشراك القوات المسلحة النظامية في تأكيد سيادة كل دولة، وتسهيل المحافظة على القانون والنظام الداخلي فيها، وتشجيع دول الخليج على تحقيق الاستقلال الذاتي العسكري.

في حين ركز المشروع العماني على عنصري الأمن والتعاون العسكري بوصفهما نقطة انطلاق مجلس التعاون الخليجي الجديد، ودعا إلى إنشاء قوة بحرية مشتركة لحماية مضيق هرمز والدفاع عنه لأهميته الاستراتيجية.

وعقب أول اجتماع لقادة دول الخليج في الطائف عقد وزراء خارجية هذه البلدان سلسلة من الاجتماعات بدأت في فبراير/ شباط ، بالإضافة إلى اجتماعات أخرى للخبراء إلى أن تم الإعلان عن تأسيس مجلس التعاون في قمة أبوظبي التي عقدت في الخامس والعشرين خلال مايو من العام نفسه.

بذلك تكون نشأة مجلس التعاون قائمة على عوامل أمنية ودفاعية أكثر من أية عوامل أخرى، وما يفسر ذلك الظروف الإقليمية التي مرّت بها منطقة الخليج، إذ أدى انقلاب صدام حسين على الرئيس العراقي الأسبق أحمد البكر في يوليو/ تموز إلى تغيّر السياسة الخارجية العراقية وتوجهها نحو التوسع والنفوذ الإقليمي. كما أدى سقوط نظام الشاه السابق في إيران وقيام الثورة الإسلامية خلال فبراير من العام إلى تبني إيران سياسة خارجية راديكالية مع تبني مبدأ تصدير الثورة إلى الخارج، وشهدت السعودية حالاً من عدم الاستقرار السياسي والأمني جرّاء حوادث الحرم المكي في نوفمبر من العام نفسه، ثم اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية بتداعياتها المختلفة.


وجود الأساطيل العسكرية

ويمكن ملاحظة حجم تفاعل بلدان المجلس مع الظروف الإقليمية بإعلانها رفضها وجود الأساطيل العسكرية والقواعد الأجنبية في منطقة الخليج خلال اجتماعات القمة الأولى في أبوظبي والثانية في الرياض، إلا أنها جاءت في اجتماع القمة الثالثة الذي استضافته المنامة خلال نوفمبر ولم تشر إلى هذا الرفض الذي كانت تجدده كل مرة. وبذلك استمر الهاجس الأمني والدفاعي مسيطرا على مجلس التعاون إلى نهاية حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت عندما اعتمدت بلدان المجلس في تحقيق أمنها الإقليمي على التحالف مع الغرب والولايات المتحدة تحديداً، وعلى تكوين تحالفات عربية هامشية مثل تحالف إعلان دمشق الذي يضم بالإضافة إلى دول المجلس كلاً من مصر وسورية. وهو ما عكس تراجع مجلس التعاون عن فكرة تحقيق الأمن الجماعي لصالح تحقيق الأمن الذاتي.

كما أن هذا التوجه والاعتماد على التحالفات الدولية والسماح بوجود الأساطيل العسكرية والقواعد الأجنبية في المنطقة كلف بلدان المجلس الكثير، واستنزف من موازناتها مبالغ ضخمة، ما دفعها للتفكير جديا في إيجاد بدائل وتحديد توجه جديد للمجلس وهو ما جاء في صيغة الشروع في تحقيق تكامل اقتصادي بدأت مع قيام المجلس إلا أن التوجه الجديد ظهر في الرغبة بإنشاء وحدة اقتصادية فاعلة على غرار الوحدة الاقتصادية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي. ومن هنا بدأت جهود دول المجلس في إقرار إنشاء اتحاد جمركي خليجي بحلول يناير ، ليتم بعد ذلك إنشاء السوق الخليجية المشتركة بحلول العام ، على أن يعقب ذلك إنشاء وحدة نقدية بين دول مجلس التعاون وطرح عملة خليجية موحدة في العام .

إلا أن هذا التوجه ارتبط أيضا بالظروف التي ترتبت على حال الاستقرار النسبي الذي شهدته منطقة الخليج بعد فرض الحصار الدولي السابق على العراق ووجود القوات العسكرية الأجنبية في المنطقة. وهو يواجه في الوقت الراهن الكثير من التحديات بسبب ضرورة توحيد الأنظمة والإجراءات الاقتصادية المختلفة في بلدان المجلس، وزيادة حجم التنسيق السياسي بالنسبة للعلاقات الاقتصادية مع التكتلات الدولية والإقليمية خصوصا مع مساعي الولايات المتحدة لإنشاء منطقة تجارة حرة كبرى في منطقة الشرق الأوسط وسعيها لتوقيع اتفاقات ثنائية.


تعزيز المواطنة

بالإضافة إلى ذلك فإن التوجه نحو التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون قد رافقه توجه آخر لتعزيز مفهوم المواطنة الخليجية المشتركة، وهو توجه جاء متأخرا حسب بعض المراقبين بعد أن خلقت التوجهات السابقة للمجلس إحباطات وآثارا سلبية لدى شعوب الدول الأعضاء بسبب عدم قدرته على تحقيق تطلعاتهم في تشكيل كيان فيدرالي أو كونفيدرالي بهوية مشتركة. وقد ظهر اهتمام المجلس بتعزيز مفهوم المواطنة الخليجية المشتركة بشكل لافت في قمة مسقط نهاية العام بعد أن وافق المجلس الأعلى في قمة المنامة على السماح لمواطني دول المجلس الطبيعيين والاعتباريين بممارسة جميع الأنشطة الاقتصادية والمهن سوى عدد محدد منها تم قصرها مرحليا على مواطني الدولة نفسها، كما وافق في القمة نفسها على توسيع نطاق ممارسة تجارة التجزئة لمواطني دول المجلس في الدول الأعضاء الأخرى باعتماد (القواعد المعدلة لممارسة مواطني دول المجلس لتجارة التجزئة). إلا أن من أهم الإجراءات التي اتخذت بهدف تعزيز مفهوم المواطنة الخليجية تعميم تنقل المواطنين من الدول الأعضاء بالبطاقة الشخصية في أقرب وقت، ودراسة توحيد بيانات جوازات السفر للدول الأعضاء وأقرته قمة الكويت خلال العام .

وبذلك يكون مجلس التعاون الخليجي قد تأسس انطلاقا من الهواجس الأمنية لدول الخليج بمشروع دفاعي، ثم بدأ بالتفكير في تحقيق التكامل الاقتصادي إلى أن وصل إلى مرحلة تعزيز الهوية الخليجية المشتركة وفق مفهوم المواطنة. ومن أهم العوامل التي ساهمت في تغيير توجهات المجلس باستمرار الظروف الإقليمية والأمنية التي تمر بها منطقة الخليج. وعليه فإن الأوضاع الراهنة في المنطقة بعد احتلال العراق من قبل التحالف الأميركي - البريطاني تخلق تحديا جديدا لمجلس التعاون الخليجي ربما يدفعه من جديد إلى البحث عن توجه آخر بخلاف السابق

العدد 836 - الأحد 19 ديسمبر 2004م الموافق 07 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً